في عام 1990 ترك مهندس الالكترونيات Bob Colwell شركته القديمة خلفه، كانت تخسر ولم تمر بأي لحظة نجاح كبيرة، فتركها والتحق بشركة Intel وهو يعلم تمام العلم انه يخاطر بمستقبله .. مخاطرة تصل الي حد المقامرة!

أجواء الوسط التقني والمناخ العام كلها كانت ضد قراره هذا، وحتي أصحابه انتقدوه بشدة، متعجبين من انضمامه الي شركة تعتمد علي تقنيات بائدة وعتيقة وعلي وشك أن تٌكتسح بتقنيات أعلي منها مقاما وحداثة (علي حد قولهم) .. لقد قال له زملاؤه "أنت تنتقل من شركة فاشلة الي شركة مصيرها الهلاك و تعمل علي مشاريع هالكة! ماذا تفعل بنفسك؟!"

وعلي الخلاف من توقاعاتهم .. ترقي Bob في المناصب لدي Intel حتي صار رئيس فريق تطوير معالج Pentium، وهو المعالج الذي كان ثمرة انتاج Intel طوال سنين عديدة.

وغزي Bob بمشروعه العالم كله، وغزت شركته البنية التحتية لكوكب الأرض كله بما في ذلك الشبكة الدولية Internet والحواسيب الخارقة Super Computers وحواسيب المحترفين Professional و المستهلكين Consumers.

وعلي الرغم من ان Bob خالف كل توقعات زملاؤه، الا ان الحقيقة أن زملاؤه لا يزال لديهم الكثير من الحق، فحتي هذه اللحظة، فانه ومن الناحية الهندسية البحتة فان Intel هي شركة هالكة بالمعني الحرفي للكلمة، هي كالغريق الذي يشق امواج البحر المتلاطمة بسيف طويل حاد .. ربما ينجح في تأخير هلاكه لبعض الوقت، لكن النهاية تلوح في الأفق في كل لحظة .. الحقيقة أن تصميم معالجات Intel ليس هو الأفضل ولا الأقوي، بل هو الأسوأ والأقدم من بين التصاميم المعاصرة.

ان تصميم معالجات Intel يعتمد علي اساس منطقي وحيد، مجموعة تعليمات تسمي X86، وهي تعليمات صممتها Intel، تتلخص فلسفتها في تقليل عبأ البرمجة علي المطور الي الحد الأدنى. فبدلا من ان يكتب المطور كل سطر في برنامجه بنفسه، ستسهل عليه تعليمات X86 الامر وتجبره علي كتابة ربع عدد السطور المطلوب فقط، وتتولي هي تنفيذ باقي البرنامج بنفسها بشكل آلي.

Intel X86

بمعني آخر فإن Intel تصمم معالجاتها، بحيث تتولي مساعده المطور في تنفيذ اوامره، فتحوي معالجات Intel وحدات مساعدة تتولي توليد وانجاز الأوامر نيابة عن المطور، هي بالطبع وحدات تشغل مساحة علي المعالج وتستهلك طاقة اضافية، لكنها توفر في مجهود المطور، وتوفر في مساحة البرنامج نفسها علي وحدات التخزين. فٌربع عدد سطور البرنامج فقط يعني أنه يشغل مساحة تخزينية أقل.

فضلا عن ذلك، زادت تلك الوحدات المساعدة من تعقيد تركيب وتصميم المعالج، لقد نزعت Intel الكثير من تعقيد كتابة البرامج واستبدلته بتعقيد تصميم المعالج، وهو الامر الذي كان ضروريا، فمن سيتحمل اعباء تعقيد كتابة البرامج الا معالج معقد التركيب يستطيع تغطية الكثير من الاحتمالات؟!

وهي نتيجة رأت Intel انها تستحق، وتساهم في انتشار معالجاتها اكثر واكثر في اوساط المطورين. وقد حدث هذا بالفعل، فنظام تشغيل Windows الوليد اعتمد علي تعليمات X86 في تصميمه، وساهم هذا في انتشار X86 اكثر واكثر مع شهرة Windows الطاغية.

وفوق كل ذلك كانت التوافقية الرجعية Backward Compatibility مع ماسبق من معالجات وبرمجيات محل قوة لدي Intel، فالوحدات المساعدة في معالجات Intel الجديدة كانت تصمم بحيث لا تخل بما سبقها من برمجيات وأنظمة تشغيل، ولقد كان هذا يزيد أكثر في حجم تلك الوحدات وفي استهلاكها للطاقة، لكن هذا لم يفت في عضد Intel، التي رأت ان راحة المستخدم والمبرمج هي الأولوية القصوي.

لقد كانت Intel تتحمل أعباء المطور نيابة عنه في تصميمها للمعالجات، وتدفع ثمن هذا من استهلاك المعالج للطاقة ومن تعقيد تركيبه وضخامة حجمه. وبالتالي من تكلفة انتاج المعالج كلها، التي كانت مرتفعة بطبيعة الحال. وفي حين كانت الشركة تصارع طواحين الهواء وتحاول جعل هذا التصميم الاقوي علي الساحة .. تغيرت خريطة المنافسة بغتة.

لقد صعد الي السطح في ذلك الحين منافسون جدد .. يعتمدون مبدأ مغايرا لفلسفة Intel. فبدلا من التركيز علي راحة المطور والتضحية باستهلاك الطاقة وتعقيد المعالج. راي هؤلاء ان زمن تدليل المطور قد ولي، وان اوان التركيز علي تبسيط تصميم المعالج وتقليل استهلاكه للطاقة قد حان!

لقد قرر هؤلاء تصميم معالجاتهم دون اية وحدات مساعدة، ونقل عبأ كتابة البرامج من جديد الي المطور، الذي سيقوم باداء كل شئ يدويا هذه المرة. كانت فلسفة هذا المسعي هي انتاج معالجات منخفضة التكلفة، صغيرة الحجم، وذات استهلاك صغير للطاقة، مهما كلف الامر .. لماذا يجب علي المطور ان يرتاح بينما يتعب مصممو المعالجات؟

لقد قرر هؤلاء المنافسون صنع معالجات دون وحدات مساعدة، مع توابع هذا الامر التي ستشمل زيادة عدد سطور البرنامج، وتضخم حجمه و ازدياد وقت تطويره، لكننا سنحصل علي معالج دون وحدات زائدة، تضيع مساحة وطاقة المعالج، سنحصل علي معالج به مساحة شاغرة يمكن استغلالها في اضافة وحدات معالجة اكثر وفي زيادة اداء المعالج .. سنحصل علي معالج باستهلاك طاقة قليل يمكن استغلاله في رفع تردد المعالج الي مستويات كبيرة دون الخوف من الحراره. سنستغني عن التوافقية الرجعية مع البرمجيات ونضع مكانها وحدات معالجة أقوي وأكثر.

باختصار لقد اختار هؤلاء المصنعون الجدد التضحية بسهولة التطوير في مقابل بناء معالجات اقوي.

يشبه الامر المقارنة بين سيارة ذات ناقل حركة الي Automatic واخري ذات ناقل حركة يدوي Manual، السيارة الالية مريحة وسريعة ومقعدة التصنيع اكثر بسبب الناقل الالي، لكن السيارة اليدوية يمكنها العمل بشكل أفضل اذا ما كان سائقها محترفا يستطيع تغيير ناقل الحركة في الوقت المناسب دون تأخير .. سيحتاج مجهودا اعلي لكنه سيقوم بذلك مع سيارة اقل تعقيدا في الصنع.

وهو ما نلحظه في سيارات السباقات والتي ياتي أغلبها بناقل حركة يدوي، فهو الافضل علي مستوي تقليل وزن السيارة وتوقيت تغيير الناقل، حتي ولو احتاج الي تركيز اعلي من قائد السيارة.

وهذا هو قلب فلسفة المنافسين الجدد، اجبار المطور علي بذل مجهود اعلي في تصميم برنامجه، مقابل الوعد بانه سيحصل علي معالج اقوي باداء اقوي. ولقد مثلت هذه الفكرة ثورة في عالم الحاسب في ذلك الوقت، وبرزت المعماريات القائمة علي تلك الفلسفة بكثرة، وكان اشهرها معمارية ARM من شركة ARM، ومعمارية SPARC من شركة Sun، ومعمارية MIPS من شركة MIPS، ومعمارية PowerPC من شركة IBM.

وجاءت كل تلك المعماريات باداء قوي للغاية، فاق أفضل ما لدي Intel، واحدث صدورها صدي مدوي في أرجاء عالم الحاسب وزاد من حماسة المطورين والمهندسين في كل مكان، لقد برز الي الوجود مفهوم جديد ثوري! وسمي هذا المفهوم باسم طاقم تعليمات المعالج المخفض Reduced Instruction Set Computer، أو RISC اختصارا.

وكتوابع فورية لهذه التطورات؛ اصبحت فلسفة Intel للمعالجات قديمة علي نحو مباغت، واصبحت معالجاتها ضخمة ومقعدة بلا داع. واصبحت تستهلك طاقة كبيرة بلا داع.

ومن هنا نفهم منطق تعليقات زملاء Bob، لقد رأوه ينضم الي Intel في وقت هي في اضعف حالاتها التقنية، في وقت كانت فيه فلسفة وجودها نفسه علي المحك. راوا منه وذلك وتعجبوا .. ولاموه علي خياره الغريب.

في ذلك الوقت ارتضي غالبية المطورون والمبرمجون بدفع فاتورة عبا التطوير الزائد، اذا كان ذلك يعني حصولهم علي معالجات باداء اعلي. وسرعان ما بدأ منافسو Intel في اختراق كل ما طالته أيديهم من مجالات حوسبية، أصبحت معالجات هؤلاء المنافسين في كل مكان، في الحواسيب الخارقة Super Computers و في محطات الحوسبة Work Station و خوادم الشبكة الدولية Internet. حتي حواسيب Apple الشخصية جاءت بمعالجات بمعمارية PowerPC من IBM.

لقد اسقط في يد Intel حينها حقا وهي تري المنافسون يخرجون بافكار تنسف فكرة وجودها من الاساس. ويربحون بها التعاقدات الضخمة مع كبري شركات التقنية. لقد كانت Intel علي وشك الانسحاق حرفيا حينها. لقد أدركت الشركة حينها أن اوان التصرف قد حان وانه لابد من اتخاذ خطوات جذرية جريئة قبل ان تفوتها الفرصة. وقبل أن يصير منافسوها في مرحلة متقدمة للغاية من التفوق التقني.

ولقد بدأت الشركة هذه الخطوات بتقليد منافسيها! وكما تقول المقولة القديمة: فاذا لم تستطع هزيمتهم انضم اليهم! ستصمم Intel معالجاتها بطريقة بسيطة ايضا وستنزع منها الوحدات المساعدة، وتبني معالجا غير معقد مثل منافسيها تماما! لكن Intel لن تستغني عن نقاط تفوقها القديمة، لن تهجر سهولة التطوير ولا التوافقية الرجعية Backward Compatibility علي معالجاتها.

ستضع Intel في معالجها البسيط الجديد، معالج ثانوي آخر صغير Microcode تكون مهمته تدبير تشغيل وتسيير الأوامر والبيانات علي المعالج الأكبر دون تدخل من المطور أو المبرمج! باختصار ستكون مهمة المعالج الثانوي هي تحمل عبا البرمجة عن المطور، مثلما كانت الوحدات المساعدة تفعل فيما سبق! وسيتولي أيضا مسئولية توزيع الأوامر بحيث يحافظ علي التوافقية الرجعية Backward Compatibility مع ما سبق من برمجيات وتطبيقات.

وقد يسأل سائل ما الفرق هنا اذن؟ الفارق هذه المرة أن جهود Intel ستتركز علي بناء أفضل معالج بسيط يمكنها بناؤه، وستضع فيه أكبر عدد من وحدات المعالجة، لكنها ستضعه جنبا الي جنب مع معالج صغير آخر يتولي أحمال البرمجة. وبذلك ستقسم Intel عملية بناء المعالج الي شقين رئيسيين منفصلين، يمكنها تحسين أيا منهما علي حدة.

بالطبع، سيزيد هذا المعالج الثانوي من كلفة انتاج المعالج وسيزيد من استهلاكه للطاقة، لكنها كلها أشياء رأت Intel أنها ضرورية للحفاظ علي راحة المبرمج وراحة المستخدم وهي مزايا لم تكن Intel مستعدة للتخلي عنها.

وبسبب رفع المعالج الثانوي لاستهلاك الطاقة والتكلفة، فان استراتيجية المعالج الثانوي لا تعد كافية وحدها، فهولا يزال يقلل من تنافسية Intel أمام المنافسين الذين لا تهمهم أي اعتبارات برمجية، ولا يدفعون فاتورة تسهيل البرمجة، لذا فكان علي Intel العمل علي كافة الأصعدة لتعظيم نقاط تفوقها وتقليل فاتورة المعالج الثانوي.

عملت Intel بكل جهدها علي صعيد جديد، صعيد الابتكار في بنية المعالج نفسها، صممت Intel معالجها البسيط الجديد بأساليب غير تقليدية للمعالجة، أساليب تتوقع البيانات التي سيطلبها المستخدم Prediction وتعالجها قبل أن يطلبها Speculative Execution كي تزيد من سرعة الاستجابة للمستخدم، وأساليب أخري ترتب البيانات من الأبسط للأعقد حتي تنتهي من الأبسط بسرعة Out Of Order فتزيد من سرعة الاستجابة، وأساليب أخري تستعمل مسارات ثانوية للبيانات Hyper Threading كي تتجاوز نقاط الاختناق، ولقد ساعد Intel في كل ذلك وجود المعالج الثانوي المساعد!

ثم لم تكتف Intel بذلك، بل استغلت سنين التفوق التي تنعمت بها، والأموال الغزيرة التي بجعبتها في تطوير دقات تصنيع Manufacturing Process جديدة علي نحو متسارع، لقد رغبت Intel في أن تكون الشركة الأولي دوما في صنع دوائر كهربية transistors أصغر وأصغر، فكلما صغر حجم الدائرة قل استهلاكها للطاقة وقل خرجها الحراري، وزاد تردد تشغيلها، مما يعني أداء أعلي للمعالج.

10nm

ونتيجة لهذا التركيز علي تطوير دقات التصنيع، ٍسبقت Intel منافسوها دوما في صغر احجام الدوائر الكهربية، ومكنها هذا من تعويض فارق استهلاك الطاقة وحجم نواة المعالج بينها وبين منافسوها، الذين تخبطوا بمعالجاتهم علي دقات تصنيع قديمة وذات دوائر كهربية كبيرة الحجم.

لقد استعملت Intel كل ما في جعبتها من أسلحة وأوراق وحلول وأموال في جعل معالجاتها الجديدة مسخا هجينا من التقنيات والأساليب الهندسية الغير تقليدية، بما يضمن لها اكتساح منافسوها والتفوق عليهم.

وهو ما حدث بالفعل، لقد تقهقر منافسو Intel بسرعة عنها، فلا هم يستطيعون اللحاق بها علي دقات التصنيع الجديدة المكلفة، ولا يهم يستطيعون اللحاق بها علي مستوي سهولة البرمجة والتوافقية الرجعية، ففي الوقت الذي يتم تطوير برنامج واحد عند منافسو Intel، فان Intel نفسها يكون لديها عدة أضعاف هذا البرنامج بفضل سهولة التطوير لمعالجاتها .. لقد كان الوقت اللازم لتطوير برمجيات تستغل المعالجات المنافسة لـ Intel طويلا الي درجة أن Intel نفسها كانت تصنع معالجات جديدة تزيد من فارق الأداء بينها وبين المنافسين في نفس المدة الزمنية!

وفي الوقت الذي كان فيه منافسو Intel يتخبطون في دعم معالجاتهم القديمة والجديدة ذات المعماريات المختلفة في آن واحد ويحتارون في تركيز جل الدعم علي أي منهم، فان Intel كانت تتمتع بميزة الاتساقية في التوافقية المستقبلية والرجعية والحالية! فكل معالجاتها تدعم كل ما سبق من برمجيات بشكل تلقائي ودون تدخل من أي مستخدم أو مبرمج! وفوق كل هذا كانت تطبيقات X86 اصغر حجما وأكثر عددا.

وقد أعطي هذا لـ Intel مزية تفوق هائلة في البرمجيات! لقد انكب المطورون من كل حدب وصوب علي معمارية X86 لهذه الأغراض بالتحديد! لقد اختار مطورو نظام تشغيل DOS و Windows معمارية X86 كي تعمل انظمة التشغيل عليها بشكل حصري دون أي معمارية أخري لهذا السبب تحديدا!

لقد كان استثمار Intel في التطبيقات والبرمجيات هائلا، وهو ما أعطي للشركة السلاح الذي قضي علي منافسيها بالضربة القاضية، الضربة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير! فعلي الرغم من أن المنافسون ظلوا يتمتعون باستهلاك طاقة أقل من Intel، الا إنهم خسروا كل الخصائص الأخري، فلم يعد لديهم الأداء الأقوي، ولا بساطة التصميم، ولا سهولة البرمجة ولا دعم البرمجيات المنتشر، ولا أي شئ!

لقد اعتلتهم Intel جميعا، بدقات التصنيع الجديدة، وبأساليب التصميم الغير تقليدية المبتكرة، وبسهولة البرمجة وبانتشار البرمجيات الخاصة بها. ولقد أسفر هذا كله عن انحسار جميع المنافسين، واكتساح Intel بمعمارية X86 للجميع. ولقد توج هذا الاكتساح بتسليم شركة Apple للراية، وتحولها من معمارية PowerPC الي X86. وسارت Intel ومعها X86 في طريق القمة بلا عائق.

ومنذ ذلك الحين، وحتي هذه اللحظة، فلقد حكمت معمارية X86 عالم الحوسبة كله. الحواسيب الخارقة Super Computers و الخوادم Servers ومراكز البيانات Data Centers والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence والحواسيب الشخصية PCs والمحمولة وحتي اجهزة الالعاب المنزلية Home Consoles. لقد كان تفوقها شبه تام. لقد أفلس أغلب الخصوم وتواري الباقي الي جحور يتجرعون مرارة الهزيمة فيها.

اللون الأزرق يمثل معمارية X86 وهو في تصاعد مستمر منذ 2005، حتي صار اللون الغالب ..

لكن الدائرة عادة ما تدور، والتاريخ يكرر نفسه من جديد،  فبعد مرور كل هذا، واذا كنا نتحدث عن التفوق التقني، وتنفيذ الأمور كما يجب أن تكون، بشكل مثالي وعلي أكمل وجه، فاننا يجب أن نقر بهذه الحقيقة: إن معمارية X86 التي تعتمد عليها الكرة الأرضية بأكملها اليوم في كل ما يخص الحوسبة هي أبعد ما يمكن عن كونها المعمارية الأفضل، أو الأقوي أو حتي الأفضل أناقة! بل هي العكس تماما، معمارية فوضوية، غير مرتبة، وعشوائية، تثير جنون عدد كبير من مهندسي الحاسب!

إن سنين التبسيط المستمر في المعمارية والتهجين المتواصل بأساليب هندسية غير تقليدية، مع الحفاظ الذي لا يتواني علي التوافقية الرجعية قد تركت أثرها علي معمارية X86، لقد امتلأت بالرقع والندوب والشقوق الغير متناسقة. لقد كانت Intel تضيف وتعدل علي المعمارية بوتيرة شديدة التسارع، وتيرة لا تهتم بأي كيفية تتم بها الاضافة، وتهتم فقط بالنتائج.

ولقد ظهر هذا بقوة في اعتراض مهندسي الحاسب علي الحال الذي صارت اليه المعمارية، فقام العديد من خبراء التطويعات البرمجية بتقديم عرائض التماسية، يطلبون فيها تنظيف وتنظيم طاقم تعليمات X86 العتادي والمستخدم في معالجات Intel و AMD، والسبب .. أنها غير كفأة، ومزدحمة، ومعقدة، و بطيئة!

لقد تجاوز عدد تعليمات المعمارية الألف، وعو عدد ضخم للغاية، يزيد من تعقيد تصميم المعالج، كما يربك المبرمجيم والمطورين .. الذي يتضررون من الحاجة الي استخدام كل تلك التعليمات.

وسبب هذا العدد الكبير أن المعمارية تدعم كافة التعليمات التي صدرت من شركة Intel، منذ أيام المعالج البدائي 8086، والذي صدر منذ اربعين عاما! أي أن المعالجات المعاصرة، تحتوي علي دعم عتادي لتعليمات برمجية عتيقة، ليس لها فائدة، مما يعود علي الكل بالضرر، حيث يتطلب هذا الدعم المزيد من التعقيد في تركيب المعالجات، الأمر الذي يزيد من مساحة وحجم المعالج، واستهلاكه للطاقة، والأسوأ أن كل ذلك يحدث في غير فائدة، فحتي أنظمة التشغيل الحديثة ترفض دعم البرامج التي صدرت منذ خمسة أعوام مثلا!

لقد بالغت Intel في حفاظها علي التوافقية الرجعية في معالجاتها حتي عاد عليها الأمر بالضرر، فكل هذا العدد الكبير من التعليمات يسبب بطأ في عملية المعالجة، فالمعالج الثانوي المساعد يبذل مجهودا أكبر ويضيع وقتا أكثر كلما كان عدد التعليمات المطلوب منه تسييرها أكثر.

والأسوأ من كل هذا، ان كلا من Intel و AMD يضيفان تعليمات جديدة علي المعمارية دون استشارة المطورين عن مدي جدواها من عدمه، ودون تنسيق مشترك فيما بينهم، ولأسباب تسويقية بحتة في كثير من الأحيان، مما يربك عملية البرمجة ويزيد من مساحة البرامج دون داع. وبلا سبب سوي دعم الابتكارات العديدة المختلفة بين مصنعي المعالجات، والتي تؤدي في الغالب نفس الوظيفة لكن باسم مختلف، الأمر الذي يأكل من السعة التخزينية لوسائل التخزين، والذواكر العشوائية RAM.

وعلي حد تعبير العديد من الخبراء، أصبح طاقم تعليمات X86 مقلبا للقمامة، يستقبل كل ما هو قديم ومنعدم الكفاءة وغير مريح، كما أصبح مرتعا لكل من هب ودب ليقرر مصيره، دون النظر الي اعتبارات تقنية، ولكن لاعتبارات تسويقية!

من ناحية برمجية لا يهم هذا الأمر المستخدمين كثيرا، لكن من ناحية عتادية فهو يهمهم بقوة، فبعد مرور عقود من تفوق Intel الكامل علي الجميع، عادت معالجات X86 الي سابق عهدها، واصبحت معقدة التصميم بلا داع، كما أصبح أداؤها أقل من النسبة التي يفترض أن تكون عليها، كما زاد معدل استهلاكها للطاقة، ونتيجة لذلك أصيب معدل تطور الحواسيب بالعرقلة.

ويجادل الخبراء أن الأوان قد حان لاستبدال طاقم التعليمات كله، وابتكار طاقم جديد، يعطي أولوية مطلقة للكفاءة في التصميم، والبساطة في معالجة التعليمات، والضآلة في استهلاك الطاقة، وهم بالطبع يشيرون الي طقم تعليمات معالجات ARM، والتي تستخدم طاقم التعليمات المخّفض RISC، بعدد قليل من التعليمات، ومع الحفاظ علي بساطة وصغر حجم التعليمات في نفس الوقت.

وهو الأمر الذي مكن معالجات ARM من الولوج الي سوق المحمول بقوة، ومن سيطرتها التامة عليه، في حين فشلت Intel فشلا ذريعا في تحقيق هذا الأمر .. بسبب كل ما سبق من أسباب.

ARM

لقد فشلت Intel في دخول سوق المحمول علي الرغم من أنها قد شحذت نصل معمارية X86 بكل السبل الممكنة، استخدمت وسائل طقم المعماريات المخفض RISC واعادت تخطيط المعمارية كلها وجعلتها هجينة وطعمتها بالتقنيات الجديدة، واستعملت معها احدث تقنيات التصنيع واعلي الترددات. ولقد مكن هذا المعمارية من تحقيق مستويات عليا من الاداء لم ينافسها فيها احد. وان كانت قد اتت علي حساب فوضوية المعمارية و استهلاك الطاقة .

ان معمارية X86 تعد هي الاعلي استهلاكا بين معماريات المعالجات المركزية المعاصرة، خاصة عندما نقارنها بمعماريات الهواتف الجوالة .. لقد حاولت Intel تخفيض استهلاك X86 الطاقة مرارا وتكرارا، وحاولت تصغير المعمارية لتناسب الاسواق المحمولة، لكن كل هذا كان بلا فائدة، ظل استهلاك الطاقة عاليا.

ان معمارية X86 هي معمارية تلقين تلقائي Automatic، لا تحتاج مجهود برمجي عال من المطور أو المبرمج، ويتوفر لها مترجمات وملقنات Compilers كثيفة العدد وذات كفاءة عالية، والمعمارية ترفع عبا ضخما من علي كاهل المبرمج، فهي تتولي الترجمة والتلقين تلقائيا في غالبية اجزاءها عوضا عن المطور. وكل هذا يفرض عليها ضريبة في استهلاك الطاقة لا يمكن الخلاص منها. وهي ضريبة لم تنفك تزداد حتي وصلت الي أقصاها في الآونة الأخيرة.

فخلال الستة أعوام الأخيرة تباطئت وتيرة تحسن معمارية X86 لدي Intel حتي وصلت الي الحد الأدني.

ولسنين عديدة، اعتقد الجميع أن Intel تماطل في تحسين معالجاتها بالقدر الواضح لعدم وجود منافس، لقد ظننا أن الشركة تخبئ معماريات متطورة لعدم وجود أي داع لاصدارها، فالشركة تعتلي عرش الأداء بمعمارية Core التي أصدرت منها سبعة أجيال متعاقبة بلا منافس! لكن علي الرغم من التفوق الكاسح الا أن الفروق بين كل جيل وجيل كانت محدودة .. كان التبرير: و لم تجعل Intel الفروق كبيرة ولا يوجد لدي المستخدم أي بديل سواها؟ إن Intel لديها الحق في حلب المستخدم بالتدريج!!

لكننا اكتشفنا ان الشركة لا تملك معماريات متطورة ولا تملك اي جديد في جعبتها، هي فقط تصارع دقات تصنيع غير ناضجة وتحاول التعامل مع حقيقة ان معمارية X86 لم تعد تصلح للظروف الحالية. ظروف ان العلم الذي لدينا نحن البشر غير كاف لتصنيع دوائر كهربية أصغر وأصغر، ليس لدينا القدرة علي تحسين تصنيع المعالجات أكثر مما هو متاح، الا بدرجات طفيفة للغاية، درجات لا تكفي لتحقيق فروق أداء جوهرية.

تأخرت Intel في دقات التصنيع كثيرا، وكل عام للاصدار يتم شطبه وتأجيله الي عام لاحق ..

لذا فلم يكن أمام Intel حلولا كثير تفعلها، فكل ما كانت تفعله طوال الأعوام المنصرمة هو زيادة تردد المعالجات في محاولة لتحقيق أداء أعلي بغض النظر عن استهلاك الطاقة! فزاد هذا من استهلاك معمارية X86 للطاقة الي درجة مخيفة، واصبحت فجوة استهلاك الطاقة بينها وبين الخصوم كبيرة للغاية.

وفوق كل هذا لم يعد لدي Intel القدرة علي تبسيط تصميم معالجاتها أكثر من ذلك، ليس وهي تضع سهولة البرمجة والتوافقية الرجعية كأولوية قصوي لديها. وهي تحتاج الي نسف التصميمات القديمة كليا، والبدء من جديد بشكل شبه كلي، والتضحية بالكثير مما لديها من توافقية.

ثم والأسوأ من كل هذا أن الشركة قد ابتليت بمصيبة كبيرة في وقت هي في أمس الحاجة فيه الي كل مساعدة! مصيبة الثغرات الأمنية. إن الوسائل غير التقليدية التي بنت بها Intel معالجات X86 وحققت بها أداء عاليا، هي كلها وسائل تمتلأ بالثغرات الأمنية، كل اساليب التوقع المسبق Prediction و المسارات الثانوية Hyper Threading معرضة للاختراق من قبل المخترقين والتلصص عليها وسرقة البيانات منها!

ولاصلاح هذه الثغرات الأمنية، وخوفا من الفضائح التقنية! فان Intel اضطرت الي تقليل كفاءة هذه الوسائل، وفي بعض الأحيان تعطيلها كليا علي معالجاتها، الأمرالذي يؤدي بالقطع الي تقليل أداء المعالج ككل! لقد اختارت هذه الثغرات أسوأ وقت ممكن كي تظهر فيه، وتقلل من تفوق Intel التقني رغم أنفها!

لقد اختلت جبهات تفوق Intel علي الخصوم واحدة تلو الأخري!

وباختلال جبهة دقة التصنيع بالذات، تختل أهم المزايا التي تتمتع بها Intel في تفوقها العتادي، وتختل استراتيجية الشركة كلها، وتفقد الحظوة التقنية بالتدريج! لقد احتاجت Intel الي كل مزية ممكنة كي تتفوق علي الخصوم، واحتاجت كل المزايا معا كي تتقدم عليهم وتهزمهم، لكنها فقدت احدي المزايا الآن، إن قفاز ثانوس يحتاج الي كل أحجار القوة كي يعمل، وقد فقدت Intel إحدي الأحجار الي الأبد، فأصبح قفازها عديم القيمة!

لقد عادت Intel الي المربع الأول وصار ظهرها مكشوفا. وقد أدركت AMD شريك Intel اللدود الموقف مبكرا، أدركت أن التصنيع بمفرده غير كاف للحفاظ علي تفوق معمارية X86، فسلمت الراية مبكرا. وقررت تصنيع معالجاتها بأسلوب الشرائح الصغيرة المجمعة Chiplets، كل نواة علي حدة ليتم تجميعها لاحقا في شريحة واحدة كبيرة. وتخفض هذه الطريقة من تكلفة التصنيع، وتزيد من عدد الأنوية أملا في زيادة عتاد المعالجة المتوفر للمعالج كي يصير بأداء أعلي. وهو ما حققته AMD بالفعل، باصدارها معالجات مكتبية بأعداد أنوية كثيرة غير مسبوقة!

Zen2 Zen 2

وهو أمر ستحذو حذوه Intel أيضا، وقد أعلنت الشركة عن هذا بالفعل، ستلجأ الي الشرائح الصغيرة المجمعة لتعوض النقص في القدرات التصنيعية. لكن هذا المسعي لا يأتي دون العيوب الخاصة به!

فالشرائح المجمعة تزيد من أزمان التأخير بينها وبين بعضها ويقلل هذا الأداء! كما تستهلك طاقة اضافية في التواصل ما بين الأنوية المنفصلة، مما يعني أن استهلاك الطاقة يضيع فيما لا يفيد الأداء بشئ، ويعني أنه يظل مرتفعا مقارنة بالأداء المستخرج!

أما خصوم Intel الطبيعيين، فهم سيتمتعون بمزية المعالج الكامل غير المجمع، دون أزمان تأخير أو طاقة ضائعة في التواصل بين الأنوية المنفصلة، مما يعني أنهم يستعيدون أوجه تفوقهم القديمة! لكن ما باليد حيلة، ليس أمام حلف X86 أي سبيل للمضي قدما بالمعمارية الا هذا الأمر، قبل فوات الأوان.

Zen1

لكن يبدو الأوان قد فات بالفعل، لقد طل الخصوم برؤسهم من جديد بالفعل، لقد شاهدوا تعثر Intel وفشلها في دخول سوق المحمول ورأوا استسلام AMD فعادت لهم الجرأة للظهور والمنافسة. وأول هؤلاء الخصوم كان Apple نفسها!

إن Apple الآن تقوم ببناء أكبر معالجات ARM الاستهلاكية في التاريخ، وأقواها أداء، وهي تمتلك من الأموال والقدرات التصنيعية ما يؤهلها لهذا عن جدارة. إن Apple تنتوي في وضوح استبدال معالجات X86 بمعالجات ARM التي تبنيها ببذخ شديد.

إن معالج Apple الأخير المسمي بـ A12X لهو فخر صناعة معماريات ARM، فهو معالج صغير الحجم، بسيط التركيب، لا يحوي وسائل مساعدة للبرمجة، و غير مقيد بارث التوافقية الرجعية مع ما سبق، ويأتي باستهلاك طاقة ضئيل ودون استخدام وسائل تبريد من الأساس، ورغم كل ذلك فهو يتحدي أداء معالجات Core i7 في عدد من التطبيقات! إنه معالج للأسواق المحمولة، ورغم ذلك فهو يتحدي معالجات مكتبية باستهلاك طاقة كبير وبوسائل تبريد فعالة! فما بالك اذا ما قررت Apple بناء معالج كبير باستهلاك طاقة أعلي وتبريد حقيقي؟!

إن التوقعات لهذا مخيفة، مخيفة علي Intel وAMD بالطبع، إن القدرات الكامنة في معمارية ARM لم يتم استكشافها للنهاية بعد، و Apple تنتوي فعل هذا بقوة. في حين كادت X86 أن تصل الي أقصاها بالفعل. إن Apple هي أكبر خطر يهدد وجود Intel و AMD معا في الوقت الحالي.

لكن Apple ليست وحدها، فشركة ARM نفسها تسعي في ذات المسعي، وتضع صوب أعينها منافسة معالجات Core i5 و i7 الدنيا بالفعل في سوق الحواسيب المحمولة، وباستهلاك طاقة ضئيل للغاية أيضا.

 

وهو الأمر الذي انتبهت له Microsoft، فقررت نقل نظام تشغيل Windows من العمل علي بيئة X86 بشكل حصري، الي العمل علي بيئة ARM أيضا، كي يتسني لها تشغيل النظام علي معالجات ARM، وهي خطوة تشي بمدي ادراك Microsoft لأهمية معالجات ARM المستقبلية. حتي شركة Adobe قررت نقل برمجيات PhotoShop وأخواتها الي بيئة ARM، احتذاءا بـ Microsoft و Apple.

أما الشركات العملاقة فقد بدأت بالفعل في طور التحول من معالجات X86 الي معالجات ARM، إن Facebook و Amazon و Google يصنعون الآن معالجاتهم الخاصة المبنية علي معمارية ARM كي يستخدمونها في خوادمهم للشبكة الدولية Internet Servers و في مراكز بياناتهم Data Centers و خدمات الذكاء الاصطناعي AI الخاصة بهم، بدلا من معالجات X86.

أما عن شركة HP فقد بنت حاسبا خارقا Super Computer باسم Astra مستخدمة في ذلك الآلاف من معالجات ARM، وهو حدث فريد من نوعه في الأعوام الأخيرة، لقد بدأت معالجات ARM في العودة لسوق الحواسيب الخارقة من جديد. وتنتوي شركة Fujitsu اتباع حذو HP في حاسوب خارق جديد في الأعوام القادمة.

لقد خرجت Intel من أزمتها الوجودية القديمة، كشركة منيعة بتفوق تقني وقدرات تصنيعية هائلة عن منافسيها، لكنها حتما لم تكن كذلك علي طول الخط، لقد كانت علي شفا ان تنسحق تماما وبضربة واحدة، ولأسباب جوهرية لا تزال قائمة حتي هذه اللحظة. لقد تطلب الأمر صراع Intel علي أصعدة كثيرة ومتعددة كي تتمكن Intel من التفوق علي الخصوم الطبيعيين لها، وهي أصعدة تتآكل جميعا تلو الأخري، وعلي هذا فان الشركة تعيش علي وقت مؤجل .. وقت سينتهي في أي لحظة.

بل لقد بدأ بالانتهاء بالفعل، لقد عادت فلسفة وجود Intel من جديد تحت خط النار، اصبحت بلا غطاء من التفوق التصنيعي أو أساليب المعمارية غير التقليدية يحميها من هجوم الخصوم، عادت  فلسفة Intel من جديد عتيقة هالكة تنتظر أن تقضي نحبها علي أيدي الفلسفة الجديدة الثورية. إن وجودية Intel نفسها قد صارت اليوم تحت حصار خانق يضيق عليها يوما بعد يوم، وهي الآن تأن من الألم، فهل تستسلم الشركة للنهاية التي كانت محتومة منذ زمن؟ أم تتسلق الي أصعدة جديدة تمنحها وقتا مؤجلا جديدا؟

Intel تحت الحصار