الحوسبة الكمية Quantum Computing، سراب التائه في الصحراء!
الكل يعرف ان الحاسوب الكمي Quantum Computer هو حل جميع مشاكلنا التقنية الحالية، الكل يعرف هذا جيدا ويحفظه ويردده عن ظهر قلب ..
تطور الحاسب الالي يتعرض للتباطؤ، سرعة المعالجات لم تعد تزداد بشكل كافي .. الحل؟ انتظر الحوسبة الكمية Quantum Computing. عمليات تصنيع الترانزيستور اصبحت معقدة ومكلفة والمردود منها ضعيف .. الحل؟ انتظر الحاسوب الكمي! استنفذ العلماء كل قطرة من عنصر السيليكون، لم يعد هناك المزيد .. الحل؟ انتظر الحاسوب الكمي! الذكاء الاصطناعي يحتاج لحواسيب قوية غير موجودة حاليا .. الحل؟ انتظر الحاسوب الكمي!
لقد اصبح مصطلح الحاسوب الكمي Quantum Computer هو الحل السحري لأي مشكلات نواجهها حاليا .. اي عقبة عسيرة في طريقنا سوف يمحوها الحاسوب الكمي بعصا سحرية .. أي عائق سيزيله الحاسوب الكمي كأنه غير موجود .. انها الاسطورة التي نرددها جميعا حول نيران جلسات السمر في الخلاء .. انها الواحة الاسطورية التي يرنو اليها الظمآن في الصحراء الجرداء .. فهل يصل اليها الظمأن أم تظل مجرد حكاية من حكايات السمر؟ لقد علمتنا الحياة ان الحلول السحرية لا وجود لها .. أما العلم فقد علمنا ان الحاسب الكمي الخارق الذي سيحل جميع عقبات الحاسب لا وجود له .. ولا حتي أغلبها .. ولا حتي بعضها!
والمشكلة بدأت عندما تباطئ معدل تسارع أداء المعالجات في الخمسة سنوات الأخيرة .. لقد اصطدم المصنعون بقوانين الطبيعة التي لا ترحم، وعجزوا عن تقليص حجم الدارات الكهربية Transistors .. فكلما قلصوا حجمها أكثر، كلما سربت التيار الكهربي بصورة أكبر، وكلما أصبحت هشة .. سهلة التدمير، وكلما أصبحت تعوق سريان التيار نفسه بشكل أكبر .. لذا فلم يستطع العلماء زيادة ترددات المعالجات ولم يستطيعوا تقليل استهلاكها للطاقة، فتعرضنا لموجة عنيفة من ثبات الحال في أداء عالم الحاسوب. لقد اعتصرنا كل قطرة ممكنة من عنصر السليكون ولم يعد هناك الا أقل القليل.
وانتقلت أنظار العلماء الي بديل آخر .. بديل علقوا عليه الامال في أن يلتقط معدل تسارع الأداء ويحلق به بعيدا من جديد.
ولم يحتج العلماء للنظر بعيداً، فقط النظر الي الغاية النهائية من عمليات التصغير والتقليص المستمرة في حجم الدارة الكهربية Transistors .. فبفرض نجاحنا في تصغيره أكثر وأكثر، فان الحجم سيتقلص من 10 نانو الي 7 نانو الي 5 الي 3 الي 1 نانو ثم الي ذرات قليلة للغاية، ثم الي ذرة واحدة في نهاية المطاف!
أقرأ يضا: سيارات طائرة وحواسيب خارقة وقطارات فائقة السرعة، هل وصلنا للمستقبل؟
ولما كان الهدف الاخير لأية عمليات تقليص وتصغير هو جعل حجم الدارة يساوي ذرة واحدة، فقد قرر العلماء القفز فوق كل الخطوات البينية والانتقال مرة واحدة الي المستوي النهائي، مستوي الذرة الواحدة!
لكن قوانين الطبيعة التي تحكم عالم الذرات تختلف عن القوانين التي تحكم عالم ما فوق الذرات .. ففي حين يكون عالم ما فوق الذرات معلوم القوانين ومضبوط الموازين وكل شئ فيه يعمل بمقدار يمكن حسابه وتوقعه، فان عالم الذرات المفردة هو عكس كل ذلك.
في عالم الذرات لا نعرف تكوين الجسيمات الذرية الصغيرة sub atomic particles .. لا نعرف اذا كانت جسيمات حقيقة لها مادة وكتلة صلدة مركزة في حيز صغير، ام مجرد موجة أثيرية منتشرة في الفراغ بلا كتلة صلدة.
لا نعرف أيضا مواقع هذه الجسميات ولا سرعة حركتها .. واية محاولة لقياس أيا من هذا تغير موقع الجسيم وسرعته في الحال، مما يعني انها تكون غير مجدية.
الجسيمات تتصرف أيضاً بطريقة غير متوقعة، فقد تختفي من مكان لتظهر في مكان اخر دون المرور بما بينهما من أماكن. وقد تتداخل فيما بينها وتمر من خلال بعضها البعض، او تمر من خلال الحواجز والجدران وكأنها غير موجودة .. فيما يطلق عليه Quantum Tunneling او العبور الكمي.
بل إن الجسيمات قد تظهر في أكثر من حالة في ذات الوقت! قد تظهر كجسيم و موجة في آن واحد، وقد تظهر مشحونة وغير مشحونة في آن واحد .. الخ، فيما يطلق عليه Quantum Superposition او التراكب الكمي.
إنه عالم الطبيعة الكمية Quantum Physics والسلوكيات الكمية Quantum Mechanics الغامض الذي لا تفسير له .. والذي يمكن ان يحدث فيه أي شئ حرفيا، حيث تنقلب كل القواعد التي عرفناها عن عالمنا المعتاد رأسا علي عقب.
والطبيعة الكمية Quantum Physics تعني ببساطة شديدة أن كل المكونات الذرية يمكن استقبالها ومن ثم مراقبتها وملاحظتها في هيئة مقادير أو "كميات" ثابتة و مقدرة مسبقا، علي الرغم من أنها ليست كذلك بالضبط! والسبب في أنها ليست كذلك أن كل التجارب التي أجريت لمعرفة ماهية وتكوين القطع الذرية فشلت فشلا ذريعا في معرفة حتي أبسط الخصائص المتعلقة بها، وهي تحديد طبيعة شكلها!
هل القطع الذرية جسيمات ثابتة، صلبة ومحددة، و لها بداية ونهاية من الحيز الفراغي؟ أم هي موجات دائمة التغير والتفاعل، منتشرة، ولا تشغل حيزا محدودا من الفراغ؟
وكانت نتيجة كل التجارب هي أن القطع الذرية هي مزيج من هذا وذاك! فهي مرة تتصرف كأنها موجة ومرة أخري تتصرف كأنها جسيم! والأكثر سخفا أنه لا يوجد رابط منطقي بين هذا وذاك.
الشئ الوحيد المؤكد هو أن القطع الذرية تتصرف علي الوضع الافتراضي علي أساس أنها موجات منتشرة، لكنها تبدأ في الانسحاق الي جسيمات محددة منذ اللحظة التي يبدأ فيها الانسان في معاينتها وملاحظتها أو حتي مراقبة المكان الذي تعبر منه!
بمعني أخر فان القطع الذرية تظهر في هيئة جسيمات فقط عندما يبدأ الانسان في النظر والتحقق منها. أي وكأنها تشعر بالتجربة او تتجاوب مع معدات التجربة فتغير من طبيعتها في الحال، حتي لو تمت التجارب بطريقة لا ينتج منها أي أثر مباشر أو غير مباشر علي القطع الذرية (وهو ما تم بالفعل).
وبسبب كل هذا الغموض والضبابية فان التوقع الدقيق لسلوك الذرات والجسيمات يصير ضربا من ضروب المستحيل .. ان بناء معالج يحسب ويدقق ويقرر علي اسس لا يمكن توقعها او اخذها في الحسبان هو الوصفة السريعة للفشل. فصناعة اي معالج تحتاج لاقصي درجات الاحكام والتحري والاستقصاء في كل مستويات صناعته، والا اختلت حساباته كلها.
لكن العلماء كانوا منجذبين الي شئ اخر، منجذبين الي صغر حجم الذرات الذي سيسمح بوضع مليارات فوق المليارات منها في مكان واحد، ومنجذبين الي سرعة حركة الجسيمات فيها والتي تصل الي سرعة الضوء. وكذلك الي سعة كل ذرة لاستيعاب البيانات.
والبيانات في عالم المعالجات ما هي الا شحنات كهربية ضئيلة (يتم تمثيلها برمز 0 رمزا الي عدم وجود شحنة) وأخري كبيرة (يتم تمثيلها برمز 1 رمزا الي وجود شحن كهربي)، يطلق علي هذه الرموز اسم البت Bit (اختصارا لـ Binary Digit، أو العدّ الثنائي)، و تخزن الذاكرة تسلسلات طويلة من هذه الشحنات/الرموز لتكون معلوماتك التي تخزنها علي وسائل التخزين، ثم ترسلها الي المعالجات التي تتولي تغيير ترتيب التسلسلات الي تسلسلات جديدة فيما يعرف باسم معالجاة البيانات.
لكن الذرات بطبيعة الحال تمتلك سعة استيعاب للبيانات أكبر من ما هو متاح الان، لانها لا تهتم بوجود شحنه ام لا .. فهي دائما في حالة مشحونة وفي حالة غير مشحونة في ذات الوقت! أي أنها دائما في حالة 0 أو 1 أو 01 معا في ذات الوقت! الم نقل لكم ان الجسيمات قد تكون في اكثر من حالة في آن واحد مع التراكب الكمي Quantum Superposition؟
هذا هو سر قدرة الذرات الاستيعابية الكبيرة للمعلومات، فعلي العكس من الدارات الكهربية العادية Transistors والتي تستقبل نوع واحد من البيانات فقط (اما الصفر واما الواحد) .. فان الذرات قد تستطيع استيعاب أنواع عديدة من البيانات .. 0 أو 1 أو 01 معا. وهي قدرة تخزينية هي ضعف قدرة الدارات الكهربية العادية Transistors. قدرة استحقت تغيير لفظ البت Bit الي لفظ جديد باسم كيوبت Qubit.
وبسبب تلك القدرة التخزينية المضاعفة فإن القوة الحوسبية تتضاعف بشكل هائل .. ان كل ذرة تعمل الان عمل دائرتين عاديتين ..
فاذا احتجنا لتمثيل 8 بت فاننا نحتاج لثمانية دارات .. لكن نحتاج 4 ذرات فقط .. اي نصف العدد ..
اما اذا احتجنا لتمثيل 16 بت فاننا نحتاج 16 دارة .. لكن نحتاج 8 ذرات فقط ..
يمكننا تخيل الامر ذاته مع اعداد اكثر بكثير، اذا احتجنا 2 مليون دارة لعمل شئ ما، فاننا نحتاج الي 1 مليون دارة لعمل نفس الشئ ..
وهذا علي مستوي العدد او التخزين فقط .. اما علي مستوي القدرة الحوسبية فالأمر أكثر إثارة .. الذرة الواحدة تستوعب احتمالين في ذات الوقت .. مما يعني أنها تعالج احتمالين مرة واحدة .. مقابل احتمال واحد فقط للدارات العادية .. وهذا يرفع من القوة الحوسبية للذرات بشكل لا يمكن تخيله!
1 ذرة تعطيك 2 احتمالات .. 1 دارة تعطيك 1 فقط
2 ذرة تعطيك 4 احتمالات .. 2 دارة تعطيك 2 فقط
3 ذرات تعطيك 8 احتمالا .. 3 دارات تعطيك 3 فقط
4 ذرات تعطيك 16 احتمالا .. 4 دارات تعطيك 4 فقط
ومع كل زيادة في عدد الذرات فإن القوة الحوسبية للذرات تتضاعف أضعافا مضاعفة فوق القوة الحوسبية للدارات .. ويصل الامر الي حد جنوني مع الاعداد الكبيرة بالذات!
24 ذرة تعطيك 16 مليون احتمال ، بينما 24 دارة لا تعطيك سوي 24 احتمال! 50 ذرة تعطيك تريليون (الف مليار) احتمال، بينما 50 دارة لا تعطيك سوي 50 احتمال! تخيل الفارق .. تريليون امام 50 فقط .. مع 50 ذرة فقط نحصل علي التريليون والذي يساوي مليون مليون في مقابل 50 فقط مع 50 دارة .. وهي اضعاف فوق اضعاف فوق اضعاف مضاعفة!
مع الحوسبة التقليدية Classical Computing يمكننا اجراء عملية حسابية واحدة علي 50 دارة تحوي 50 نقطة بيانات (Bit) في جزء من الثانية، بينما مع الحوسبة الكمية Quantum Computing، يمكننا اجراء ذات العملية علي 50 ذرة تحوي تريليون (ألف مليار) احتمالا للبيانات (Qubit)، في ذات الجزء من الثانية، تلك هي قوة الحوسبة الكمية Quantum الحقيقية، الف مليار احتمال تجري عليهم عملية حسابية في وقت واحد، مقابل 50 فقط للحوسبة التقليدية. في المقابل يحتاج الحاسب التقليدي الي وقت أطول بكثير فقط لتصفح تريليون نقطة بيانات، ناهيك عن تطبيق ذات العملية عليها!
هذا الفارق الرهيب في القوة الحوسبية هو ما يذهب بعقول العلماء، وهو ما يجذبهم نحو الحوسبة الكمية Quantum Computing باستمرار .. تخيل الفارق عندما نصعد الي 100 ذرة او قل 1000 ذرة، لن يكفي هذا السطر لسرد الاحتمالات الناتجة!
ثم الأجمل من كل هذا، ان كل هذه القوة الحوسبية لا تتطلب الا قدرا ضئيلا للغاية من الطاقة التي تستهلكها المعالجات الحالية، الي حد ان الاستهلاك لا يتعدي 1 واط فقط، نعم واط واحد لا غير!! ولم لا والايدي العاملة هي ذرات ضئيلة.
الحوسبة الكمية Quantum Computing لا توفر فقط تفوق عددي في توفير عدد الدارات المطلوبة، لكن ايضا تفوق كمي رهيب في القوة الحوسبية الممكنة. بسحب طاقة تافه .. إنه الحلم الوردي لكل مهندس حاسوب. لقد طاش عقل مصنعو الحاسوب بهذا الحلم المثالي واسردوا في مدحه القصائد والابحاث العلمية وكذلك روايات الخيال العلمي.
لكنه حلم وردي لم يكتمل ولا يكتمل بل ولن يكتمل وللأسف، ولأسباب جوهرية وصادمة ومؤسفة الي أقصي حد!
بداية، فان طريقة عمل الحاسب الكمي غريبة للغاية، فلإن الجسيمات الذرية لا يمكن توقع حركتها ولا سلوكها .. ولأنها تغير من خصائصها باستمرار ملايين المرات في الثانية الواحدة.. ولا تثبت علي حال، فان جبرها علي القيام بعمل محدد هو درب من دروب المستحيل .. وأقصي ما يمكننا القيام به هو اعطائها البيانات والمعلومات بأسلوب معين، وتركها تجرب فيها كافة الاحتمالات، الصحيح والخاطئ، المرغوب وغير المرغوب .. المقصود وغير المقصود .. والأمل في ان الاحتمالات الخطأ والغير مرغوبة ستفني بعضها بعضا بينما تغذي الاحتمالات الصحيحة بعضها بعضا، حتي نحصل في النهاية علي الاحتمال الصحيح والمقصود فقط.
يتطلب هذا قوة حوسبية هائلة، وهي تتوفر بالفعل (تذكر باستخدام 50 ذرة فقط استطعنا الوصول الي تريليون احتمال) .. مما يعني ان الحاسب الكمي يستطيع تجربة مليارات الاحتمالات في ان واحد .. لكن هذا يضيع من قوته الحوسبية في عمليات واحتمالات غير مرغوب فيها وغير صحيحة .. وهي قدرة كان يمكن أن تستغل في أداء عمليات حسابية حقيقية مرغوب فيها، لكن ما من سبيل لتلافي هذا المجهود الضائع، فهو يرتبط تمام الارتباط بأسس عالم طبيعة الكم الغامض .. الاسوأ من كل ذلك حقا ان هذا ليس الأمر الوحيد الذي يضيع القوة الحوسبية الكمية فيما لا يفيد.
إن الذرات المكونة للحاسب الكمي تتأثر بسهولة بأي تغييرات خارجية تحدث حولها، اي تغير في درجة الحرارة، اي تغير في الاشعاع الكوني المحيط، أي تغير في نسبة الشوائب حولها .. أي تغير في الهواء، اي تغير في مستوي الضوضاء والاصوات حولها، حتي صوت خطوات الأقدام! كل هذا يؤثر عليها سلبا ويجعلها تختل وتغير قيمها الداخلية ومواقع الجسيمات الذرية .. مما يعني ان الحسابات كلها ستصير خطأ، لذا فقد وجب علي المطورون تخصيص جزء من قوة المعالج الكمي الحوسبية لتصحيح الأخطاء Error Correction .. وتقوية البيانات ضد الأخطاء العشوائية (عن طريق تكرارها عدة مرات) Fault Tolerance، وهي تكلفة عالية للغاية نظرا لحجم البيانات التي يتعامل معها الحاسب الكمي، فكلما زاد حجم تلك البيانات زادت القوة الحوسبية اللازمة لحمايتها من الخطأ.
ويكفي ان تعلم أن وسائل حماية الأخطاء الحالية تتطلب ان يكون لكل ذرة ستستخدم في المعالجة 7 ذرات أخري فقط لحمايتها من الأخطاء، بل أحيانا 9 ذرات أيضا .. هذا دون الاخذ في الاعتبار تصحيح الاخطاء اذا حدثت، والتي تكلف ذرات اضافية أيضا، باختصار، عملية الحماية والتصحيح للاخطاء قد تكلف الحاسب الكمي عشرة اضعاف قوته الحوسبية المتاحة. وهو ما يعني المزيد من قوة الحوسبية الضائعة فيما لا يفيد، فتارة نضيعها في أداء مليارات العمليات الغير مرغوب فيها، وتارة أخري لتصحيح الأخطاء سواء لعمليات مرغوب فيها او غير مرغوبة فيها.
بالطبع يحتاج كل هذا الي مهارات برمجية خاصة وخوارزميات خاصة مصممة لكي تعمل بهذا الاسلوب، أسلوب العمليات الصحيحة والغير صحيحة، وأسلوب تصحيح الأخطاء .. وهي المهارات التي لا تتوفر عند غالبية المطورين. يتوجب علي غالبية المطورين أن يتلقوا دروسا في كيفية البرمجة الكمية. بل ان الحاسب الكمي يحتاج لمهارات أعلي من ذلك ايضا، وهي مهارات التحقق من صحة النتائج، فبعد كل هذه الإجراءات والاحتياطات لا يزال هناك احتمال وارد ان النتائج ستكون غير دقيقة. إن نتائج الحاسوب الكمي هي احتمالات عظمي بالأساس، فيحتاج المبرمج الي التأكد من دقتها.
بمعني آخر، كل برمجياتنا الحالية لا تصلح للعمل علي اي معالج كمي، وتحتاج ان تنسف تماما، وتصنع من جديد بشكل يتوافق مع اساليب المعالجة الكمية السابق شرحها!
لكن كل هذا يتضائل بشدة أمام متطلبات التشغيل المطلوبة للحاسب الكمي .. فصناعة المعالج الكمي نفسه مكلفة للغاية .. وتتضمن معدات واجهزة خاصة تستخدم مجالات كهربية ومغناطيسية وموصلات فائقة السرعة Super Conductors وموجهات أشعة ليزر كي تحافظ علي استقرار الذرات وعدم تفككها .. يتم عزل المعالج الكمي أيضا عن الهواء تماما في صناديق مفرغة vacuum، ويتم عزله عن الأصوات كذلك! وهي معدات تكلف عشرات الالاف من الدولارات .. يكفي ان تعلم ان المعالج الكمي لا يمكن وضعه الا في معامل وغرف مخصصة ومجهزة الي أقصي درجة. بعض التقديرات للتكلفة بلغت 10 مليون دولار لمعالج كمي واحد صغير بأداء متواضع.
يحتاج المعالج الكمي ان يعمل ايضا في درجات حرارة منخفضة للغاية تصل الي التجمد، فكلما بردت الذرات كلما قلت حركتها العشوائية وكلما استطعنا السيطرة عليها، لهذا يحتاج المعالج الكمي للعمل في درجة برودة اقل من الصفر بـ 273 درجة علي الأقل (بل أقل من الصفر بـ470 درجة فهرنهايت!!) .. وهي درجات تتطلب معدات تبريد خرافية .. بتكاليف مخيفة .. ويكفي ان تعلم ان استهلاك الطاقة لمعدات التبريد فقط يصل الي 35 الف واط!
مشكلة أخري محورية أنه بسبب القوة الحوسبية الضائعة فإن الحاسب الكمي يحتاج الي زيادة عدد الذرات بداخله كي يقوم بأشياء مفيدة، فاذا كان لدينا 50 ذرة للمعالجة فإن قرابة ثلثيهم ضائع في أشياء أخري غير المعالجة التي نحتاجها (الحماية من الخطأ، وتصحيح الخطأ، ومعالجة احتمالات غير مرغوبة ..الخ) ولا يتبقي لدينا سوي 15 ذرة فقط أو أقل .. وهو عدد غير كاف لأداء العمليات الحسابية المعقدة .. نحتاج الي عدد اكبر. لكن كلما زدنا في عدد الذرات كلما احتجنا الي عدد ذرات أكبر منه للحماية من الخطأ وتصحيح الخطأ .. وكلما زدنا في عدد الذرات كلما احتجنا الي استهلاك طاقة أعلي لتبريدها . واحتجنا الي معدات اكثر تعقيدا لحمايتها وتشغيلها.
وهذه مشكلة حقيقية في الحاسب الكمي، فهو لا يزداد سرعة الا باضافة الذرات، فلا يمكن مثلا زيادة تردده، ولا يمكن معه تطويع البرمجيات والتعليمات لتزداد سرعة .. السبيل الوحيد هو زيادة عدد الذرات. والاسوا من ذلك ان البرمجيات التي تعمل علي 50 ذرة لن تعمل علي 51 حتي، تحتاج لكتابة كل برمجياتك واحتمالاتك من الصفر والبدء من جديد .. كي تستغل عدد الذرات الأكبر! باختصار انت تصنع حاسبا جديدا تماما بكل عتاده وبرمجياته في كل مرة تقرر فيها زيادة عدد الذرات.
ثم هناك الحيرة الشديدة حول المادة التي سيصنع منها المعالج الكمي، هل هي ذرات خاملة، ام ايونات نشطة، ام فوتونات .. الخ، وكل مادة لها محاسنها ومثالبها، ولها طريقة صناعة معينة مقعدة، تختلف عن الطريقة الأخري!
لكن كل هذا شئ وما هو قادم شئ آخر، استعد عزيزي القارئ للصدمة الكبري، فبعد كل هذه التعقيدات والتكاليف والاحلام الوردية، فان المعالج الكمي لن يكون اسرع من المعالج العادي!!
نعم لقد قرأت هذا جيدا، ففي الاستخدامات العادية مثل تشغيل نظام التشغيل Operating System والالعاب وبرمجيات التصميم والشبكات وتطبيقات الـ Office والشركات ..الخ، سيكون المعالج الكمي أبطأ من المعالج العادي، لان المعالج الكمي لا يعمل بطريقة محددة واضحة وصارمة ومعلومة الخطوات، بل يعمل بتجريب الاحتمالات المتعددة وافناء ما لا يصلح منها .. يستغرق هذا وقتا ثمينا يكون الحاسب الكمي فيه أبطأ من الحاسب العادي الذي يصل الي النتائج بطريقة مباشرة لا تجريب فيها ولا حيود عن المهمة المطلوبة. ان كل وسائل معالجة كافة الاحتمالات ووسائل تصحيح الأخطاء وتفادي الأخطاء تجعل المعالج الكمي بطيئا في تلك الاستخدامات التي تحتاج تفاعلا سريعا وقرارا سريعا من المعالج. ان تلك البيانات ببساطة لا تتناسب مع تعقيد المعالجة في المعالج الكمي، فهي صغيرة الحجم للغاية، فتضيع وسط تعقيد المعالج الكمي الشديد ولا يتم انجازها بكفاءة زمنية ملائمة.
تظهر قوة المعالج الكمي فقط في البيانات الضخمة للغاية، مثل بيانات المحاكاة العلمية للجزيئات لغرض صناعة الادوية والعقاقير وبناء الخامات الصلبة والموصلة للكهرباء، بيانات مليارات النجوم والاجرام السماوية بغرض محاكاة عالم الفضاء .. قواعد البيانات الضخمة، فك تشفير رموز الحماية المعقدة، محاكاة الطقس وحركة الرياح، محاكاة عالم سلوكيات الكم ذاته وحركة الذرات والجسيمات الذرية .. الخ، هنا يمكن للمعالج الكمي الواحد هزيمة عدة حواسيب تقليدية خارقة في سهولة. فقط بشرط أن يكون حجم البيانات ضخما للغاية.
يشبه الامر انتقال المستخدم من نظام تشغيل 32 بت الي نظام تشغيل 64 بت .. او من معالج 32 بت الي اخر 64 بت، لن يشعر المستخدم باي فارق في الاداء او زيادة في السرعة الا اذا استخدم بيانات بحجم 64 بت .. حينها فقط ستظهر فائدة المعالج ذو ال 64 بت .. اما اذا ظل المستخدم علي بيانات 32 بت فلن يشعر باي فارق في السرعة. وقس علي ذلك ايضا انتقال المستخدم من 64 بت الي 128 بت. او ما هو اعلي 256 بت، وبالمثل المعالج الكمي يعمل بآلاف "البتات"، وما لم تملك كمستخدم بيانات بأحجام مماثلة فلن تستفيد منه شيئا.
إن المعالج العادي بشبه سيارة نقل سريعة وصغيرة .. تستطيع نقل طن في كل مرة في مدة ساعة .. بينما المعالج الكمي يشبه المقطورة الضخمة للتي تكون بطيئة وتحتاج لخمسة ساعات للوصول الي الهدف، لكنها تستطيع نقل 100 طن في كل مرة .. اذا احتجت كمستخدم الي نقل طن في كل مرة فانك ستستخدم السيارة الصغيرة لانها الاسرع، بينما اذا احتجت لنقل عشرات الاطنان فانك ستختار المقطورة الضخمة لانها الاسرع في نقل هذه الاحمال.
بمعني آخر، اذا كنت تظن ان المعالج الكمي سيكون في ساعتك وهاتفك وحاسبك في المستقبل القريب، فأنت واهم عزيزي القارئ، لن يحدث هذا في أي وقت قريب، ليس فقط بسبب تكاليف تصنيع المعالج الكمي الرهيبة، ولا بسبب استهلاكه الهائل للطاقة، ولا بسبب برمجته البالغة الصعوبة، ولكن بسبب أنه ببساطة لن يكون أسرع من معالجك التقليدي الذي تعودت عليه!
وهذا الأمر الأخير بالذات هو مايؤرق مشجعي الحواسيب الكمية ويقض مضاجعهم، فبتكاليف بناء معالج كمي واحد، يمكننا بناء المئات أو قل الآلاف من المعالجات العادية القوية، ودمجها معا، بل يمكننا بناء معالج واحد خارق، تخيل معي مثلا معالج من طراز X86 من Intel أو AMD. بمعمارية جديدة من الصفر تماما، بعدد 256 نواة، كل نواة تعمل بتردد 7GHz أو قل حتي 10GHz وبتبريد نيتروجيني سائل، واستهلاك طاقة 2000 واط؟ لن يكلفنا هذا المعالج عشر تكلفة المعالج الكمي ولا حتي عشر استهلاكه للطاقة، وسيوفر قدرة حاسوبية مخيفة تفوق اي معالج متوفر الان. يمكننا أيضا دمج هذا المعالج مع معالجات مماثلة له وصنع حاسوب خارق يناطح أي حاسوب كمي معاصر.
نحن بالطبع لا نزال في بدايات مشوار الحوسبة الكمية Quantum Computing، وينتظرنا تحقيق العديد من الانجازات فيه والتي ستخفف بالطبع من وقع كل العيوب الحالية، لكن حتي مع التخفيف، كيف ستخفف تكلفة تصنيع 10 مليون دولار (بل قل مليار دولار للحواسيب الكمية القوية)؟ كيف ستخفف استهلاك طاقة 35 الف واط (أكثر من ذلك بكثير للحواسيب الكمية القوية)؟ كيف ستخفف تعقيد التركيب الشديد والتجهيزات المهولة وهشاشة استقرار النظام وتعرضه للفشل والخطأ عند أقل خلل؟ بل كيف ستستقر علي نظام لبناء لمعالج الكمي نفسه من الأصل وأنت لا تعرف أي نظام هو الأفضل؟ هل الأيونات المشحونة أم الفوتونات أم الذرات الخاملة؟
الجواب ببساطة أنه ولمدة عشرة سنوات قادمة علي الأقل، لن يمكنك تخفيف أي من هذا الي معدلات مقبولة علي الاطلاق، وما لم يحدث فتح تقني ضخم، فان الحاسب الكمي لن يصبح شائعا الا في أوساط المعامل والمختبرات المجهزة، وربما بعض الحواسيب الخارقة الضخمة، أما أن يتم تصغير الحاسب الكمي ليصير شائعا وسطنا نحن المستخدمين العاديين فهو أمر لا يتوقع أحد حدوثه حتي ولو بعد 25 عاما أو ربما 50 عاما، أو ربما حتي 100 عام!
وحتي يأتي هذا الأوان فنحن عالقون في فخ مادة السيليكون المسكينة .. أو ربما مواد أخري جديدة صاعدة .. لكن حتي ذلك الحين لا تسمح لأحد أن يزرع فيك أملا زائفا بقرب استخدام الحاسوب الكمي عما قريب، أو بأنه سيكون الحل لكل مشكلاتنا الحالية .. فهو لا هذا ولا ذاك، هو سراب لحلم وردي نطارده باستمرار في صحراء الحوسبة التي أصبحت جرداء .. سراب لن نستطيع الحصول عليه أو الوصول اليه لانه لا يزال سرابا حتي هذه اللحظة، وحتي في المستقبل القريب .. لا تضيع وقتك في مطاردة السراب مثل التائه في الصحراء عزيزي القارئ، ودعنا ننتشل أنفسنا الي أرض الواقع حيث نحل مشكلاتنا بالابتكار، لا الحلول السحرية ذات استهلاك الطاقة ذو الـ 35 ألف واط!
?xml>