لقد حان الوقت لنتوقف عن تطوير واستخدام الحواسيب والهواتف المحمولة والتطبيقات بنفس العقلية القديمة .. لم تعد تلك تصلح بعد اليوم.

إن زمن تطور سرعة المعالجات والعتاد بخطي سريعة وكبيرة قد ولي إلي غير رجعة، لم نعد قادرين علي زيادة تردد عمل المعالجات ولا سرعة استجابتها مثلما كنا نفعل قديما، لم نعد قادرين علي خفض حرارتها واستهلاكها للطاقة بالقدر الذي كنا نفعله قديما .. لم نعد قادرين علي اعادة هيكلتها بشكل جذري كما اعتدنا دوما .. صار الأمر أصعب وأصعب .. صارت عمليات تصنيع المعالجات والدوائر الكهربية مكلفة للغاية والعائد منها متواضع، صار شكل الدائرة الكهربية أهم من صغرها وصارت قوانين الطبيعة تكافحنا في كل خطوة نخطوها للأمام.

حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن!

ولا يوجد بديل للأسف، لن ينفعنا في هذا المعالجات الكمية Quantum Processors، ولا المعالجات العادية الخارقة ذات الآلاف من الأنوية، نحن في هوة سحيقة لا قرار لها، ولا مخرج منها في أي وقت قريب.

لهذا لم تعد عقلية تصميم المعالجات القديمة تصلح، ولا صارت عقلية تصميم التطبيقات والبرمجيات علي أساس تلك المعالجات تصلح أيضا. لقد أصابنا البذخ والاسراف والتراخي، صرنا نكبر حجم كل شئ ونزيد في تعقيده بلا حساب، شاشات بوضوح عرض جنوني 4K و 8K، شاشات أخري بسلاسة عرض فائقة 120Hz و 144Hz و 240Hz، صور ومرئيات ومقاطع مرئية ذات تفاصيل ضخمة بمعدل عرض 4K60 و 8K60 بل و 16K أيضا .. آلات تصوير بحساسات ودقات تصوير خرافية 100MP و 150MP، صوتيات باحكام صوتي في غاية الصغر وصوت مجسم من خمسين اتجاه .. الخ.

حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن!

ثم والأسوأ من هذا رفعنا سقف طموحنا، نريد من الألعاب والمقاطع المرئية والصور والأفلام، أن تعمل كلها بنفس جودة وسائل العرض تلك، نريد 60 بل 120 بل 240 صورة في الثانية .. ونريدها بوضوح ودقة عرض 4K بل و 5K و 8K .. بعشرات الملايين من الألوان، نريد تمثيل مطابق 1:1 بين ما البيانات وبين وسائل العرض لا نريدهم حتي مضغوطين .. ثم نحن فوق ذلك نطلب المزيد، نطلب محاكاة أكثر للضوء والرسوم ثلاثية الأبعاد، نطلب رسوما أكثر في الألعاب وفي التطبيقات، نريد أشكال متحركة كثيرة والوان مبهجة تشجعنا علي استخدام التطبيقات نريد تحريكا سلسا وطبيعيا وواقعيا للرسوم .. نطلب ظلالا أكثر وانعكاسات أكثر، نطلب رسوما أقوي! بل إننا نطلب تجسيما ثلاثي الأبعاد للرسوم في الألعاب وواجهات استخدام التطبيقات من خلال نظارات الواقعية الافتراضية Virtual Reality، بل نطلب أيضا واقعية معززة Augmented Reality هي مزيج ما بين الحاسب وعالم الواقع .. نطلب كل هذا وأكثر، ولا نتوقف عن الطلب قط! حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن!

لكن من سيحقق كل هذا؟ أين المعالجات التي ستتحمل عبأ تشغيل كل ذلك؟ بل أين مساحة التخزين التي ستكفي كل ذلك؟ اننا الآن بالكاد نزيد سرعة ما لدينا بالفعل، فما بالك بكل هذه الخيالات  التي نطلبها؟! لن نحصل علي شئ من هذا بالقطع! إن المعالج الذي يشغل لعبة بوضوح 4K يحتاج الي 3 أضعاف قوة معالجته علي الأقل ليشغل نفس اللعبة بوضوح 8K! والمعالج الذي يشغل اللعبة أو الشاشة بمعدل عرض 120Hz يحتاج ثلاثة أضعاف القوة الحوسبية علي الأقل ليشغلها بمعدل عرض 240Hz .. فما بالك اذا طلبت منه ان يجمع بين الحسنيين؟ 8K و 240Hz؟ ان القوة المطلوبة في هذه الحالة ستكون عصية حتي علي التخيل! نحن بالكاد نحصل علي معالجات أفضل مما سبقت بنسبة 50 في المائة .. فما بالك بضعفي هذه النسبة او ثلاثة أضعافها؟ لن نحصل علي شئ من هذا بالقطع!

الا إذا غيرنا من طريقة تفكيرنا بالكلية .. الا إذا اقتبسنا صفحة من الطبيعة حولنا، ومن الخلق حولنا، صفحة ترشدنا وتدلنا علي الطريق الأصوب لتصحيح البذخ الذي غرقنا فيه حتي الثمالة، البذخ الذي لا داعي له علي الاطلاق!

إن الامر مذهل للغاية ياصديقي، قف في شارع مزدحم في وقت الذورة، تأمل ما حولك، عينك وحدها تستقبل ما لا يقل عن ملايين الجيجابايتات من المعلومات البصرية والحركية .. عشرات المليارات من الذرات والجسيمات حولك ترسل لك المليارات من الألوان والأطياف الضوئية من كل شكل ونوع، الملايين من الحركات والأجسام المتحركة أمامك في كل لحظة، من الهواء الي الناس والملابس والجوامد والمركبات والنباتات والحيوانات والشاشات .. ملايين الجيجابايتات حرفيا من المعلومات البصرية والحركية .. لكن مخك في النهاية لا يستقبل منها سوي عشرات الميجابايتات فقط، ينقلها اليك العصب البصري Optic Nerve في هيئة مضغوطة .. إن حواسك مصممة لاستقبال ما هو مهم ومفيد بأقصي درجات الاختصار الممكنة .. فلماذا لا يفعل الحاسب المثل؟

حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن!

إن العين لا تري العالم بوضوح الا من خلال نقطة ضيقة للغاية تسمي النقرة أو البؤرة Fovea، ومن خلالها تري كانسان الألوان وتري الأجسام بوضوح  Resolution وتجسيم عال، ان جودة الرؤية من خلال هذه البؤرة لا تتعدي 15MP أي 15 مليون لون، وهي دقة بعيدة للغاية عن آلات التصوير القوية التي وصلت 100Mp وأكثر حاليا .. بل إنها دقة أصغر كثيرا من شاشات العرض ذات وضوح 8K التي وصلت لقدرة عرض 33 مليون لون في مساحة صغيرة .. بل هي أصغر كذلك من شاشات 6K التي وصلت لـ 18 مليون لون.

هناك ما هو أكثر، إن العين تري بوضوح 15MP فقط في وضعية الثبات .. وفي مساحة ضيقة للغاية .. أما وضعية الحركة والأجسام المتحركة فتلقطها العين بدقة وضوح أقل بكثير وباحكام لوني متواضع للغاية! والعين تعوض كل ذلك بتحريك نفسها عددا من المرات بسرعة في كل ثانية .. بمتوسط من ثلاثة الي خمسة مرات في كل ثانية، في كل مرة تلتقط صورة سريعة تغطي جزءا من المشهد أمامك .. وترسلهم جميعا الي مخك! وهي ترسل الصورمقلوبة كذلك!

[caption id="attachment_308704" align="aligncenter" width="520"]حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن! ثق أن عينك تحركت علي كل هذه النقط الحمراء وأنت تنظر الي هذه الصورة[/caption]

ثم فوق كل ذلك ترسل العين الصورة المجزأة في شكل مضغوط (وتضغطها بقوة!) الي العصب البصري الذي ينقلها للمخ، واذا لم تنقل العين الصور مضغوطة فان حجم العصب البصري سيحتاج أن يتضخم حتي يصير في حجم عنقك!

يستقبل مخك الصور المجزئة و المضغوطة، ويقوم بفك ضغطها، ثم يجمعها معا في صورة واحدة كبيرة يفهم منها المشهد كاملا أمامك .. صورة بناها المخ من الأجزاء الصغيرة الملتقطة .. وهو أيضا يقوم بقلبها لتصير غير مقلوبة!

بمعني آخر أنت تري من خلال مخك بالأساس .. وليس من خلال عينك ولا من خلال دقة استقبال الألوان .. مخك هو من يقوم ببناء الصورة من عناصر مفككة ومن دقات وضوح متباينة والوان مختلفة .. بل إن الأمر يصل الي التجسيم في حد ذاته .. فالعين لا تري المشاهد مجسمة امامها، هي تستقبل صورة مسطحة ثنائية الأبعاد خالية من أي عمق، وكل عين تستقبل جزءا من الصورة مختلف عن العين الأخري، لأن كل عين تقع في منطقة وعلي مسافة مختلفة عن الأخري .. والنتيجة الحتمية لذلك ان صورة كل عين تكون مختلفة عن صورة العين الأخري، حتي العين الواحدة بمفردها تستقبل صورا مختلفة لانها تتحرك سريعا في الثانية الواحدة لتغطي المشهد كله.

حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن!

وهنا يأتي دور المخ أيضا، الذي يستقبل الصورالمختلفة من كل عين ويدمجهم معا ليحصل علي العمق من اختلاف الوان كل صورة .. وهنا تري انت الاجسام حولك مجسمة .. ليس لانها مجسمة في صور العين، ولكن لانها مجسمة داخل مخك فقط!

بمعني أكثر وضوحا، مخك هو المسئول عن الرؤية والادراك .. بمعني أشد وضوحا، ذكاء مخك وهو من يري ومن يبني الصور ومن يجسمها .. وليس دقة العين ولا قوة بصرها ولا عمق الوانها، ولهذا نفهم معني عبارة تحويل العين بيانات الموجودات حولك من مليارات الجيجابايتات، الي عشرات الميجابايتات التي يستقبلها مخك من خلال العصب البصري ويبني من خلالها كل ما تراه. المخ يحول بذكاءه عشرات الميجابايتات تلك الي عالم كامل تراه انت وتدركه. لا يستقبل المخ مئات او حتي عشرات الجيجابايتات من المعلومات البصرية ليضيع معها وقته في المعالجة والتحويل والتجسيم وبناء الصورة .. بل يستقبل فقط ما يحتاجه من معلومات بشكل مختصر ويعوض الباقي بذكاءه وخبراته ومعلوماته التراكمية المكتسبة طوال سنين.
حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن!

هذا هو مفتاح خروجنا من مأزق التقنية الحالي .. تلك هي فلسلفة النجاه التي نحتاجها .. نحتاج بشدة الي شئ مثل هذا في عالم التقنية والحاسبات .. لا نحتاج الي بيانات ذات دقات وتفصيل جنوني مثل 8K و 240Hz و 100MP .. بل نحتاج الي جودة أكثر تواضعا، ونحتاج معها الي ذكاء يبني ويفصل بيانات أكثر وأكثر تغطي ما نريد ونرغب.

لا نحتاج الي رسوم بدقة عرض 8K، نحتاج الي رسوم بدقة عرض 2K تحول بذكاء وتبني الي 4K و 8K اذا شئنا .. لا نحتاج لمعدل حركة او سلاسة عرض 240Hz، نحتاج لمعدل 60Hz يبني ويحول بذكاء الي 120Hz و 240Hz .. وقس علي ذلك أي شئ آخر.

أين هذا الذكاء اذن؟ إنه الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence، ذكاء الآلة المدرب الذي نحبو بأولي الخطوات فيه بالفعل .. يجب أن ندرب الحاسب أن يصير مثل المخ بالضبط .. أن يتلقي معلومات قليلة ويبني ويعوض عليها لنحصل علي الكم المرغوب من المعلومات .. أن يتلقي الحاسب صورة بجودة 20MP و يحولها الي أخري بجودة 40 أو 80MP .. أن يتلقي مقطع مرئي بمعدل عرض 30 صورة في الثانية fps ويحوله الي 60 صورة في الثانية أو ما هو أكثر .. أن يشغل لعبة بوضوح 2K ويحوله الي 4K و 6K .. أن يتلقي معدل عرض 60Hz ويحوله الي 90Hz و 120Hz .. أن يجسم أبعاد الرؤية .. أن يتلقي مقطعا صوتيا بجودة متوسطة ويحوله الي آخر بجودة عالية .. أن يتلقي تصميما ثلاثي الأبعاد لشكل متوسط التفاصيل، ويحوله الي شكل معقد التفاصيل، أن يجسد اضاءة كاملة التعقيد من نموذج اضاءة متوسط ..الخ!  وأن يفعل كل ذلك بجودة أصلية كاملة أو حتي شبه كاملة .. وأن يجعل المخ البشري له قدوة.

كل هذا ممكن ونري له أمثلة أولية بالفعل في كل المجالات السابق ذكرها، بل نري له أمثلة متقدمة مثل تقنية الرسم بالتعلم العميق DLSS من NVIDIA والتي أثبتت جودة فائقة في تحويل صورة 2K الي أخري بـ 4K بجودة أفضل من جودة الـ 4K الأصلية .. لكننا نحتاج المزيد .. نحتاج الي التوسع أكثر وأكثر والتعمق في تلك المجالات، المسألة لها تعتمد علي البحث عن طريقة مثلي لتعليم الحاسب، ثم تدريبه عليها مرارا وتكرارا .. ثم تدريبه علي كل أنواع البيانات المعروفة وغير المعروفة .. حينها فقط سنقترب من مهارة المخ البشري في بناء وتعويض المعلومات الناقصة .. وحينها ستتوفر لدينا قوة حوسبية ضاربة للتمتع بكل ما نريد من رفاهيات تقنية مسرفة، بل وأكثر من ذلك أيضا .. سننطلق الي أفاق معلوماتية جديدة لم نكن ندري أنها موجودة.

حان الوقت لنا جميعا كي نترك التقاليد التقنية القديمة و المتحجرة الآن!

إن الحوسبة العلمية Scientific Computing تطبق هذه المبادئ بالفعل .. فهي مجال يتطلب محاكاة مليارات الذرات والجزيئات، وهي مسائل تتطلب قوة حوسبية ضاربة لا تنفذ، وهو مجال يعاني دوما من نقص القوة الحوسبية ومن قلة قدرة المعالجات ومن أنها غير سريعة بما فيه الكفاية دوما .. لكنها بالذكاء الاصطناعي نجحت في تقليل ما هو مطلوب من قوة حوسبية الي حدود معقولة، وأدي ذلك الي تحقيق انجازات ملموسة في كل جوانب الحوسبة العلمية، سواء كانت أبحاث الطاقة أو الفضاء  أو الأدوية والعقاقير ..الخ. إن الدرس المستفاد من هذا هو أنه طالما لم تتوفر لديك وفرة من القدرة الحوسبية، فان خيارك الوحيد هو تقليل وضغط المعلومات ثم تعويض الناقص منها باستنتاج منطقي و ذكاء .. وهو الدرس الذي نحتاج كصناعة تقنية وكوسط تقني، بل وكعالم تقني كامل في السعي في تطبيقه واستخلاص كل قدرة حوسبية منه .. يجب أن نترك العادات والتقاليد القديمة التي عفا عليها الزمن، ولم تعد صالحة للعصر، يجب أن نضغط المعلومات أكثر وأن نختصر منها أكثر بذكاء، يجب أن نتخلي عن مبدأ تمثيل المعلومات بنسبة 1:1 بأنفسنا وأن نترك للذكاء والاستنتاج المنطقي العلمي مسئولية بناء هذه النسبة من الصفر اذا لزم الأمر ..

هذا اذا رغبنا في الخروج من الهوة .. الهوة السحيقة التي سقط فيها عالم التقنية.