
علماء يزرعون شرائح إلكترونية داخل قناديل البحر لاستكشاف الأعماق!
يشهد العالم اليوم ابتكارات علمية غير مألوفة تمزج بين الكائنات الحية والتقنيات الدقيقة في سبيل استكشاف البيئات القاسية. ومن أبرز هذه المحاولات قيام باحثين في جامعة كولورادو بولدر بتطوير قناديل بحر هجينة مزودة بشرائح إلكترونية صغيرة، قادرة على جمع بيانات حيوية من أعماق المحيطات حول درجة الحرارة ومستويات الحموضة والتغيرات البيئية الأخرى.
يمثل هذا التوجه سعي العلماء إلى إيجاد بدائل منخفضة التكلفة وأكثر كفاءة من المعدات التقليدية الباهظة المستخدمة في البحوث البحرية.
من الصراصير إلى القناديل
تعود فكرة الكائنات السيبورغ (النصف آلية) إلى تسعينيات القرن الماضي، حين بدأ الباحثون في زرع أقطاب كهربائية صغيرة داخل الصراصير للتحكم في حركتها. واستخدمت هذه التجارب بهدف تحويلها إلى أدوات للبحث والإنقاذ في البيئات الصعبة.
وقد نجح علماء في جامعة تكساس عام 2015 في تطوير صراصير مزودة بحقائب إلكترونية صغيرة تتحكم في حركتها عن بعد بدقة تجاوزت ستين في المئة. كما شهد عام 2021 تطورا جديدا في سنغافورة حين تمكن العلماء من توجيه صراصير مدغشقر بنسبة نجاح وصلت إلى أربعة وتسعين في المئة باستخدام أقطاب مزروعة في أجهزة استشعارها.
ولم يقتصر الأمر على الحشرات فقط، فقد تمكن باحثون يابانيون مؤخرا من تحويل الزيزان إلى آلات موسيقية هجينة تصدر ألحانًا من خلال التحكم في طبولها الصوتية بأقطاب كهربائية. وقد أظهرت هذه التجارب أن المزج بين الإلكترونيات والكائنات الحية يمكن أن يؤدي إلى تطبيقات تتجاوز التصور التقليدي.
قناديل البحر كأدوات علمية
مع تطور هذا المسار، وجد العلماء أن قناديل البحر قد تكون الأنسب لمهام استكشاف أعماق المحيطات. المهندسة إذ أجرت نيكول وو من جامعة كولورادو بولدر أولى تجاربها عام 2020 على قناديل بحر السيبورغ في المياه الضحلة قبالة سواحل ماساتشوستس.
وصممت نظامًا أشبه بجهاز منظم لضربات القلب، يحفز عضلات السباحة لدى القناديل كهربائيًا لتوجيهها في الاتجاه المطلوب.
وتتميز قناديل البحر بكونها من أكثر الكائنات كفاءة في استهلاك الطاقة أثناء الحركة، ما يجعلها مرشحة مثالية لتكوين قاعدة لتقنيات جديدة في المركبات البحرية. فهي لا تملك دماغًا أو نخاعًا شوكيًا، لكنها تمتلك شبكة عصبية بدائية كافية للاستجابة للتحفيز الكهربائي والتوجيه.
أسرار حركة القناديل
يعمل الباحثون على دراسة أنماط الحركة التي تولدها القناديل أثناء السباحة، خاصة الدوامات والتيارات التي تنتج عن تقلص عضلاتها. ويعتمد العلماء في ذلك على تقنية تصوير تسمى قياس السرعة بجسيمات التتبع، حيث يتم تعليق جسيمات صغيرة في الماء وتسليط أشعة الليزر عليها لمتابعة حركتها بدقة.
عادة تستخدم هذه التقنية جسيمات صناعية مثل الكرات الزجاجية المجوفة أو حبيبات البوليسترين أو رقائق الألومنيوم، لكنها مكلفة وقد تحمل مخاطر صحية وبيئية، فهي غير قابلة للهضم إذا ابتلعتها الكائنات البحرية. ولهذا بدأ الباحثون بالبحث عن بدائل طبيعية قابلة للتحلل وأقل خطورة.
نشا الذرة والسهام الخفية
وجدت نيكول وو أن جزيئات النشا تمثل خيارًا مثاليًا لتعويض المواد الصناعية باهظة الثمن. فقامت بدراسة عدة أنواع من الجسيمات الطبيعية مثل نشا الذرة ونشا الأروروت ومسحوق قشور الجوز والخميرة وحتى بودرة الخبز. وجرى تعليق هذه الجسيمات في خزانات ماء مع القناديل، ثم تابعت حركتها باستخدام تقنيات الليزر.
أثبتت التجارب أن نشا الذرة ونشا الأروروت هما الأكثر ملاءمة لهذه التطبيقات، حيث تميزا بكثافة مناسبة وتوزيع متجانس للجسيمات، كما قدما نتائج ممتازة عند استخدام الليزر لرصد التدفقات المائية. وكان نشا الأروروت الأفضل من حيث التشتت الضوئي، بينما وفر نشا الذرة جسيمات أكبر حجما تناسب تطبيقات أخرى.
والأهم أن هذه البدائل الرخيصة والآمنة قدمت أداء مماثلًا للمواد الصناعية المستخدمة تقليديًا.
نحو جيل جديد من المركبات البحرية
تكشف هذه الأبحاث عن مستقبل مختلف تمامًا في استكشاف المحيطات. فالقناديل السيبورغ لا تمثل مجرد كائنات هجينة غريبة، بل تقدم رؤية عملية حول كيفية استخدام الطبيعة كأساس لتطوير أدوات علمية صديقة للبيئة وأكثر كفاءة.
وإذا تمكن العلماء من تسخير حركة القناديل لتطوير مركبات بحرية تعتمد على نفس مبدأ الكفاءة الطاقية، فقد نشهد في المستقبل القريب تقنيات قادرة على استكشاف أعماق المحيطات بتكاليف أقل وبأثر بيئي محدود.
بهذا تفتح التجارب نافذة جديدة لفهم المحيطات العميقة ومواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ، حيث يشكل جمع البيانات الدقيقة عن الحرارة والحموضة والأنظمة البيئية عاملًا حاسمًا في حماية التنوع الحيوي وضمان استدامة الحياة البحرية.
?xml>