في يومٍ ليس ببعيد، ستصعد إلى الطائرة ولن تسمع صوت الطيار وهو يرحب بك عبر المذياع، ولا ترى مساعده وهو يتفقد أجهزة القيادة قبل الإقلاع. ستجلس في مقعدك، تراقب السماء من النافذة، وتعلم أن الذكاء الاصطناعي وحده هو من يمسك بالمقود، يحدد المسار، ويتخذ القرارات.

لا يتعلق الأمر بفيلم خيال علمي أو سيناريو مستقبلي بعيد، بل واقع تكنولوجي يتقدم بثبات. حيث بدأت كُبرى الشركات بالفعل في اختبار طائرات ذاتية القيادة، خصوصًا في مجال الشحن، لتلوح في الأفق طموحات لتمدد هذه التقنية إلى الرحلات التجارية. لكن في ظل هذا التحول الثوري، تظهر أسئلة مُلحّة: هل يمكن الوثوق بطائرة بلا طيار؟ وهل الذكاء الاصطناعي قادر على التعامل مع لحظات الطوارئ والتعقيد البشري؟

في هذا المقال، نستعرض بعض الحقائق المحورية، التي تكشف كيف يمكن للطائرات ذاتية القيادة أن تعيد رسم خريطة الطيران، وتناقش في الوقت ذاته المخاوف التي ما زالت تحيط بهذه القفزة نحو المستقبل.

أخطاء البشر ما زالت السبب الرئيسي

نموذج لطائرة ذاتية القيادة - المصدر: natilus

تكشف الإحصاءات أن ما بين 70 % و80 % من الحوادث الجوية تعود إلى أخطاء بشرية، سواء بسبب سوء التواصل أو الإرهاق الذهني والبدني أو التقدير الخاطئ في المواقف الحرجة. لا تتغير هذه النسب العالية كثيرًا مهما تطورت أدوات التدريب أو زادت المساعدات التقنية، فالعنصر البشري يظل معرضًا للخطأ.

لكن على الجانب الآخر، الذكاء الاصطناعي لا يتعب، ولا يضطرب، ولا ينسى الإجراءات! بل يعمل بدقة متناهية ضمن بروتوكولات صارمة في كل مرة. لا تقلل هذه الدقة من احتمالات الخطأ فحسب، بل يمكن أن تُقلّصها بدرجة ملحوظة أيضًا مقارنةً بالتحكم البشري التقليدي، وخصوصًا في المراحل الحرجة من الرحلة.

الأنظمة الذاتية تدير معظم مراحل الرحلة

صورة للوحة التحكم داخل الطائرة - المصدر: fortune

تتولى أنظمة الطيار الآلي اليوم إدارة أكثر من 95 % من وقت الرحلة على متن الطائرات التجارية، بما يشمل الإقلاع، والتحليق، والملاحة، وحتى الهبوط. بينما يقتصر دور الطيارين غالبًا على المراقبة والتدخل عند الضرورة، ما يعكس اعتمادًا متزايدًا على الأتمتة داخل قمرة القيادة.

ومع تطور خدمات الذكاء الاصطناعي، بدأت شركات الطيران في اختبار أنظمة تحكم متقدمة قادرة على تسيير الرحلات بالكامل من البوابة إلى البوابة (gate-to-gate) دون وجود طيار على متن الطائرة، مكتفية بمراقب بشري عن بُعد يتدخل فقط عند الحاجة.

ولا يقتصر هذا التقدم على الجانب التقني فحسب، بل أصبح التطبيق العملي ممكنًا بالفعل في بيئات منظمة ومنخفضة المخاطر، مثل قطاع الشحن الجوي والخدمات اللوجستية، حيث توفر هذه الأنظمة أداءً موثوقًا ومسارات متكررة يسهل إدارتها ذاتيًا.

الكشف الاستباقي عن الأعطال

صورة لإحدى نماذج الطائرات ذاتية القيادة - المصدر: free think

تستخدم شركات الطيران الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الأداء الحي للطائرة بستمرار، بهدف الكشف المبكر عن مؤشرات ضعف أو تلف ميكانيكي، مثل تآكل المحركات أو خلل في الأنظمة. تستطيع هذه الأنظمة أن تتنبأ بالمشكلات قبل أن تُفاجئ الطائرة أثناء الرحلة، ما يتيح صيانة وقائية دقيقة.

لا يكتفي هذا النهج بتحقيق الأمان فحسب، بل يقلل من التوقف المفاجئ للطائرة ويزيد من كفاءة التشغيل ويقي المصالح الاقتصادية لشركات الطيران.

شركات نقل البضائع تقود الثورة

صورة للشحن عبر الطائرات - المصدر: xwing

بدأ أول تطبيق عملي واعتماد واسع للطائرات ذاتية القيادة في مجال الشحن. فقد تعاونت شركات مثل FedEx وUPS مع Reliable Robotics لتشغيل رحلات شحن بالطائرات الصغيرة (Cessna 208B Caravan) دون طيار على متنها، تحت إشراف مراقب عن بُعد. كما يعمل طيران هذه الرحلات على تقليل الحاجة للطيارين في الطرقات النائية والمناطق التي تعاني نقصًا في الكفاءات.

بالإضافة إلى ذلك تعمل شركة Xwing أيضًا في خط نقل الشحن والاستفادة من برامج الذكاء الاصطناعي لتسيير رحلات ذاتية بالكامل، و3000 كجم من الحمولة في بعض النماذج.

يمكن لهذا التوسع في مجال الشحن أن يكون حجر الأساس لتعميم التقنية على الرحلات التجارية قريبًا.

التنظيم يشكل العقبة الأساسية

تشترط الجهات التنظيمية مثل FAA الأميركية وEASA الأوروبية وجود طيار بشري على متن الطائرة تقليديًا. لتحويل الرحلات إلى pilotless، لكل وظيفة إضافية يقوم بها الطيار، يجب أن يُثبت النظام البديل القدرة على تنفيذها قانونيًا وتقنيًا.

في الصناعات الحديثة مثل eVTOL (طائرات الإقلاع والهبوط العمودية الكهربائية)، تتجه بعض الجهات لتنظيم عمليات الطيران إذا استوفت معايير السلامة دون طيار، بشرط إثبات أن مستوى الأمان مماثل أو أفضل من الطيران التقليدي.

الطائرات ذاتية القيادة نحو المستقبل

صورة لإحدى نماذج الطائرات ذاتية القيادة - المصدر: droneliner

يبدو أن الطائرات ذاتية القيادة ستمتد لتحدث ثورة في مفاهيم التنقل الحضري والاقتصاد العالمي وسوق العمل في قطاع الطيران. فيما يلي أربع محاور مستقبلية توضح كيف يمكن لهذه التقنية أن تُغير ملامح الحياة اليومية خلال العقد القادم.

الانتقال إلى النقل الحضري الذكي

تطور شركات مثل Wisk Aero (تملكها Boeing)، Joby Aviation، EHang، وLilium طائرات ركاب كهربائية ذاتية الإقلاع والهبوط لنقل الركاب داخل المدن على مسافات قصيرة. ومن المتوقع أن تبدأ Wisk تقديم خدمات نقل ركاب بديلة من دون طيار بحلول عام 2030، ضمن شروط تنظيمية صارمة.
تضم هذه الطائرات من 2 إلى 4 ركاب، ويصل المدى غالبًا إلى نحو 90 ميلًا/140 كم، وتعمل ببطاريات وكفاءة بيئية عالية. يُتوقع أن تصبح سوق التنقل الجوي الحضري ذات قيمة تتجاوز 30 مليار دولار بحلول 2033 مع اعتماد واسع على هذه الحلول.

نقص الطيارين يدفع نحو الطائرات ذاتية القيادة

بحسب تقرير Boeing لعام 2023، ستكون الحاجة لأكثر من 600000 طيار جديد في العقدين القادمين لتلبية الطلب على النقل الجوي. يمكن أن تخفف الأتمتة هذا الضغط من خلال تخفيض عدد الطيارين المطلوبين جوًّا، وإيجاد حلول بديلة لنقص القوى العاملة.

النمو الاقتصادي وفوائد التكلفة

يُقدر تقرير UBS أن الطيران من دون طيار قد يوفر للدوريات الجوية حوالي 35 مليار دولار سنويًا، ويمكن أن يُخفض تكلفة التذاكر بنسبة 10 % أو أكثر، خاصة في الولايات المتحدة، أما في أوروبا فيُقدر التوفير بنحو 4–8 %. وتأتي هذه التوفيرات من خفض رواتب الطيارين، وتكاليف التدريب، وتخصيص مقاعد داخل قمرة القيادة، وتحسين استغلال الطائرات.

تجارب حقيقية للطائرات ذاتية القيادة

صورة لإحدى نماذج الطائرات ذاتية القيادة - المصدر: droneliner

أجرت شركة Xwing أول رحلة دون طيار في 2021 باستخدام جهاز Cessna Caravan، عبر إشراف أرضي فقط.

كما نجحت Reliable Robotics في نوفمبر 2023 في تنفيذ رحلة شحن دون طيار، بتنسيق مع FAA، تحت مراقبة من مركز تحكم يبعد نحو 50 ميلًا، وتضمنت الرحلة كل مراحل التشغيل: الإقلاع، والطيران، والهبوط. يمثل ذلك دفعة ملموسة نحو اعتماد تقني موثوق في المجال التجاري.

مخاوف وتحديات ما زالت قائمة

رغم وعود الذكاء الاصطناعي بتحسين الأمان والكفاءة، فإن التحول نحو الطائرات ذاتية القيادة لا يخلو من جوانب مظلمة. فالتقنية وحدها لا تكفي، وهناك تحديات حقيقية تتعلق بالأمن السيبراني، والجاهزية في مواجهة الطوارئ.

القلق بخصوص الأمان السيبراني

يجعل الاعتماد على الشبكات والاتصالات الأرضية الأنظمة عرضة للهجوم السيبراني. لو تمكن متسلل من اختراق منظومة التحكم، فإن النتيجة قد تكون كارثية. لذلك يتطلب الأمر بروتوكولات حماية قوية، وأنظمة متعددة التكرار، وتشفير عالي المستوى للتأكد من عدم إمكانية التلاعب.

التعامل مع الحالات الطارئة وغير المتوقعة

حتى الذكاء الاصطناعي الذكي لا يمكنه التنبؤ بكل السيناريوهات غير المتوقعة مثل الطقس المضطرب، وإصابة الطائرة، وتعطل أحد الحساسات أو التصادم مع طائرة أخرى دون طيار أو حتى طيور. وبرغم قدرة الأنظمة على التكيف، يبقى الوجود البشري هو صاحب القدرة الأكبر على اتخاذ قرارات مرنة في اللحظة المناسبة.

القبول العام والثقة النفسية

صورة لإحدى اختبارات طائرة ذاتية القيادة - المصدر: fedx plane

وجد استطلاع رأي شمل أكثر من 8000 فرد، أن أكثر من نصفهم غير راغب في السفر على طائرة بلا طيار حتى مع انخفاض السعر.

ويوضح ذلك أن التكنولوجيا وحدها غير كافية، بل ينبغي إعداد برامج توعوية وتجارب واقعية لتغيير نظرة الجمهور تدريجيًا واعتمادهم على الفكرة.

التنظيم والاعتماد القانوني

حتى الآن، تُصر الجهات التنظيمية على وجود طيار بشري مسؤول قانونيًا. ولإلغاء هذا الشرط، يجب أن تُثبِت الأنظمة الجديدة قدرة مساوية أو أفضل من الطيار البشري في كافة المهام القانونية والفنية، وقد يتطلب ذلك سنوات من البيانات والاختبارات، وربما لا يتاح للطائرات الكبيرة إلا في أواخر الثلاثينيات من القرن الحالي.

نحو نموذج هجين ومؤسسات ذكية

صورة للوحة تحكم الطائرة ذاتية القيادة - المصدر: interesting engineering

رغم التقدم المذهل في تقنيات الطيران الذاتي، فإن الطريق نحو الاعتماد الكامل على الطائرات ذاتية القيادة لا يزال مليئًا بالعقبات. وهناك تحديات تقنية وأمنية ونفسية وتنظيمية تثير تساؤلات جدية حول جاهزية هذه الأنظمة للاستخدام على نطاق واسع.

حتى بعد اعتماد الطيران الذاتي، يُتوقع أن يظل هناك مراقب بشري يتحكم عن بُعد في عدة طائرات، وقد يسمح ذلك بتدخل سريع في حالات الطوارئ دون وجود فعلي داخل الطائرة. يُشبه النظام نموذج مراقبة الطائرات دون طيار الحالي، ولكنه على مقياس أكبر وأكثر تطورًا.

قد تبدأ المرحلة الانتقالية بطائرات تُدار بواسطة طيار بشري واحد مع دعم نظام ذكاء اصطناعي قوي بدلاً من وجود طيارَين اثنين. تعد هذه الخطوة أقل تطرفًا من النقل الكامل وتحقق وفورات في التكاليف دون الإخلال بالثقة لدى الركاب.

تقنية الذكاء الاصطناعي العام (AGI)

صورة للوحة تحكم إحدى الطائرات تحت التجربة - المصدر: uasaero

قد تتطور الأنظمة الذكية في المستقبل من أنظمة ضيقة تعتمد على إجراءات محددة، إلى أنظمة AGI قادرة على التفكير مثل الإنسان وصنع قرارات معقدة في ظروف غير متوقعة. لن يغير ذلك الأنظمة الفنية فحسب، بل الأخلاقيات والمسؤوليات أيضًا حول القرارات التي يتخذها النظام في الحالات الحرجة.

وختامًا، يبدو أننا نتجه نحو نموذج طيران هجين يجمع بين الذكاء الاصطناعي والمراقبة البشرية. فالبشر لن يختفوا تمامًا، بل سيتحول دورهم إلى التحكم والمراقبة عن بُعد.

هل يشعر الناس اليوم بالأمان نحو السفر من دون طيار؟ ربما لا، لكن المستقبل قد يثبت العكس تدريجيًا بفضل التجارب الحقيقية، والإحساس بالأمان، وتقبل الجمهور للفكرة.