كلما قرأت خبرًا جديدًا عن الرسوم الجمركية أو القيود التكنولوجية التي يستخدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأقرانه كسلاح في صراع النفوذ العالمي، أدركت حجم التأثير الذي سيقع على الصناعات الكبرى والمشاريع البحثية، وكيف أن قرارات تُتخذ في واشنطن أو بكين تتردد أصداؤها في العالم أجمع.

فكل خبر جديد يفتح نافذة على تروس معقدة من القوة والتقنية، تلتقي فيها المصالح الاقتصادية بالأمن القومي، وتصبح كل رقاقة أو برنامج ذكاء اصطناعي بمثابة قطعة في رقعة شطرنج ضخمة لا تتوقف عن التحرك.

شهدت السنوات الأخيرة اتجاهًا غربيًا نحو تنظيم تصدير بعض التقنيات الحساسة إلى دول الشرق، خصوصًا تلك التي تلعب دورًا محوريًا على الساحة العالمية. فتحكمت بعض الدول الغربية في تصدير الرقائق المتقدمة ومعداتها، مستندة إلى حرصها على أمنها الوطني وضمان ألا تتجاوز هذه القدرات الحدود المسموح بها دوليًا.

في هذا المقال، نتعرف على أهم التقنيات التي تسعى الدول الغربية لوضع قيود على تصديرها، ونستعرض كيف أثرت تلك القيود على الابتكار والصناعات الحيوية في العالم.

كيف أثر تقييد تصدير التقنيات من الغرب للشرق على المشهد التقني العالمي؟
فرض الرئيس الأمريكي الرسوم الجمركية على الصين - المصدر: sky news

أسباب التقييد

يُشكل الأمن القومي السبب الأبرز وراء تقييد تصدير التقنيات المتقدمة؛ إذ تعتبر الدول الغربية أن الرقائق فائقة الأداء ووسائل إنتاجها بمثابة أدوات حساسة قد تُستخدم في تطوير القدرات الدفاعية أو التطبيقات العسكرية، ما يجعل السيطرة على تصديرها أولوية استراتيجية.

تتفاقم المخاوف مع ما يُعرف بالاستخدام المزدوج للتقنيات، حيث يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي أو الحوسبة فائقة السرعة في تطبيقات عسكرية أو برامج رقابية متقدمة داخل بعض الدول، مثل مراقبة البيانات أو تعزيز أنظمة التشفير للأغراض الدفاعية.

تمثل القيود أيضًا أداة ضغط سياسي واقتصادي؛ إذ تستخدم الدول المتقدمة تصدير التكنولوجيات الحساسة لتوجيه العلاقات الدولية وفرض شروط استراتيجية على الدول المستهدفة. وتخلق هذه السياسات بيئة تنافسية تُحفز الابتكار المحلي لدى الدول المستقبلة للتقنيات، بينما تحافظ الدول الغربية على موقعها التنافسي في الصناعات الاستراتيجية.

كما تسهم هذه الإجراءات في حماية الصناعات الحيوية الغربية؛ إذ تساعد على الحفاظ على ميزة تنافسية في قطاعات التصنيع المتقدم والبحث العلمي، مع ضمان أن تصبح التكنولوجيا أداة للتفوق العالمي.

كيف أثر تقييد تصدير التقنيات من الغرب للشرق على المشهد التقني العالمي؟
تخوف الدول الغربية من التفوق الصيني في الذكاء الاصطناعي - المصدر: tech times

أبرز التقنيات المتأثرة

تتصدر الرقائق الدقيقة والذكاء الاصطناعي المتقدم قائمة التقنيات الأكثر تأثرًا بالقيود الغربية. تشمل هذه الرقائق وحدات معالجة الرسوميات عالية الأداء والذاكرة واسعة النطاق الضرورية لتدريب النماذج الذكية، ما يجعل السيطرة على تصديرها أولوية استراتيجية. كما تشمل القيود أدوات تصنيع الرقائق المتقدمة، مثل آلات litography المتخصصة، التي تعتبر قلب صناعة أشباه الموصلات، وتفرض على الدول المستقبلة صعوبات في تطوير قدراتها المحلية. وفيما يلي بعض الأمثلة على التقنيات المقيدة:

رقائق الذكاء الاصطناعي (AI chips)

  • فرضت الولايات المتحدة ترخيصًا لتصدير شريحة إنفيديا «H20» المتقدمة إلى الصين، وقد تسببت هذه القيود بخسائر مالية ضخمة لدى إنفيديا؛ إذ صرحت الشركة بأنها دفعت حوالي 5.5 مليار دولار في ربع سنوي واحد نتيجة الرسوم والتراخيص.
  • تمنع واشنطن شحن بعض وحدات معالجة الرسوميات (GPU) عالية الأداء من TSMC إلى الصين، وتحديدًا تلك المخصصة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

معدات تصنيع أشباه الموصلات (Lithography):

  • شملت ضوابط التصدير معدات litography المتقدمة والمصنعة في دول غربية، وهو ما يجعل تصديرها إلى الصين أو دول مستهدفة أخرى أكثر صعوبة.
  • أُدخلت قاعدة «zero-percent de minimis» لبعض معدات litography، ما يعني أن أي جزء يُصنع باستخدام مكونات خاضعة لرقابة الولايات المتحدة يلزم استخراج ترخيص لتصديره.
  • هناك رقابة جديدة على بعض الرقاقات المتقدمة (ICs) بحجم ترانزستور معين أو أداء معين، وفق تحديثات تصدير أشارت إلى تصنيف ECCN جديد لهذه المنتجات.
كيف أثر تقييد تصدير التقنيات من الغرب للشرق على المشهد التقني العالمي؟
صورة توضيحة لجهاز Litography - المصدر: eenews europe

برمجيات تصميم الشرائح (EDA / التصميم الهندسي)

  • تشمل التقييدات برمجيات هندسية مخصصة لتصميم الرقائق، وهي أدوات رئيسية في تطوير أشباه الموصلات القادرة على الاستخدامات المتقدمة.
  • في مايو 2025، أصدرت إدارة التجارة الأمريكية (BIS) رسائل إلى شركات EDA مثل Cadence وSynopsys وSiemens EDA تطلب تراخيص لتصدير برمجيات تصميم الرقائق إلى الصين، بحجة «الاستخدام العسكري المحتمل».
  • تأثرت بعض الشركات الصينية مثل Xiaomi بهذه الضوابط، خاصة في أثناء تصميم شرائح محلية باستخدام برمجيات تصميم غربية.

البنية التحتية الحيوية وتقنيات الاتصالات

إلى حدٍ كبير، وُجهت القيود نحو مكونات الشبكات الحساسة والأنظمة التي يمكن استخدامها للمراقبة أو التحكم، ما يحد من قدرة بعض الدول على بناء شبكات اتصالات متقدمة دون الاعتماد على موردين خاضعين لرقابة تصدير.

تقنيات الطيران والدفاع

تشير بعض التقارير إلى فرض قيود على برمجيات هندسية متخصصة في تصميم أنظمة الطيران أو الأسلحة، التي تعتبر ذات قيمة استراتيجية عالية. تعتمد كثيرًا هذه النقطة على لائحة التصدير الموحدة وعلى تشديد الرقابة على “التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج”.

كيف أثر تقييد تصدير التقنيات من الغرب للشرق على المشهد التقني العالمي؟
مصانع الإنتاج الحربي - المصدر: defence industry europe

تأثير القيود على الشرق

تتعرض مشاريع الابتكار المحلي لوتيرة تباطؤ محسوسة، خصوصًا في القطاعات التي تعتمد على مكونات متقدمة مثل أشباه الموصلات والحوسبة عالية الأداء. فحين يصعب الحصول على الرقائق أو معدات التصنيع المتقدمة، تتأخر برامج البحث والتطوير، وتتغير جداول الإطلاق للمنتجات الجديدة، ما يؤثر على قدرة الشركات على المنافسة إقليميًا وعالميًا.

إلى جانب ذلك، تؤدي القيود إلى زيادة التكاليف التشغيلية لصانعي التكنولوجيا والحكومات المستورِدة، عبر ارتفاع أسعار البدائل الأضعف أداءً أو عبر تكاليف إعادة تصميم منتجات لتتناسب مع المكونات المتاحة محليًا. وتضيف العقبات اللوجستية وتعقيدات تراخيص التصدير أعباءً إدارية ومالية أخرى تؤثر على هامش الربح وإمكانات التوسع.

على المقابل، تحفز هذه الضغوطُ ردود فعل استراتيجية لدى بعض الدول الشرقية، فتتجه للاستثمار الكبير في التصنيع المحلي وبرامج دعم حكومية لبناء سلاسل توريد مستقلة أكثر متانة. تتضمن هذه الاستثمارات بناء مصانع رقاقات وتمويل مراكز أبحاث وتقديم حوافز للشركات الوطنية لتسريع المسار نحو الاكتفاء الذاتي التكنولوجي.

كيف أثر تقييد تصدير التقنيات من الغرب للشرق على المشهد التقني العالمي؟
زيادة إنفاق الصين على تقنيات الذكاء الاصطناعي - المصدر: caixin global

تأثير القيود على الغرب

يتضح عند متابعة مشهد تقييد التصدير في الغرب أن القرارات تحمل تأثيرات تمتد داخل اقتصادات هذه الدول نفسها. فشركات التكنولوجيا الغربية تجد في هذه الإجراءات وسيلة لحماية تفوقها الصناعي؛ إذ تمنحها مساحة زمنية مريحة لتطوير ابتكارات جديدة بعيدًا عن منافسة دول تمتلك قدرات تصنيع ضخمة. ويظهر ذلك في قطاعات الرقائق الدقيقة والذكاء الاصطناعي التي تتطلب استثمارات مستمرة، ما يجعل الأسواق المحمية عاملًا مساعدًا لحفظ القيادة التقنية.

ومع ذلك يواجه الغرب تحديًا حساسًا يتمثل في احتمال خسارة أسواق شرقية كبرى اعتادت شراء المعدات المتقدمة. فهذه الأسواق ساهمت لسنوات طويلة في تمويل توسع شركات التكنولوجيا، ما يجعل فقدانها عبئًا اقتصاديًا على المدى البعيد. وهكذا يدخل الغرب في معادلة معقدة تجمع بين حماية الصناعة ومخاطر الانكماش التجاري.

إلى جانب ذلك، تدفع القيود القاسية صناع القرار في الغرب إلى تسريع تطوير تقنيات بديلة تعزز استمرار التفوق في الذكاء الاصطناعي والطاقة والاتصالات والبرمجيات الدفاعية. ويتحول الضغط الجيوسياسي إلى دافع لإحداث موجة ابتكار جديدة، تُبقي التفوق التقني جزءًا من النفوذ العالمي الذي تسعى هذه الدول إلى صيانته مهما كانت تكلفة التبدلات في الأسواق.

كيف أثر تقييد تصدير التقنيات من الغرب للشرق على المشهد التقني العالمي؟
اهتمام الدول الغربية بإنشاء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي - المصدر: NYT

استراتيجيات الدول الشرقية

اتجهت كثير من الدول الشرقية إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي عبر سياسات دعم قوية من الحكومات، خاصة في مجال صناعة الرقائق. فقد أطلقت الصين استثمارات ضخمة في بناء مصانع أشباه موصلات محلية، بهدف تقليل اعتمادها على المكونات المستوردة.

في هذا السياق، برز تعاون بين دول مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان لتأسيس بدائل تكنولوجية مشتركة وسلاسل توريد محلية. ويتضمن هذا التعاون التنسيق على مستوى سلاسل الإمداد وتقوية القدرات التصنيعية، لتقليل المخاطر الناجمة عن قيود التصدير الغربية.

أما على صعيد القطاع الخاص، فتلعب الشركات المحلية دورًا محوريًا في مواجهة الحصار التكنولوجي. فتنشط شركات تصنيع الرقائق الصغيرة والمتوسطة في تطوير حلول مبتكرة محلية، وتعمل شركات تكنولوجيا ناشئة على بناء أنظمة ذكاء صناعي تعتمد على معايير محلية لتجاوز القيود المفروضة على مرور التقنيات المستوردة. كما يساهم هذا الابتكار المستقل في بناء منظومة تكنولوجية أقوى، ويعزز من قدرة الدول الشرقية على مقاومة الضغوط التصديرية والبقاء ضمن المنافسة العالمية.

كيف أثر تقييد تصدير التقنيات من الغرب للشرق على المشهد التقني العالمي؟
استخراج المعادن الأرضية النادرة وأهميتها في صناعة أشباه الموصلات - المصدر: china briefing

مستقبل المشهد التقني العالمي

تتحرك موازين القوة التكنولوجية في العالم مع كل خطوة تتخذها الدول الكبرى في تقييد تصدير التقنيات المتقدمة. وهذا النوع من السياسات يترك أثرًا واضحًا في خريطة التوازن العالمي، فيعيد تشكيل سلاسل الإمداد ويعزز مراكز القوى التي تمتلك القدرة على التحكم في التقنيات الحساسة. ومع اتساع نطاق القيود، تزداد تحركات الشركات والحكومات في الشرق والغرب للتكيف مع واقع جديد يتطلب استعدادًا اقتصاديًا واستراتيجيًا أعمق.

على جانب آخر، تبدو ملامح المستقبل مفتوحة لاحتمالات متعددة؛ إذ قد يؤدي استمرار القيود المتبادلة إلى اتساع الهوة بين الشرق والغرب ونمو منظومتين تقنيتين مستقلتين، لكل منهما معاييرها ومواردها وتوجهاتها الصناعية. ومع ذلك، يبقى احتمال ظهور مساحة تعاون مشترك قائمًا، خاصة عندما تدرك القوى الدولية أن الحفاظ على الابتكار العالمي يحتاج إلى درجة من الانسجام في السياسات والحد من التصعيد المستمر.

إضافة إلى ذلك، تمنح هذه المرحلة فرصة لإعادة صياغة العلاقات التكنولوجية بطريقة تجمع بين متطلبات الأمن القومي وحاجة العالم إلى الابتكار والتقدم. ويمكن للتعاون الدولي أن يفتح أبوابًا أوسع لتبادل المعرفة وتنظيم استخدام التقنيات الحساسة، مع وضع قواعد واضحة تقلل من المخاطر وتدعم الاستقرار الاقتصادي.

مثل هذا التوازن يمنح الدول قدرة أكبر على المضي نحو مستقبل مشترك أكثر استقرارًا في بيئة تكنولوجية تتغير بين ليلةٍ وضحاها.