أعلنت فيس بوك يوم 18 يونيو الماضي عن نيتها اقتحام سوق العملات الرقمية كاشفة عن عملتها الافتراضية الجديدة Libra والمؤسسة المسؤولة عنها Libra Association والتي كانت تنضم إذناك 28 شركة من أكبر الشركات على مستوى العالم. الكثيرون رأوا أن خطط الشركة الأمريكية الجديدة ما هي إلا خطة توسعية للسيطرة اكثر على المستخدمين فبدلاً من السيطرة على حياتهم على الإنترنت وجني الأموال من الإعلانات الموجهة ستقفز فيس بوك إلى حساباتهم البنكية, قدرتهم الشرائية وأموالهم لتصل نفوذها إلى ما لم تصل إليه أي شركة من قبل.

تلك الرؤية وإن كانت مبنية على سياسة فيس بوك خلال السنوات الماضية فإنها لا تتطابق مع المشروع الذي انضمت له 28 شركة كبرى أو على الأقل غير مطابقة لما أعلن عنه. الهدف من إنشاء تلك العملة وكما قيل في يونيو الماضي هو تسهيل عملية انتقال وتبادل الأموال بين الأفراد والخروج من ظل البنوك والإجراءات المعقدة في بعض الأحيان لإرسال واستقبال الأموال بل والأهم, التخلص من الرسوم الباهظة لتلك العملية.

فيس بوك أعلنت كذلك ومع إعلانها عن مشروعها الجديد أن عملتها الرقمية ستكون لها قيمة ثابتة ولن تكون كباقي العملات الرقمية متروكة للعرض والطلب. هذا القرار كان الدافع الأساسي وراء لفتها للأنظار أكثر من أي عملة منافسة خاصة وأنها مدعومة بشركات في كافة القطاعات ستدعمها فور إطلاقها وستعتبرها طريقة دفع لبيع منتجاتها أو تقديم خدماتها.

من جهة أخرى وفي نفس الوقت التي تخطط شركات المنظمة لعالم تبادل الأموال الجديد كان السياسيون والاقتصاديون في الدول الكبرى في حالة تسائل ومهاجمة مستمرة للعملة الجديدة. فانتشارها وسيطرتها على سوق الأموال قد يعصف بقيمة بعض العملات وقد يحول الحكومات إلى متفرج لتغيرات الاقتصاد وسوق الأموال.

هذا التضارب في المصالح بين الفريقين دفع الكثير من السياسيين والاقتصادين لمهاجمة العملة الوليدة بصورة مستمرة بل وصل إلى إعلان فرسنا وألمانيا منعهما لتداول Libra عند إطلاقها بصورة رسمية.

تلك المعركة المستمرة منذ أشهر شهدت أولى الانتصارات لمعارضي فيس بوك وعلمتها خلال الأيام الماضية حيث انسحبت 6 شركات من Libra Association خلال العشرة أيام الماضية بداية من PayPal يوم 4 أكتوبر والتي انضمت لها كل من Visa, Mastercard, Stripe, Mercado و eBay يوم 11 أكتوبر الماضي. انسحاب تلك الشركات في هذا التوقيت جعل من انسحابهم ضربة قوية للمؤسسة فالاجتماع الأول للأعضاء المؤسسين سيعقد غداً 14 أكتوبر في جينيف بسويسرا.

ولكن لماذا تنسحب تلك الشركات من مؤسسة قد تغير اقتصاد العالم خلال السنوات المقبلة؟ ولماذا في هذا التوقيت؟

لا شك أن ضغوطات السياسيين وخاصة من الكونجرس الأمريكي كان لها دوراً كبيراً في هذا الانسحاب فبالنظر للفترة الماضية سنجد أن عضوان في الكونجرس الأمريكية Schatz و Brown قد ارسلا خطاباً إلى رؤساء ثلاثة شركات من الستة المنسحبة يحذروهم من مخاطر Libra وتأثيرها على الاقتصاد العالمي وأن شركاتهم قد تواجه تحقيقات مستمرة على خلاف العادة إذا ما استمرت كأعضاء في المؤسسة.

الخطاب نص كذلك أن فيس بوك تريد أن تستفيد من فوائد الانخراط في الأنشطة المالية دون أن تعامل كشركة خدمات مالية مهدداً مرة أخرى أن الشركات الثلاثة قد تتعرض لمزيد من التحقيقات ليس فقط على التعاملات المتعلقة بعملة Libra بل على تعاملاتها المالية بشكل عام.

هذا الخطاب والضغوطات المحيطة به ليست السبب الوحيد وراء الانسحاب فالهدف من إنشاء Libra في حد ذاته يعتبر سبباً في انسحاب تلك الشركات. تداول الأموال بدون قيود أو ضوابط وبعيد عن أعين الحكومات سيفتح الباب أمام استغلال تلك العملة في عمليات النصب, تهريب الأموال والتهرب الضريبي والتهرب من الأحكام بل وصولاً لاستغلالها في أنشطة ممنوعة وانشطة إرهابية.

هذا الاستغلال السيء للعملة وإن ثبت سيوجه إصبع الاتهام مباشرة لتلك الشركات دون أن ينال من سمعة فيس بوك كما سيوجه السلطات لمقاضاة تلك الشركات نظراً لأنها شركات مالية في المقام الأول ولها دور كبير في عملية نقل الأموال.

فيس بوك وعند إطلاقها للعملة أعلنت أنها ستفتح الباب للحوار أمام كافة المتسائلين والمتخوفين من العملة الجديدة ولكنها لم تجيب قط عن الأسئلة المتعلقة بسلطات الحكومات وضوابطها في نقل وتبادل الأموال كما أنها لم تعلن عن آليتها للتأكد أن الأموال المرسلة عبر علمتها ليست مستغلة في أعمال غير قانونية.

هذا الانسحاب الكبير من الشركات المالية قد يدفع المزيد من الشركات بالتأكيد للانسحاب ولكن كون الأعضاء المتبقيين ليست لهم أنشطة متعلقة بتداول الأموال مثل Uber و Spotify قد لا يواجهوا نفس التهديدات أو المخاطر ولكن يظل التحدي الأكبر هو إقناع الحكومات المختلفة لفتح الباب أم العملة الوليدة وتقديم ضمانات لمخاوف وأسئلة المسؤولين.