في إحدى أيام الخريف المشمسة في العام 1994، لم يلحظ سائقو السيارات الأخرى أي شيء غير اعتيادي على الطريق السريع ذلك اليوم، حينما انضمت سياراتا مرسيدس أنيقتين، بلوحات ترخيص ألمانية، إلى باقي السيارات على طريق AutoRoute 1، أو كما يُعرف باسم الطريق السريع الشمالي الذي يربط العاصمة باريس بمدينة ليل في شمال فرنسا.

لكن ما شهدوه حينها كان شيئًا ربما اعتبره كثير منهم أنه محض جنون!

على الطريق السريع كانتا هناك: سيارتا مرسيدس رماديتين من طراز 500 SEL، تتسارعا إلى 130 كيلومترًا في الساعة، وتغيرا مساراتهما وتتفاعلا مع السيارات الأخرى، وكل هذا يحدث بصورة مستقلة، بدون وجود سائق في مقعد القيادة، بنظام كمبيوتر كامل يتحكم في عجلة القيادة ودواسة البنزين والفرامل!

قبل عقود من دخول شركات جوجل وتسلا وأوبر إلى مجال السيارات ذاتية القيادة، قام فريق من المهندسين الألمان، بقيادة العالم إرنست ديكمانز، بتطوير سيارة يمكنها التحرك على الطريق الفرنسي من تلقاء نفسها!

لكن ما الذي حدث تحديدًا، وكيف تطورت تقنيات القيادة الذاتية خلال العشر سنوات الماضية وإلى أين يمكن أن تصل؟

القيادة الذاتية.. من الجامعات إلى الشركات!

شهدت أواخر الثمانينيات أول نوع من السيارات المستقلة الذي نعرفه اليوم، وفي عام 1986، تمكن إرنست ديكمانز، وفريقه من جامعة ميونيخ، من تجهيز سيارة "مرسيدس-بنز" بأجهزة استشعار ومعالجات كمبيوتر، لتصبح أول سيارة آلية يمكنها السير بصورة مستقلة تمامًا على الطرق المفتوحة. ثم بدأت المنظمات الحكومية بالاستثمار في هذه التقنيات الجديدة، والتي يمكنها توفير طرق أكثر أمنًا.

وفي عام 2002، أعلنت وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية "DARPA" عن مسابقة "التحدي الكبير - Grand Challenge"، من أجل تشجيع الفرق البحثية والجامعات على بناء مركبة ذاتية القيادة، وفاز بتلك المسابقة فرق من جامعتي كارنيجي ميلون وستانفورد.

بينما في بداية العقد الماضي، استمر انتقال الأبحاث للسيارات ذاتية القيادة في التحول من الجامعات والمؤسسات إلى الشركات والمصنعين. وفي عام 2009، بدأت جوجل بتطوير نظامها الخاص بالقيادة الذاتية، والمعروف باسم "Waymo"، بالاستعانة بالفرق الفائزة في مسابقة "DARPA"، من جامعات كارنيجي ميلون وستانفورد، لدفع تصاميمهم إلى الطريق العام.



تجمع برمجيات القيادة الذاتية بين تقنية "LiDAR"، وهي تشبه في طريقة عملها الرادار ولكنها تحدد المدى عن طريق الضوء أو الليزر، وبين البيانات من خرائط جوجل، من أجل تعرف السيارة على موقعها، ثم تستخدم المدخلات البصرية والرادار لتكشف وتحدد المركبات الأخرى والمشاة والأشياء في محيطها. وتتم معالجة هذه البيانات من أجل تخطيط مسار آمن للسيارة، بالاستفادة من أجهزة الكمبيوتر المعاصرة القوية، والهدف هو محاكاة سلوك السائق البشري.

وفي عام 2012، حصلت سيارة تويوتا بريوس مُعدلة مع نظام جوجل التجريبي للقيادة الذاتية على أول رخصة تصدر في الولايات المتحدة لسيارة ذاتية القيادة. وفي عام 2014، كشفت جوجل عن النموذج الجديد من سيارة ذاتية القيادة "Firefly" التي لا تملك عجلة قيادة أو دواسة بنزين وفرامل، وفي عام 2015، قدمت جوجل أول رحلة بلا قيادة في العالم على الطرق العامة، ليأخذ الجولة رجل أعمى وهو ستيف ماهان، في ولاية تكساس. وتلك كانت أول جولة بلا سائق على طريق عام، ولم يرافقه فيها أي سائق اختبار أو شخص من الشرطة!



أقرأ أكثر: دور المعالجات الرسومية في القيادة الذاتية!

بداية تطوير الشركات الكبرى للقيادة الذاتية!

السيارات ذاتية القيادة

بحلول عام 2013، بدأت تعمل الشركات الكبرى لصناعة السيارات، بما في ذلك جنرال موتورز وفورد ومرسيدس-بنز وبي إم دبليو وغيرها، على تطوير تقنيات القيادة الذاتية للسيارات الخاصة بها. وأعلنت مرسيدس عن سيارتها S-Class التي تملك خيارات التحكم الذاتي لتوجيه عجلة القيادة، والاحتفاظ بالحارة المرورية، وزيادة السرعة والضغط على الفرامل، وتجنب الحوادث، في كل من طرق المدينة وكذلك الطرق السريعة. كما أعلنت نيسان عن سيارتها Infiniti Q50 التي تستخدم الكاميرات والرادار لتوفر قدرة الاحتفاظ والبقاء في الحارة المرورية، وتجنب الاصطدام، ومميزات التحكم الأوتوماتيكي في السرعة.

ثم في عام 2014، أعلنت تسلا موتورز عن النسخة الأولى من نظام القيادة الآلي AutoPilot، في سيارتها Model S وبإمكانه التحكم ذاتيًا في عجلة القيادة وفي السرعة، كما يمكنه تلقي التحديثات الجديدة لتطويره مستقبلًا.

وبدايةً من عام 2015، بدأت تسلا في اختبار نظام القيادة الآلي على الطريق السريع بين سان فرانسيسكو وسياتل، مع وجود سائق ولكنه يترك النظام يقودها بدون تدخل منه تقريبًا. وبحلول عام 2016، أظهرت تسلا كيف يمكن لنظام القيادة الآلي أن يركن السيارة بنفسه كما يمكن استدعائها من الجراج إلى مكان وقوف السائق. ولكن هذا النظام ليس مستقلًا بالكامل، ولا يستطيع الكشف عن المشاة أو الأشياء المحيطة بالسيارة، ويحتاج إلى تدخل السائق في أي وقت أثناء القيادة!

حوادث مميتة للسيارات ذاتية القيادة.. ولكن!

سيارات ذاتية القيادة

في عام 2016، وقع أول حادث مميت في فلوريدا، بينما كانت تعمل سيارة تسلا Model S في وضع القيادة الآلي، وقُتل السائق في الحادث. ومنذ ذلك الحادث وحتى الآن، بدأت الإدارة الوطنية لسلامة المرور على الطرق السريعة بفتح تحقيقات في 13 حادث تحطم تضمن سيارات تسلا كان يعمل بها وضع القيادة الآلي. وحتى منذ شهرين كانت هناك حادث جديد لسيارة تسلا كانت تعمل في وضع القيادة الآلي وتوفى شخصان في ذلك الحادث.

بينما في عام 2018، قتلت سيارة ذاتية القيادة، تابعة لشركة أوبر، أحد المارة في أريزونا، بعد فشل السيارة في القيام بالتوقف الطارئ. وبعد تحقيق فيدرالي في الولايات المتحدة، يُعتقد أن السيارة لم تتوقف لأن النظام الذي وُضع لتنفيذ توقف الطوارئ في الحالات الخطرة كان معطلاً. ثم حُرمت شركة أوبر من استمرار اختبار سياراتها ذاتية القيادة بعد الحادث.

لكن رغم تلك الحوادث تشير البيانات الحكومية أن سلوك السائق، أو الأخطاء البشرية، تساهم في 94% من حوادث السيارات، لذا فإن السيارات ذاتية القيادة يمكنها أن تساعد في الحد من خطأ السائق البشري، وتقلل نسبة الحوادث إلى حد كبير، وتساهم في تجنب تكاليف الحوادث والإصلاح. كما أن الأشخاص ذوي الإعاقات، مثل المكفوفين، يمكنهم استخدام السيارات ذاتية القيادة، بدون الحاجة إلى مساعدة من الآخرين، ويمكنها أيضًا أن تُعزز من استقلال كبار السن.

السيارات ذاتية القيادة.. مشاكل وتحديات ومخاوف!

السيارة ذاتية القيادة ليست جهازًا واحدًا، يمكنه أن يتوفر فجأة يومًا ما، ويصبح جاهزًا للعمل على الطرق في المستقبل القريب، لكنه نظام متكامل، مجموعة من الاختراعات المختلفة تُطبق بطريقة جديدة، ولكن لم تصل التقنية بعد إلى مستوى التحكم الذاتي الكامل الذي لا يحتاج إلى تدخل العنصر البشري في القيادة.

تضع جمعية مهندسي السيارات (SAE) تصنيفًا لمراحل القيادة الذاتية وهو يصف مدى قدرة السيارة نفسها على القيادة الآلية ومتى تحتاج إلى تدخل العنصر البشري. وتتراوح مستويات ذلك التصنيف من 0 بدون أنظمة آلية للمساعدة داخل السيارة على الإطلاق إلى المستوى الخامس الذي يصف القيادة المستقلة بالكامل.

  • المستوى 0: يقوم السائق بجميع مهام القيادة.
  • المستوى الأول: يتحكم السائق في السيارة مع بعض ميزات مساعدة القيادة.
  • المستوى الثاني: القيادة الآلية جزئيًا مثل التسارع والتوجيه، ولكن يجب أن يظل السائق مشاركًا في مهام القيادة ويراقب البيئة المحيطة طوال الوقت.
  • المستوى الثالث: لا يُطلب من السائق مراقبة البيئة المحيطة ولكن يجب أن يكون جاهزًا للسيطرة على السيارة في أي وقت ما إن يتم إشعاره بذلك.
  • المستوى الرابع: يمكن للسيارة أداء جميع وظائف القيادة في ظل ظروف محددة، ويملك السائق خيار التحكم في السيارة.
  • المستوى الخامس: القيادة الذاتية بالكامل، إذ يمكن للسيارة التحرك من نقطة إلى أخرى دون أي مساعدة من السائق في جميع الأحوال والأماكن.

مراحل القيادة الذاتية للسيارات

اليوم لا تزال معظم السيارات التجارية المتاحة في المستوى الأول والثاني، ولكن تستمر الشركات المطورة في محاولة الوصول إلى المستوى الرابع وربما الخامس في المستقبل، فسيارة جوجل التي ذكرناها سابقًا تعتبر في المستوى الرابع من القيادة الذاتية.

وكما كان تطور السيارات عمومًا مقيدًا في بداياته، وتدخلت في تشكيله مجموعة من العوامل مثل نمو شبكة الطرق وتوافر البنزين، فبالمثل، هناك تحديّات كثيرة تواجه السيارات ذاتية القيادة الآن، فهناك مثلًا المعضلات الأخلاقية، وعدم قدرة النظام على اتخاذ قرارات مناسبة في كثير من الحالات الطارئة، إذ تتطلب القيادة العديد من التفاعلات الاجتماعية المعقدة، والتي لا تزال صعبة على الروبوتات والذكاء الاصطناعي بالطبع. ثم في حال وقوع حادث، من يمكننا أن نلوم أو نحاسب إذا لم يكن هناك سائق بشري مسؤول عن القيادة؟

هناك العديد من تقنيات القيادة الذاتية حاليًا في بعض السيارات، من مكابح الطوارئ إلى التحكم الملاحي، والمستشعرات والكاميرات، والقدرة على الحفاظ على المسار أثناء السير على الطريق. لكن كل هذا لا يزال بعيداً عن القيادة الذاتية بصورة كاملة بدون الحاجة إلى تدخل العنصر البشري تمامًا. كما أن فعالية أجهزة الليزر والكاميرات تقل في ظروف الطقس السيئة كالأمطار والضباب، لهذا لا يمكن الاعتماد عليها دائمًا.

ونظرًا لارتباط السيارات الحديثة بشبكة الإنترنت، تزداد المخاوف بشأن المخاطر الأمنية، وقدرة التحكم في السيارات ذاتية القيادة عن بعد، على سبيل المثال. فكيف يمكنك التأكد من أن هذه السيارات لا يمكن اختراقها؟ فكلما أصبحت السيارات والمركبات أكثر ذكاءً وأكثر تواصلًا، ظهرت طرق أكثر للدخول إليها وتعطيل ما تقوم به!

قبل عقد من الزمن، كان مجرد التفكير في أن يكون سائق سيارتك عبارة عن سلسلة من الآحاد والأصفار هي فكرةً مثيرةً للسخرية وربما محض جنون إلى حد بعيد بالنسبة للكثيرين. لا زالت السيارات ذاتية القيادة بالكامل تكنولوجيا مستقبلية قيد التطوير، إذ يجب إزالة مجموعة متنوعة من العقبات التكنولوجية، ومعالجة بعض المسائل المتعلقة بالأمان أولًا، قبل أن يُتاح هذا النوع من السيارات للبيع تجاريًا حول العالم للمستهلكين، ونراه على أرض الواقع بالفعل!