سوق البيتكوين | رحلة من اللامركزية إلى هيمنة الحيتان!
في العالم الافتراضي حيث تتلاشى الحدود الجغرافية؛ يظهر مفهوم جديد في عالم التداول والأوراق المالية؛ وهي العملات المشفرة. بدأت رحلة هذه العملات من عتمة الإنترنت عندما أسس ساتوشي ناكاموتو العملة المشفرة الأولى؛ بيتكوين. ويُعد ساتوشي ناكاموتو أحد أكثر الشخصيات غموضًا على الإنترنت؛ فحتى الآن لم نتوصل إلى هويته الحقيقية بشكل مؤكد.
ومع تعدين العملة الأولى من البيتكوين في يناير 2009؛ انطلق سوق تداول العملات المشفرة نحو آفاق غير محدودة؛ ليصل حجم التداول بالسوق الآن إلى 78.075 مليار دولار أمريكي في اليوم الواحد! ونتذكر هنا الأيام الأولى من نشأة البيتكوين وسوق العملات المشفرة؛ إذ واجهت هذه السوق موجةً عارمةً من الاستهزاء من قبل خبراء التداول والأوراق المالية؛ واصفين التداول الرقمي على هذه السوق بألعاب الفيديو، كما اعتبروها محض ظاهرة مؤقتة على الإنترنت؛ كغيرها من الفقاعات التي لم تَدُم طويلًا.
بمرور الوقت؛ أثبتت هذه السوق قدرتها على الصمود أمام تلك التحديات، بل النمو والازدهار أيضًا؛ فهو نصر عظيم لرواد الإنترنت والعالم الافتراضي الذين تمسكوا بهذا المفهوم الجديد؛ ليصبح واقعًا قادرًا على تغيير الطريقة التقليدية التي ينظر بها الناس إلى النقود للأبد.
ولكن هل العملات المشفرة لامركزية حقًا؟ يعني مصطلح اللامركزية في العملات المشفرة أن هذه العملات تتمتع بحرية مُطلقة في عالم التداول؛ فهي غير خاضعة لأي نوع من أنوع السلطات التنظيمية؛ وهي إحدى أهم المزايا التي جذبت انتباه المستثمرين نحو هذه السوق التي تُطبق مبدأ العرض والطلب بشكل مُجرد من أي تدخلات سلطوية.
قد تظن في البداية أن العملات المشفرة لا مركزية فعلًا؛ فهي لا تخضع إلى أي سلطات تنظيمية، إذ تعتمد هذه العملات على تقنية سلاسل الكُتل (Blockchain)؛ والتي تعمل على توزيع مسؤولية التحقق من المعاملات، والحفاظ على العملات وتحديثها بشكل مستمر، على جميع المستخدمين دون سيطرة أي جهة بعينها على المعاملات التي تتم بالعملات المشفرة.
ولكن مع تُطور سوق العملات المشفرة؛ بدأ هذا المفهوم في التراجع شيئًا فشيئًا؛ حتى أصبح البعض يعتبر هذه العملات مركزيةً بشكل كامل حول كبار المستثمرين الذين يُطلق عليهم لقب «الحيتان». ويتمتع هؤلاء الحيتان بقوة حساباتهم التي تضم كميات ضخمةً من العملات المشفرة؛ بالإضافة أيضًا إلى قوة ترسانتهم التعدينية المُعتمدة على أقوى وأحدث العتاد الحاسوبي المستخدم في تعدين هذه العملات. ولهذا؛ قد يحظى هؤلاء الحيتان ببعضٍ من القدرة على التلاعب بالسوق؛ والتحكم في خفض أو رفع أسعار بعض العملات.
ولكن حتى إذا اعتبرنا العملات المُشفرة لا مركزيةً بشكل كامل؛ فقد يؤدي هذا المفهوم إلى تقلبات كبيرة وغير متوقعة في أسعار هذه العملات؛ ما يجعل هذه السوق ضمن أخطر أسواق التداول الموجودة على الساحة. وبالتالي؛ يتطلب الاستثمار في سوق العملات المشفرة درايةً واسعةً بأبعاد السوق؛ من ناحية العرض والطلب، ومن ناحية الحيتان ومتابعة أخبارهم لمحاولة توقع خطوتهم التالية.
تحف هذه السوق مخاطر عاليةً قد تُنفر من إقبال المستثمرين عليها. ولكن لا يسعنا أبدًا تجاهل حقيقة أن هذه العملات المشفرة قد أصبحت ضمن أشهر الأدوات الاستثمارية في العصر الحديث؛ فهي علامة الحداثة والتطور الرقمي في مجال التداول والأوراق المالية.
في هذا المقال؛ نُلقي نظرةً على واحدة من أكثر أسواق التداول إثارةً للجدل، مع التركيز على مخاطرها؛ وخاصةً تلك المتعلقة بهيمنة الحيتان على السوق والتلاعب بها؛ والتي قد تصل إلى تدمير الشركات الناشئة في هذه السوق!
ثورة البلوكتشين..إلى اللامركزية وما بعدها!
إذا كنت تُكِن شغفًا عميقًا لعالم البيتكوين والعملات المشفرة؛ فلا شك أنك قد صادفت مصطلح «البلوكتشين» مرارًا وتكرارًا، وقد تعلم بالفعل أن هذا المصطلح يعني بالعربية «سلاسل الكتل». ولكن كيف تعمل هذه التقنية التي أحدثت ثورةً في الاقتصاد العالمي؟
ظهرت هذه التقنية للمرة الأولى بشكلها العملي والتطبيقي مع إعلان تأسيس شبكة البيتكوين؛ ذلك بعد تعدين الكتلة الأولى من بلوكتشين البيتكوين في 3 يناير 2009 من قبل المؤسس المجهول لشبكة البيتكوين؛ ساتوشي ناكاموتو. وقد أوضح ساتوشي المعلومات الكاملة حول هذه التقنية في ورقته البيضاء التي نشرها عام 2008 بعنوان «بيتكوين: نظام نقدي إلكتروني بين الأقران». وتضمنت هذه الورقة التفاصيل الكاملة لسلاسل كتل البيتكوين؛ بما يتضمن آلية عملها، والقواعد التي تحكمها؛ فهي بمثابة الدستور لشبكة البيتكوين.
تعمل هذه التقنية على إضفاء حالةً من اللامركزية إلى العملات المُشفرة؛ فهي تضمن أن المعاملات المالية التي تتم بهذه العملات لا تخضع إلى أي نوع من أنواع الرقابة؛ فهي لا تحتاج إلى وسيط يُدير المعاملات المالية بين الأفراد.
نظام مُحكم بعناية..كيف تعمل تقنية Blockchain؟
لنفهم آلية عمل البلوكتشين؛ دعونا نتحدث أولًا عن المعاملات المالية التقليدية التي تقوم على استخدام البطاقات البنكية. وهنا طرفي المعاملة، المشتري والبائع، في حاجة إلى البنك الذي يعمل كطرف وسيط؛ وذلك للتحقق من وجود رصيد كافي ببطاقة المشتري، بالإضافة إلى تمرير الرصيد من حساب المشتري إلى حساب البائع عند إتمام المعاملة. ولهذا؛ تُعد هذه المعاملات مركزيةً حول البنوك التي تخضع غالبًا إلى القوانين الحكومية؛ فهي بمثابة رقيب على كافة المعاملات المالية التي تتم بين الأفراد.
وفي حالة العملات المشفرة؛ توصل ساتوشي إلى صياغة مفهوم جديد بهدف تحقيق اللا مركزية في تداول هذه العملات؛ وذلك من خلال تقنية البلوكتشين؛ إذ تُستخدَم هذه التقنية في استبدال الجهة الرقابية المركزية التي تحكم معاملات البيتكوين. ولتحقيق اللا مركزية؛ جعل ساتوشي مسؤولية التحقق من صحة هذه المعاملات مُوزعةً على العديد من الأفراد الموجودين على شبكة البيتكوين بشكل عشوائي؛ فالمسؤولية هنا لا تقع على جهة واحدة مركزية، بل يتقاسمها أعضاء الشبكة بشكل جماعي، أو بعبارة أخرى؛ بشكل «لا مركزي»!
والآن؛ دعونا نتتبع إحدى المعاملات التي تتم على شبكة البيتكوين. فعندما يرغب المشتري والبائع في إجراء معاملة باستخدام قدر مُعين من البيتكوين؛ تُرسل تفاصيل هذه المعاملة بشكل مُشفر إلى شبكة البلوكتيشن؛ لتبدأ عملية التحقق في التأكد من وجود رصيد كافي عند المشتري. وكما ذكرنا؛ يُشارك في هذه العملية عدد كبير من أعضاء الشبكة، في عملية تُعرف بـ«التعدين». وعند التحقق من صحة المعاملة وإتمامها؛ تُخزن الشبكة تفاصيل هذه المعاملة داخل كتلة رقمية مُشفرة (Block)، والتي تُضاف إلى سلسلة من الكتل المُتتابعة أو «البلوكتشين – Blockchain»!
وتُحدد شبكة البيتكوين جائزةً من البيتكوين عند إتمام إضافة كتلة جديدة إلى سلسلة البلوكتشين؛ إذ تصل قيمة الجائزة الآن إلى 3.125 بيتكوين؛ تُوزع على المُعدِّنين الذين ساهموا في إتمام إضافة هذه الكتلة الجديدة؛ ومن هنا يأتي مصطلح «تعدين البيتكوين». فالتعدين عبارة عن استخدام القدرات الحاسوبية الهائلة، المعتمدة تحديدًا على أقوى البطاقات الرسومية، لحل المعادلات الرياضية المُعقدة بخوارزميات البيتكوين؛ ذلك حتى يتمكن المُعدِّنون من التحقق من سماح رصيد المُشتري بإتمام المعاملة؛ ليُحصلوا في النهاية على مكافئةٍ من عملات البيتكوين.
من المثال السابق؛ يتضح لنا أن فكرة تعدين البيتكوين قائمةٌ بشكل أساسي على تداول العملة في الأسواق؛ فالكتل ما هي إلا وعاء لتخزين تفاصيل المعاملات؛ والتي تؤدي في النهاية إلى إنتاج المزيد والمزيد من عملات البيتكوين. ولهذا؛ احتاج ساتوشي إلى إضافة بعض القوانين التي تحكم كمية البيتكوين الناتجة من عمليات التعدين للحفاظ على قيمة العملة من الانهيار.
القوانين التنظيمية لتعدين البيتكوين
حدد ساتوشي عددًا ثابتًا لعملات البيتكوين التي يُمكن الحصول عليها عبر عملية التعدين؛ وهي 21 مليون عملة فقط؛ حققنا منها 19,693,725 بيتكوين حتى وقت كتابة هذا المقال. ووضع ساتوشي أيضًا آليةً تُعرف بالتنصيف؛ والتي تُنصف مكافأة البيتكوين بعد إتمام 210 ألف كتلة جديدة من البلوكتشين. ولضمان تدفق هذه الكتل بشكل منتظم؛ تتغير صعوبة المُعادلات الرياضية في عملية التعدين حسب قوة وسرعة العتاد الحاسوبي المُستخدَم؛ ذلك لتحديد فارق زمني ثابت بين إضافة كل كتلة جديدة إلى سلسلة البلوكتشين، وهو 10 دقائق فقط.
يضمن ساتوشي بهذه القوانين أن عملية التنصيف تحدث كل 4 سنوات تقريبًا؛ لتستمر عمليات التعدين في توليد البيتكوين حتى شهر مايو عام 2140! فعندها سنصل إلى 21 مليون بيتكوين لتصبح مكافأة إنشاء الكتل صفرًا. وقد حدثت عملية التنصيف الأخيرة منذ أيام؛ لتصبح المكافأة 3.125 بيتكوين؛ بعد أن كانت 6.25 بيتكوين منذ عام 2020.
أمام هذا النظام الدقيق شديد الإحكام؛ ساهمت تقنية البلوكتشين بالفعل في تحقيق اللا مركزية في العملات المشفرة. ومع ذلك؛ ظهرت بعض المشاكل الأخرى بمرور الوقت، والتي أدت إلى ظهور نوع جديد من المركزية بسوق العملات المشفرة؛ وهي المركزية حول حيتان السوق؛ إذ استغل الحيتان العرض والطلب في التلاعب بأسعار العملات حسب رغبتهم؛ معتمدين على أرصدتهم الضخمة من هذه العملات؛ وقدراتهم الهائلة على تعدين أكبر قدر ممكن من العملات المشفرة لحساباتهم الشخصية.
الجانب المظلم للبيتكوين: مخاطر الاستثمار في ظل هيمنة الحيتان
تُعد التقلبات الكبيرة غير المُتوقعة علامةً مُميِّزةً لسوق العملات المُشفرة؛ فمهما زادت درايتك بأبعاد السوق، قد لا تتمكن من توقع تقلباتها بشكل كامل ودقيق. ولهذا؛ يظل الاستثمار في هذه السوق محفوفًا بالمخاطر؛ إذ يوصي الخبراء دائمًا بالحذر عند دخول سوق العملات المشفرة. وقد تتعدد أسباب هذه التقلبات؛ ولكن يظل أبرزها غياب الرقابة والقوانين التنظيمية التي تضمن الحفاظ على العملات؛ إذ نُدرك هنا أن اللا مركزية سلاحٌ ذو حدين!
تخضع سوق تداول العملات المشفرة إلى قانون العرض والطلب بشكل كامل؛ فإذا زاد الطلب على العملات؛ سيرتفع السعر بشكل كبير وغير محدود. كما حدث في عام 2021 عندما كسر سعر البيتكوين الواحد حاجز الـ 69 ألف دولار؛ وذلك تزامنًا مع إقبال المستثمرين على هذه السوق خوفًا من الاستثمار بالأسواق التقليدية؛ إذ ظن المستثمرون أنها ستواجه بعض التحديات في أعقاب جائحة كوفيد 19.
ومع ذلك؛ فبعد استقرار الأوضاع الاقتصادية عالميًا خلال عام 2022؛ بدأ سعر البيتكوين يتهاوى مرةً أخرى. وذلك بالطبع بسبب انخفاض الطلب وزيادة العملات المعروضة. وظلت قيمة العملة في الانهيار حتى وقعت واحدة من أشهر حوادث عالم العملات المُشفرة في نوفمبر 2022؛ حادثة إفلاس شركة FTX، وهي منصة لتداول العملات المشفرة مثل Binance الشهيرة.
وجَّهت هذه الحادثة طعنةً قاتلةً في سوق العملات المشفرة؛ ليصل سعر عملة البيتكوين إلى 17000 بنهاية نفس العام.
كانت حادثة إفلاس FTX بيانًا عمليًا لمدى هيمنة الحيتان على سوق العملات المُشفرة؛ إذ يمكن اعتبار هذه الحادثة ضربةً انتقاميةً وجهتها منصة بينانس إلى منصة FTX المُنافسة لها بعد وقوع بعض الخلافات بين الشركتين.
انهيار FTX .. سوء في الإدارة، أم مؤامرة من Binance؟
في البداية؛ لنتحدث أولًا عن شركة FTX؛ هذه الشركة الناشئة التي أسسها رائد الأعمال الأمريكي سام بنكمان فرايد في عام 2019، والتي تعمل في مجال تداول العملات المُشفرة. لاقت الشركة نجاحًا كبيرًا في أيامها الأولى؛ إذ احتلت المركز الثالث بين أقوى منصات تداول العملات المشفرة في عام 2021. وبعد ستة أشهر فقط من تأسيس الشركة؛ قرر السيد تشانغبينج تشاو (أو CZ)، الرئيس التنفيذي لشركة بينانس، شراء 20% من حصة الشركة باستثمارات بلغت 100 مليون دولار أمريكي في نهاية عام 2019.
ولهذا؛ قد تظن في البداية أن الشركتين تجمعهما صلة تحالف؛ إذ ظل التعاون قائمًا بين المنصتين حتى منتصف عام 2021 تقريبًا. ولكن بدأت الخلافات بين الشركتين عندما أرادت FTX الحصول على بعض التراخيص لشركة تابعة لها بمدينة جبل طارق التابعة للحكم البريطاني؛ ونظرًا لأن بينانس تمتلك 20% من أسهم الشركة؛ طالبت إدارة جبل طارق الحصول على بعض البيانات المُفصلة حول بينانس ومؤسسها السيد CZ؛ خاصةً وأن بينانس شركة ذات خلفية صينية.
في هذه اللحظة؛ شعر السيد CZ بخطر شركة FTX المُتصاعد تجاه شركته؛ خاصةً بعد رغبتها في التوسع دوليًا لتصبح ضمن أقوى منافسي Binance؛ فهي بالنهاية شركة أمريكية مقابل شركة ذات خلفية صينية.
رفضت بينانس الإفصاح عن أيٍ من المعلومات التي طلبتها FTX، واستمرت في تجاهل مطالبات الشركة الناشئة. وقررت FTX في النهاية استرداد الحصة التي تمتلكها بينانس مُقابل 2 مليار دولار تقريبًا؛ على أن تُسدد FTX المبلغ في صورة عملات مُشفرة. وبالفعل؛ وافقت بينانس على هذا العرض شرط أن تحصل على المبلغ بعملتي الشركتين؛ الجزء الأكبر بعملة بينانس الرسمية BUSD، والجزء الآخر بعملة FTT الخاصة بشركة FTX.
بهذه الصفقة؛ حصلت بينانس على كمية ضخمة من عملات FTX؛ ما يجعلها قادرةً على الفتك بالشركة الناشئة في أي لحظة.
ومنذ هذه اللحظة؛ بدأ الصراع في التبلور بين الشركتين؛ وقرر بنكمان فرايد اللجوء إلى الجهات التنظيمية الأمريكية للاستعانة بها في صراعه مع شركة بينانس. وكانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للسيد CZ؛ إذ واجهت شركته خطرًا وجوديًا بعد أن وصلته بعض الأنباء حول محاولات بنكمان فرايد لتشويه سمعته وسمعة Binance أمام الجهات التنظيمية الأمريكية؛ ما قد يُدمر منصة بينانس تمامًا على الأراضي الأمريكية.
غضب الحيتان..بينانس تُوجه الضربة القاضية
في يوم 2 نوفمبر 2022؛ كشف موقع CoinDesk المختص بأخبار العملات المشفرة عن فضيحة كبرى في شركة FTX. فقد حصل الموقع على وثيقة مُسربة من صندوق الاستثمار في العملات المشفرة (Alameda Research)؛ وهو صندوق تابع أيضًا لمؤسس شركة FTX سام بنكمان فرايد. وبيَّنت هذه الوثيقة أن صندوق ألاميدا يحتوي على 5.1 مليار دولار تقريبًا من عملات FTT المُشفرة الخاصة بشركة FTX؛ ما يُعادل 197 مليون عملة تقريبًا من عملات FTT.
كشفت الوثائق أن صندوق ألاميدا قد تعرض إلى العديد من الخسائر المالية الفادحة بفعل استثماراته الفاشلة؛ ما دفع سام بنكمان فرايد إلى ضخ مليارات الدولارات من شركته FTX إلى صندوق ألاميدا في صورة قروض بضمان أصول من عملات FTT المُشفرة. وهنا تكمن الكارثة؛ فقد أقدم بنكمان فرايد على هذه الخطوة بشكل سري دون الرجوع إلى مجلس إدارة FTX. وعمومًا؛ لا تصلح أبدًا العملات المشفرة أن تكون أصولًا يُمكن الاعتماد عليها لضمان القروض؛ فهي بعيدةٌ كل البُعد عن كونها أصلًا ثابتًا؛ نظرًا لتقلباتها الشديدة بالطبع!
وفي هذه الأثناء؛ كان السيد CZ يُراقب الأوضاع بحرص شديد؛ منتظرًا اللحظة المناسبة لتوجيه ضربته القاضية التي ستقضي تمامًا على شركة FTX. وبعد أربعة أيام فقط من نشر هذه الوثيقة؛ أعلن السيد CZ عن بيع كل عملات FTT، التي حصل عليها عندما اشترت FTX حصته في شركتها؛ في استراتيجية سيئة السمعة في عالم العملات المُشفرة تُعرف باسم «الإغراق».
تعتمد استراتيجية الإغراق على دفع كميات ضخمة من إحدى العملات في السوق؛ ذلك لزيادة العرض بكمية كبيرة في سوق التداول، ما يؤدي في النهاية إلى انهيار سعر العملة. وبالفعل؛ حدثت حالة من الفزع بين مستثمري عملة FTT؛ إذ انهالت طلبات المستثمرين على الشركة لاسترداد أموالهم؛ لتجد FTX نفسها في النهاية مُتعثرةً في رد الأموال إلى أصحابها.
وفي محاولة بائسة لتدارك هذه الكارثة؛ وجهت كارولاين كابيتال، الرئيس التنفيذي لصندوق ألاميدا، عرضًا بشراء كافة عملات FTT التي عرضها السيد CZ في السوق؛ وذلك مُقابل 22 دولار للعملة الواحدة (وهو سعر العملة قبل الانهيار). وكان من المُمكن أن تُساهم هذه الصفقة في إنقاذ شركة FTX جزئيًا؛ إذ كان الغرض الرئيسي منها الحفاظ على سعر العملة من الانهيار في حالة إغراق السوق بعملات FTT.
ولكن بالطبع رفض السيد CZ هذه الصفقة؛ على الرغم أنها كانت صفقةً مثاليةً؛ إذ كانت ستمنع أي خسائر مالية على السيد CZ، والتي ستنتج من انهيار سعر العملة في حالة بيعها بالسوق. وهنا تظهر القوة الحقيقية للحيتان؛ فالسيد CZ لم يكن يأبه إطلاقًا إلى المكسب أو الخسارة؛ إذ استمر في المُضِي قُدمًا نحو تحقيق هدفه بالفتك بشركة FTX من خلال إغراق السوق بعملة FTT.
انهار سعر عملة FTT حتى وصل إلى 2 دولار فقط للعملة الواحدة؛ بعد أن مستقرًا عند 22 دولار قبل الأزمة؛ وذلك خلال عشرة أيام فقط!
النهاية المأساوية..إفلاس شركة FTX
في بداية الأزمة؛ اختار سام بنكمان فرايد أن يدفن رأسه في الرمال؛ إذ أطلق بعض التصريحات المنفصلة عن الواقع في محاولة منه لطمأنة المُستثمرين؛ نافيًا كل الأخبار المنتشرة حول انهيار شركة FTX من الداخل. ولكن في الواقع؛ كشفت التقارير لاحقًا أن شركة FTX كانت تواجه أزمة «إعسار» وقت إطلاق بنكمان فرايد لهذه التصاريح. والإعسار يعني أن الشركة لا تمتلك ما يكفي لسد طلبات السحب التي انهالت عليها؛ سواء من الأموال، أو حتى من الأصول غير النقدية.
تخطت قيمة طلبات المستثمرين بسحب أموالهم من الشركة حاجز الـ 8 مليار دولار تقريبًا آنذاك؛ ليجد سام بنكمان فرايد نفسه متهمًا بتبديد أموال مستثمريه. وبالتالي؛ كانت FTX في حاجة إلى الحصول على تمويل ضخم لإنقاذها من هذه الأزمة. وفي الولايات المتحدة؛ توجد العديد من المؤسسات، والشركات الاستثمارية، التي قد تتدخل في مثل هذه الظروف لإنقاذ الشركات من خطر الإفلاس. ولكن رفضت أيٌ من هذه المؤسسات التدخل لمساعدة شركة FTX؛ فهي مؤسسات استثمارية تقليدية لا تثق أبدًا في سوق العملات المشفرة.
ولهذا؛ وبعد أن انقطعت سُبل الإنقاذ أمام بنكمان فرايد؛ قرر أخيرًا اللجوء إلى السيد CZ لمساعدته في إنقاذ شركته. وفي البداية؛ وافق السيد CZ على مساعدة بنكمان فرايد عن طريق الاستحواذ الكامل على شركته FTX؛ ولكنه سيحتاج أولًا إلى الاطلاع على كافة التقارير والسجلات الخاصة بالشركة لدراسة وتقييم الوضع.
وفي اليوم التالي من إعلان هذه الخطوة؛ يُقرر السيد CZ التراجع عن شراء شركة FTX؛ في خطوة شديدة الخُبث؛ مُعلنًا أن الوضع في FTX لا يُمكن إنقاذه. وعندما تُطلق شركة بحجم وخبرة بينانس في ذلك المجال مثل هذه التصريحات؛ فإنها تُرسل رسالةً واضحةً إلى جميع المستثمرين بأنه قد فات الأوان لإنقاذ شركة FTX. ولهذا؛ اعتبر العديد من الخبراء أن السيد CZ قد استغل هذا الموقف ليوجه الطعنة الأخيرة في قلب شركة FTX؛ فهو لم يُفكر إطلاقًا في الاستحواذ على شركة FTX من البداية.
وفي يوم 11 نوفمبر 2022؛ أشهرت شركة FTX إفلاسها رسميًا، مع إقالة سام بنكمان فرايد من منصبه كرئيس تنفيذي للشركة.
وبعدها؛ وجد بنكمان فرايد نفسه في مواجهة مئات الدعاوى القضائية التي اتهمته بتبديد أموال مستثمري الشركة وإساءة استخدامها. ومنذ أسابيع؛ وقَّعت محكمة جنوب نيويورك حكمًا على سام بنكمان فرايد بالحبس لمدة 25 عامًا. وذلك بعد إدانته بتهم الاحتيال، وإساءة استخدام أموال المستثمرين؛ لتنتهي بذلك قصة الفتى الذهبي للعملات المشفرة نهايةً مأساويةً!
بعد قراءة القصة كاملةً، لا يمكننا نفي المسؤولية عن سام بنكمان فرايد؛ فهو المسؤول الأول عن كل ما حدث بشركته؛ بدايةً من منح شركة بينانس كميةً ضخمةً من عملات FTT، وصولًا إلى إساءة استخدام أموال مستثمري الشركة فيما يتعلق بصندوق ألاميدا. ومع ذلك؛ أرى أن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه بنكمان فرايد هو عداؤه مع أحد أقوى حيتان سوق العملات المُشفرة؛ إذ تُبين لنا قصة انهيار FTX مدى قدرة الحيتان على التلاعب بالسوق إلى حد الفتك بالشركات الناشئة.
وأريدك أن تتخيل سيناريو آخر من الأحداث؛ تُصبح فيه شركة بينانس حليفًا قويًا لشركة FTX. هل كانت ستواجه FTX المصير نفسه؟ بالطبع لا! فعلى الرغم من سوء إدارة بنكمان فرايد لشركة FTX فيما يتعلق بالأمور المالية؛ فإن السبب الرئيسي وراء تدمير شركته هو استهدافه من قبل أحد حيتان السوق؛ وهو السيد CZ. وبالفعل؛ كان هناك أكثر من فرصة لإنقاذ FTX من هذا المصير المأساوي؛ ولكن كانت هذه الفرص جميعها مُتمركزةً حول السيد CZ وبينانس!
والآن؛ هل ما زلت تعتقد أن هذه العملات لا مركزية بشكل كامل؟
دعني أجيب على هذا السؤال؛ فأنا أرى أن هذه العملات تتميز بحالةٍ مُتداخلةٍ بين المركزية واللا مركزية؛ فإن العملات المُشفرة لا مركزيةٌ بالفعل من الناحية البرمجية؛ فقد ضمنت تقنية البلوكتشين، المُهندَسَة بعناية، تدفق لا مركزي للمعاملات التي تتم بهذه العملات. ولكن على أرض الواقع والمعاملات المالية؛ يُمكن اعتبارها مركزيةً بصورة جزئية؛ إذ خلق هذا النظام حالةً من المركزية حول كبار المستثمرين، أو الحيتان، القادرين على ابتلاع كميات ضخمة من العملات؛ بفضل قوة محافظهم الرقمية، وقوة ترسانتهم التعدينية.
ختامًا؛ تُمثل ظاهرة هيمنة الحيتان على سوق العملات المشفرة تهديدًا كبيرًا يُنذر بِقلب مبادئ اللا مركزية رأسًا على عقب. فمع تراكم الثروات الهائلة من هذه العملات بين عدد محدود من الحيتان؛ تُصبح إمكانية التلاعب بالأسعار وتحكمهم بِمسار السوق أمرًا مُقلقًا. فهل سيتسمر هذا التناقض بين اللا مركزية وهيمنة الحيتان على السوق؟
?xml>هل العملات المشفرة لا مركزية حقًا؟
تتميز العملات المشفرة بحالةٍ مُتداخلةٍ من المركزية واللا مركزية؛ فإن العملات المُشفرة لا مركزيةٌ بالفعل من الناحية البرمجية؛ فقد ضمنت تقنية البلوكتشين، المُهندَسَة بعناية، تدفق لا مركزي للمعاملات التي تتم بهذه العملات. ولكن على أرض الواقع والمعاملات المالية؛ يُمكن اعتبارها مركزيةً بصورة جزئية؛ إذ خلق هذا النظام حالةً من المركزية حول كبار المستثمرين، أو الحيتان، القادرين على ابتلاع كميات ضخمة من العملات؛ بفضل قوة محافظهم الرقمية، وقوة ترسانتهم التعدينية.
ما سبب إفلاس FTX؛ سوء إداري أم مؤامرة من بينانس؟
كلاهما! ولكن كانت البداية في عداء شركة FTX لأحد كبار الحيتان في سوق العملات المشفرة؛ وهو رئيس شركة بينانس السيد CZ. فمع الأخطاء الفادحة التي وقع فيها سام بنكمان فرايد في إدارة شركته FTX؛ انتهزت بينانس الفرصة بتوجيه ضربتها القاضية التي دمرت الشركة الناشئة