في أواخر عام 2008، ظهر على أحد المنتديات التقنية منشور مثير يحمل توقيعًا باسم ساتوشي ناكاموتو، يدعو إلى إنشاء نظام نقدي إلكتروني بين الأفراد لا يعتمد على أي بنك أو جهة مركزية.

أرفق ساتوشي مع هذا المنشور ورقته البحثية الشهيرة بعنوان Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System، التي قدمت فكرة ثورية تقوم على تسجيل كل عملية مالية في سجل عام مشفر وموزع على آلاف الحواسيب حول العالم، وهو ما أصبح يُعرف لاحقًا بتقنية سلسلة الكتل أو «البلوك تشين»، وتُعد الأساس الذي تقوم عليه العملات المشفرة.

بعد أسابيع قليلة، في الثالث من يناير عام 2009، تم تعدين الكتلة الأولى من شبكة البيتكوين، التي أُطلق عليها اسم الكتلة الصفرية، لتكون الشرارة الأولى لعصر جديد في المال الرقمي. احتوت تلك الكتلة على رسالة مقتبسة من صحيفة The Times البريطانية تقول:

المستشار على وشك تقديم خطة إنقاذ ثانية للبنوك.

في إشارة رمزية إلى فقدان الثقة بالنظام المصرفي التقليدي بعد الأزمة المالية العالمية. وخلال سنوات قليلة ظهرت آلاف العملات المشفرة التي تعمل وفق مبادئ مشابهة، تُداول عبر الإنترنت دون وسطاء، وتمنح المستخدمين حرية كاملة في التحويل والتخزين والمقايضة.

في هذا المقال، نتعرف على هذا التحول المثير بين عالم اللامركزية وسلطة الدولة، لنفهم كيف دخلت الحكومات إلى ساحة العملات المشفرة. ونستكشف الدوافع والآليات التي جعلت الدول تمتلك ما كان يومًا رمزًا للحرية الرقمية المطلقة.

اقرأ أيضًا: تقلبات سعر البيتكوين: ما أبرز المحركات وأثرها على سوق العملات الرقمية؟

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
صورة من جريدة The Timesعام 2009 - المصدر: Medium

من الرفض إلى التبني

في البدايات، نظرت معظم الحكومات إلى العملات المشفرة بعين الريبة. فقد كانت عملة البيتكوين تُعامل كظاهرة غامضة يصعب ضبطها، ترتبط في نظر الجهات التنظيمية بالتهرب الضريبي وتمويل الأنشطة غير القانونية.

في الصين مثلًا، فرضت السلطات عام 2017 حظرًا كاملًا على عروض العملات الأولية وأغلقت منصات التداول المحلية، بحجة حماية الاستقرار المالي ومنع خروج رؤوس الأموال خارج البلاد.

أما في الولايات المتحدة، فقد بدأ المشرعون بمراقبة السوق بحذر، خصوصًا بعد ظهور عمليات احتيال ضخمة وسرقة بيانات في منصات التداول، ما دفع وكالات مثل لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC) إلى إصدار أولى التحذيرات وتنظيم حملات رقابية صارمة.

تطور موقف الحكومات

لكن تغير هذا الموقف تدريجيًا مع تزايد انتشار العملات المشفرة عالميًا، وازدياد اعتمادها في المعاملات والتجارة الرقمية. وهنا، أدركت الحكومات أن الحظر الكامل لم يعد مجديًا، فبدأت بالتحول نحو التنظيم بدلًا من المنع.

وقد كان الاتحاد الأوروبي أحد الأوائل الذين اتخذوا خطوة جريئة في هذا الاتجاه، إذ أقر في عام 2023 تشريع MiCA، الذي يُعد أول إطار قانوني شامل ينظم عمل الأصول الرقمية ويوفر تراخيص لمنصات التداول والمحافظ الرقمية، ما منح السوق طابعًا قانونيًا مستقرًا.

أما المثال الأكثر جرأة فجاء من أمريكا اللاتينية، حين أعلنت السلفادور في سبتمبر 2021 اعتماد البيتكوين عملة قانونية إلى جانب الدولار الأمريكي، لتصبح أول دولة في العالم تتخذ مثل هذه الخطوة. فقد أرادت من هذا القرار تعزيز الشمول المالي، وجذب الاستثمارات التقنية، وتقليل تكاليف التحويلات الخارجية.

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
السلفاور تعتمد البيتكوين عملة قانونية - المصدر: digital watch observatoty

وعلى الجانب الآخر، تمسكت الصين بموقفها الحازم، فاستمرت في حظر التداول والتعدين التجاري، لكنها في الوقت نفسه طورت عملتها الرقمية السيادية: اليوان الرقمي، في خطوة تُظهر أنها لم ترفض العملة الرقمية بعينها، وإنما سعت لتطويعها بما يتناسب مع نموذجها الاقتصادي الخاضع للرقابة.

كيف تمتلك الحكومات العملات المشفرة؟

على الرغم من أن العملات المشفرة نشأت لتكون خارج سلطة الحكومات، فإن المفارقة أن كثيرًا من تلك الحكومات باتت اليوم تمتلك كميات ضخمة منها، بطرق مختلفة تجمع بين الشراء والمصادرة والتعدين، بل وحتى عبر الإصدارات الرقمية السيادية. ومن بين أبرز تلك المصادر ما يلي:

أ. الشراء المباشر والاحتياطي الرقمي

بعد اعتمادها رسميًا للبيتكوين، أشارت تقارير حديثة إلى أن السلفادور تمتلك آلاف البيتكوينات، وتعتبرها جزءًا من أصولها الاستراتيجية، في محاولة لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.

وبجانب السلفادور، هناك حكومات وصناديق سيادية صغيرة مثل دولة بوتان، التي استغلت مواردها من الطاقة الكهرومائية لتعدين البيتكوين على مدى سنوات، وتضيف هذه العملات إلى احتياطاتها المالية.

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
سعي الحكومات لامتلاك العملات المشفرة - المصدر: reuters
ب. المصادرة القانونية

أما الطريق الثاني لامتلاك الحكومات للعملات المشفرة فهو المصادرة القانونية، حيث تُصادر الجهات الأمنية الأصول الرقمية الناتجة عن أنشطة غير قانونية مثل الجرائم الإلكترونية أو عمليات الاحتيال المالي.

وتُعد الولايات المتحدة المثال الأبرز، إذ تحتفظ حاليًا بما يقارب 198 ألف بيتكوين تمت مصادرتها من قضايا مختلفة، أبرزها قضايا Silk Road الشهيرة (سوق سرية على الدارك ويب أُنشئت للأعمال غير القانونية). وتدير حاليًا وزارة العدل أو دائرة المارشالات الأمريكية هذه الأصول، ثم تُباع لاحقًا في مزادات رسمية يشارك فيها المستثمرون والشركات الكبرى.

وتسير دول أخرى على النهج ذاته، مثل المملكة المتحدة والصين، اللتين تمتلكان آلاف البيتكوينات من عمليات مصادرة مشابهة.

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
مصارة الولايات المتحدة لآلاف العملات الرقمية - المصدر: voi
ج. التعدين الحكومي

في بعض الدول، لا تقتصر ملكية الحكومة على المصادرة أو الشراء، بل تمتد إلى المشاركة في عمليات التعدين، سواء بصورة مباشرة أو من خلال شركات مملوكة للدولة.

ففي كازاخستان، على سبيل المثال، نشطت الحكومة في تنظيم التعدين واستغلال الطاقة الفائضة من محطات الكهرباء لتشغيل مزارع تعدين البيتكوين. بينما في روسيا وإيران، ظهرت شركات شبه حكومية تعمل في هذا المجال بتنسيق مع السلطات لتوليد عملات مشفرة مقابل صادرات الطاقة أو كمصدر دخل إضافي.

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
اتجاه كازاخيستان لتعين العملات الرقمية - المصدر: caspian news

ورغم أن معظم هذه العمليات تتم عبر كيانات خاصة أو مختلطة، فإن الحكومات تفرض عليها ضوابط تنظيمية وتستفيد من عوائدها الضريبية والاقتصادية بشكل متزايد.

د. العملات الرقمية السيادية (CBDC)

لكن الشكل الأكثر وضوحًا لامتلاك الحكومات لأصول رقمية يتمثل في العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، المعروفة اختصارًا بـ CBDC.

وهي ليست عملات مشفرة لامركزية مثل البيتكوين، بل نسخ رقمية رسمية تصدرها الدولة وتخضع لإشرافها الكامل، بهدف تعزيز الشمول المالي ومواكبة التحوّل الرقمي في الأنظمة المالية.

ه. تطور الاقتصاد الرقمي.

أبرز الأمثلة هنا هو اليوان الرقمي الصيني، الذي وصل إلى مراحل تجريبية متقدمة في أكثر من خمسين مدينة صينية، والروبل الرقمي الروسي الذي بدأ اختباره فعليًا في البنوك المحلية، إضافة إلى مشاريع قيد التطوير مثل اليورو الرقمي في الاتحاد الأوروبي، ومشروع mBridge الذي يربط البنوك المركزية في الخليج وآسيا لتجربة التحويلات العابرة للحدود.

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
إصدار الصين لليوان الرقمي الصيني - المصدر: tech crunch

دوافع الحكومات لامتلاك العملات المشفرة

قد يبدو امتلاك الحكومات لعملات رقمية لامركزية كتناقض في جوهره، إذ وُلدت هذه العملات أصلًا لتجاوز الأنظمة المركزية، لكن الواقع أثبت أن الدافع هو الرغبة في السيطرة، والتكيف مع التحولات المالية الجديدة.

السيطرة على تدفقات الأموال

مع اتساع حجم الاقتصاد الرقمي، اكتشفت الحكومات أن حظر العملات المشفرة بشكل مطلق يعني خسارة السيطرة على مليارات الدولارات من التدفقات المالية الخارجة عن النظام البنكي. لذلك، بدأت الكثير من الدول بتقنين التداول والاحتفاظ بالبيتكوين وأخواتها ضمن أُطر ضريبية واضحة، تتيح فرض ضرائب على الأرباح أو على خدمات التداول نفسها.

مجاراة التطور التكنولوجي

يُعد دخول الحكومات إلى عالم العملات المشفرة خطوة استراتيجية لمجاراة الثورة التقنية في قطاع المال؛ فالتقنيات القائمة على البلوك تشين أصبحت أساسًا في خدمات الدفع، والتحويلات، والعقود الذكية، والتمويل اللامركزي.

وتخشى الحكومات أن تجد نفسها خارج سباق الابتكار المالي إن لم تبادر إلى فهم هذا النظام والتفاعل معه. لذلك، نرى دولًا مثل الإمارات وسنغافورة تطلق مناطق مالية رقمية تنظم الأصول المشفرة وتمنح تراخيص تداول قانونية، لجذب شركات التكنولوجيا المالية (Fintech) والمستثمرين الدوليين.

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
التطور التكنولوجي والعملات المشفرة - المصدر: cupe
تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد

تتيح تقنيات البلوك تشين مستوى غير مسبوق من الشفافية، إذ تُحفظ كل المعاملات في سجل يصعب التلاعب به أو حذفه. وقد بدأت بعض الحكومات تدرك أن هذه البنية يمكن أن تكون أداة قوية لمكافحة الفساد في المعاملات العامة.

فالأنظمة القائمة على العقود الذكية يمكن أن تضمن تتبع المدفوعات الحكومية والمناقصات في الزمن الحقيقي، وتحد من احتمالات التلاعب أو الاختلاس.

العملات المشفرة كأداة سياسية

يظهر جانب آخر أكثر حساسية في استخدام العملات المشفرة كأداة جيوسياسية. فقد شرعت دول مثل روسيا وإيران في دراسة وتبني الأصول الرقمية لتجاوز العقوبات الغربية، وإتمام التعاملات التجارية بعيدًا عن نظام التحويلات البنكية العالمي (SWIFT).

كما تُوظف بعض العملات المشفرة كوسيلة لتسوية المدفوعات الثنائية مع شركاء تجاريين أو لتخزين القيمة في ظل تقلب العملات الوطنية.

المخاطر والتحديات أمام الحكومات

رغم الحماس العالمي تجاه تبني العملات المشفرة والعملات الرقمية السيادية، فإن الطريق أمام الحكومات ليس مفروشًا بالورود. فهذه التقنية تحمل بداخلها قدرًا من المخاطر والتعقيد يعادل ما تمنحه من فرص، على سبيل المثال:

تقلبات الأسعار وصعوبة الإدارة

تظل التقلبات الحادة في أسعار العملات المشفرة واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الحكومات عند التفكير في إدماجها ضمن النظام المالي؛ إذ يصعب بناء سياسة نقدية مستقرة على أصلٍ يمكن أن يفقد نصف قيمته خلال أسبوع واحد. وقد حذر صندوق النقد الدولي من أن الأصول الرقمية قد تُعرض الاستقرار المالي للخطر إن لم تُدار بعناية وبأدوات رقابية دقيقة.

الأمن السيبراني والاختراقات المحتملة

يمثل الأمن الرقمي خط الدفاع الأهم لأي مشروع نقدي رقمي. فالهجمات الإلكترونية التي تستهدف المفاتيح الخاصة أو العقود الذكية قد تتسبب بخسائر فادحة، كما تُظهر تقارير متعددة أن مليارات الدولارات من العملات الرقمية سُرقت خلال الأعوام الماضية بسبب ثغرات أمنية.

اقرأ أيضًا: آخرها اختراق "بايبت" الكارثي.. كيف تُسرق العملات المشفرة؟

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
العملات المشفرة ومخاطر الاختراق - المصدر: security brief australia
تحديات قانونية وتنظيمية عابرة للحدود

تتجاوز طبيعة العملات المشفرة الجغرافيا، ما يجعل ضبطها قانونيًا أمرًا شديد التعقيد. فالسؤال الدائم هو: أي قانون يسري على معاملة رقمية عُقدت بين طرفين في قارتين مختلفتين؟ كما أن الفجوات التنظيمية ما زالت كبيرة؛ إذ تعمل كثير من الأصول الرقمية خارج الأُطر التشريعية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

ثقة الجمهور في العملة الوطنية

تتعلق إحدى المخاوف التي تُثار في الأوساط الاقتصادية بإمكانية تراجع الثقة العامة في العملة المحلية عند توسع التعامل بالعملات المشفرة. فحين يرى المواطن أن الأصول الرقمية تمنحه مرونة أكبر أو عائدًا أعلى، قد يقل اعتماده على العملة الرسمية، وهو ما قد يُضعف قدرة البنك المركزي على توجيه السياسة النقدية.

ما هي العملات المشفرة؟ وكيف ولماذا تتسابق الحكومات لامتلاكها؟
التنافس بين العملات المشفرة والعملات المركزية - المصدر: information age

نحو نظام مالي مزدوج؟

من المرجح أن يسلك العالم طريقًا نحو نظام مالي مزدوج يجمع بين العملات المشفرة اللامركزية والعملات الرقمية التي تصدرها الحكومات. فبدلًا من الصراع بين الطرفين، قد نشهد نوعًا من التعايش الذي يوازن بين الحرية التقنية والرقابة الاقتصادية.

كذلك، قد نشهد في السنوات المقبلة بروز تحالفات نقدية جديدة مبنية على تقنيات البلوك تشين، تُسهل المدفوعات العابرة للحدود وتقلل التكاليف البنكية. ومن هنا، يبرز السؤال الأهم: كيف ستتعامل البنوك والمؤسسات المالية التقليدية مع هذا الواقع الجديد؟

الجواب الأرجح أنها لن تختفي، لكنها ستُجبر على تغيير سياساتها؛ فبدلًا من أن تكون الوسيط الوحيد في حركة الأموال، ستتحول إلى جسر يربط بين الاقتصاد التقليدي والعالم الرقمي. ويبدو أن مستقبل النظام المالي العالمي يتجه نحو صيغة أكثر مرونة، يصبح فيها البلوك تشين والشفافية الرقمية جزءًا من المعادلة الاقتصادية الكبرى.