في البداية، كانت الفكرة. وكل ابتكار عظيم غيّر وجه البشرية لم يكن سوى شرارة اشتعلت في عقل إنسان، قبل أن تتحول إلى واقع ملموس. حينما اكتشف الإنسان النار، على سبيل المثال، لم يكن يدرك أنه يشعل معها فتيل حضارة ستمكنه من السيطرة على الطبيعة. وحين نقش أولى الحروف على الألواح الطينية، لم يكن يعلم أنه يبدأ أول خطواته نحو عالم تقوده البيانات والمعلومات.

اليوم، نقف على أعتاب زمنٍ يُعيد تعريف مفاهيم التواصل، ومن بين تلك المفاهيم، تبرز أمامنا تكنولوجيا البلوكتشين – أو ما يعرف مُعرّبًا باسم سلسلة الكتل -كمفهوم بارز ورئيسي في ركب التطور الرقمي، إذ لم تَعُد البيانات مجرد رموزٍ في فضاءٍ رقمي، بل صارت كيانات توصف بأنها "مُستقلة" في طور مُشفَّر، وموزَّعة بأنماط مُميزة وفريدة، قادرة على تخطّي التزوير أو التلاعب.

لم تأتِ هذه الثورة التقنية من العدم، وإنما كانت ثمرة تطور طويل بدأ مع ابتكار وحدات الحوسبة المركزية CPU بمثابة عقل مدير للحواسيب البدائية ، ثم انتشار شبكة الإنترنت بعد خروجها من الأدراج السرية العسكرية الأمريكية، ووصولًا إلى لبنات بناء مفهوم الذكاء الاصطناعي، حتى جاءت اللحظة الفارقة في عام 2008، حين قدّم شخص -أو مجموعة أشخاص- مجهولة تحت الاسم المستعار "ساتوشي ناكاموتو" أول تطبيق فعلي لتقنية بلوكتشين عبر ابتكار العملة المشفرة الأشهر: البيتكوين، العملة الرقمية التي وُلدت من رحم أزمة مالية عالمية طاحنة آنذاك؛ كشفت عن هشاشة الأنظمة المالية والمصرفية التقليدية.

استندت هذه العملة إلى مفهومٍ بسيط لكنه ثوري: إنشاء "سجل موزّع"، لا مركزي، وغير قابل للتغيير، إذ تُسجَّل بيانات المعاملات في "كُتل مشفّرة" تُضاف إلى سلسلة متواصلة من البيانات، وصفت بأنها لا يمكن التلاعب بها أو حذفها؛ ولم تكن الفكرة مجرد ابتكار حل مالي، بل كانت انقلاب على مفهوم السلطات المركزية ذاته. إذ لم يعد النظام المالي بحاجة إلى وسيطٍ مصرفي يفرض سلطته الاحتكارية النقدية، بل أصبح لدى الأفراد العاديين القدرة على التعامل مباشرة مع شفرة رياضية صارمة لا يمكن التلاعب بها، بدلًا من مؤسسات قابلة للخطأ وعرضة للفساد الأخلاقي على حساب الآخرين.

لم تعد تقنية البلوكتشين اليوم حكرًا على عالم العملات الرقمية وحده، بل توسعت – منذ بداياتها في الحقيقة – لتشتمل على مجموعة من الاتجاهات والابتكارات التي استغلت عناصر التفرد والأمان، اللذان تتمتع بهما التقنية الحديثة. أخرجت لنا مجموعة من الخواص أو الابتكارات الفريدة التي تقوم على أكتاف تشفير البيانات التسلسلي غير القابل للتغيير، وهذه أبرزها.

الأمان.. إعادة تعريف

دون تعقيد الأمور على غير المتخصصين في تقنيات التشفير وآلية عمل البيانات، وباختصار، تتمحور آلية عمل البلوكتشين حول فكرة عدم تحكم جهاز حاسوب واحد فقط في البيانات المستخدمة، فإذا افترضنا أن طريقة عمل البيانات التقليدية غير المحمية بطبقات التشفير كالتالي: من المرسِل إلى الإنترنت ثم إلى المستقبِل، فإن عمر البلوكتشين يتلخص في إرسال البيانات إلى كتلة بعينها عبر الفضاء السايبري، ومن ثم إلى كتلة أخرى ثم أخرى وهكذا. أضف إلى هذا أن سجلات إرسال هذه البيانات لا تُسجل بصفتها الرقمية إلا في "دفتر" بعينه، يعرف في الأوساط التكنولوجية باسم  دفتر الأستاذ الموزع، وهو دفتر ضخم لا يمتلكه أحد ولا يمتلك أي مخلوق على ظهر الكوكب الولوج إليه إلا الراسل والمرسل فقط.

تعبيرية عن الأمن الرقمي وأمن البيانات في تقنية البلوكتشين

إذا كان هناك نوع كهذا من تقنيات التشفير واستخدام البيانات، فهل يمكن أن يكون اختراقه أو الاطلاع عليه سهلًا؟ الإجابة حتمًا هي: لا.

في الحقيقة، يمكننا وصف البلوكتشين بأنها تقنية "الطرف إلى الطرف" أو "الندّ إلى الندّ" بمعنى أكثر دقة. واختزال الوساطة الرقمية التقليدية هو ما يجعل التقنية أرضاَ خصبة للأمان الرقمي. وقد تجلى ذلك بوضوح عندما تطورت تقنيات التشفير على نحو أوسع على مدار سنوات، وخاصة في عام 2013 عندما طوّر العبقري الروسي الكندي فيتاليك بوتيرين - Vitalik Buterin، العملة الرقمية "إيثيريوم" بأن أضاف طبقات بيانات متطورة وأكثر قابلية للبرمجة، مما يجعل توافر العملات الرقمية أكبر. وهنا ولد مايعرف باسم "العقود الذكية الحديثة"، وهي ثاني أبرز التقنيات المستفاد منها بقدر كبير، التي أفرزتها تكنولوجيا البلوكتشين.

العقود الذكية.. عالم أكثر شفافية

الأجدر بالذكر في تاريخ العقود الذكية هو أنها لم تولد من رحم تقنية البلوكتشين بالأساس، ولكن تُرجع المصادر الحديثة كلها تقريبًا ابتكار العقود الذكية إلى منتصف التسعينيات. فقد صاغ الأمريكي "نيك سابو - Nick Szabo" فكرة العقود الذكية أول مرة في عام 1994، وهو عالم كمبيوتر شهير في الأوساط التكنولوجية. كما أن سابو هو أيضًا أول من فكّر في عملة افتراضية عرفت آنذاك باسم "بت غولد" وكان ذلك في عام 1998، أي قبل عقد كامل تقريبًا من ظهور البيتكوين.

لكن ماذا تعني العقود الذكية سواء بمفهومها الأوليّ أو المطوّر؟ دعنا نبسط الأمور أولًا.

ماذا لو تخيلنا أننا نرغب في تنظيم حفلة مع مجموعة أصدقاء، لكننا نريد أن تتأكد من أن الجميع سيفعل ما تم الاتفاق عليه؟ هنا يأتي دور "العقود الذكية".

يمكننا تبسيط مفهوم العقود الذكية بوصفها برمجيات تعمل على شبكة البلوكشين تشبه العقود التقليدية، لكن بطريقة رقمية. تعمل هذه العقود تلقائيًا عند استيفاء شروط معينة، مما يعني أنك لا تحتاج إلى وسيط مثل محامي أو مصرف. هي أقرب إلى آلة أو روبوت متخصص يعمل على تنفيذ اتفاق الطرفين بمجرد أن تتحقق الشروط.

دعنا نفترض أننا قررنا أن كل من في الحفلة سيتكلفّ بمبلغ 100 دولار، ستكتب هذه الشروط في "عقد ذكي"، وعندما يدفع كل شخص حصته، يتحقق العقد من ذلك ويحول المال إلى حساب منظم الحفلة. ولكن – لنفترض- إذا لم يدفع أحد رواد الحفلة حصته، هنا لن يحدث شيء؛ فالعقد "ذكي" بما يكفي لعدم السماح لأي شيء بالخروج عن الاتفاق المبرم، فكل شيء مسجل ولا يمكن تغييره، يمكن للجميع رؤية الاتفاق دون التفكير في شُبهة التلاعب. بجوار أنها تقلل التكاليف بالتبعية، إذ تلغي الحاجة إلى وجود أي وسيط.

تعبيرية عن العقود الذكية في تقنية البلوكتشين

وإذا كان الوصف السابق بسيطًا قد لا يشرح الأمور بطريقة تقنية فريدة، فيمكننا الغوص في قلب الوصف الأصلي التقني للعقود الذكية؛ إذ تشرح أغلب المصادر المفتوحة العقود الذكية بأنها "برنامج حاسوبي أو بروتوكول للمعاملات"، يهدف إلى العمل تلقائيًا عند تحقيق شروط معينة حُددت مسبقًا ولا تتضمن هذه العقود أي صياغات قانونية أو التزامات تعاقدية ملزمة. بدلًا من ذلك، هي "شيفرات" حاسوبية تهدف إلى تسهيل إجراء المعاملات دون الحاجة إلى وسيط.

من أبرز الأمثلة المستخدم فيها العقود الذكية اليوم أيضًا؛ التمويل اللامركزي أو ما يعرف اختصارًا بـ (DeFi)، إذ تُستخدم العقود الذكية في منصات للتمويل اللامركزي لتسهيل عمليات القروض، والإقراض، وتبادل الأصول دون الحاجة إلى وسطاء، كما تستخدم أيضًا في بيع وشراء العقارات رقميًا، عالم الألعاب الإلكترونية أيضًا لم يخرج من دائرة الاستفادة، بعض الألعاب الكبرى اليوم تستخدم تقنية العقود الذكية لتمكين اللاعبين من شراء وبيع العناصر داخل اللعبة بطريقة آمنة، بجوار استخدامها في العديد من نطاقات الأمن السيبراني لتأكيد الهويات وتسهيل بعض المعاملات الاقتصادية وحتى التعليمية والتجارية.

سلاسل التوريد.. لا ثغرات

على ذكر المعاملات التجارية، فواحدة من أبرز المسميات أو العوامل الرئيسية التي تندرج تحت مظلتها، هي ما يسمى في عالم التجارة باسم "سلاسل التوريدات" Supply Chain، وهي ما يصف رحلة المنتجات أو الخدمات بداية من أصولها وحتى وصولها إلى المستخدم النهائي، وإذا ما طبقنا تقنية البلوكتشين على سلاسل الإمداد أو سلاسل التوريد، سنجد أمامنا فرصة ذهبية لتجويد عمل هذه الآلية بقدر كبير، إذ توفر البلوكتشين سجلًا رقميًا دائمًا يحتوي على جميع الحركات والمعاملات المتعلقة بالمنتج، ويمكّن جميع الأطراف المشاركة في سلسلة التوريد مثل: المصنع، والمورد، والموزع، والتاجر، وحتى العميل من الوصول إلى نفس المعلومات بشكل متزامن.

هذا التوثيق الرقمي غير القابل للتلاعب أو التغيير يوفر أعلى درجات الشفافية التي يمكن الحصول عليها في النطاق التجاري، مما يتيح دقة عالية في عمليات الإنتاج والتوريد خاصة في المجالات الحساسة التي لا تحتمل أية نسب من الأخطاء أو عمليات الغش والتلاعب، على رأسها على سبيل المثال الصناعات الدوائية، والصناعات الكيميائية الحساسة، وحتى صناعة وتوريد المعادن النفيسة والأحجار الكريمة، وجميعها صناعات ولدت ونهضت على ركائز الشفافية ودقة البيانات. ولهذا كان البلوكتشين حقلًا خصبًا لراغبي تحسين عمليات الأمداد والتوريد الحديثة.

تعبيرية عن سلاسل التوريد والإمداد عبر تقنية بلوكتشين

واليوم هناك العديد من الكيانات الكبرى التي تطبق تقنية البلوكتشين في عمليات توريداتها، وعلى رأسها مجموعة وولمارت (Walmart) الأمريكية، و عملاق الشحن البحري ماريسك (Maersk) وبجوار أسماء كبرى في عالم التكنولوجيا مثل مايكروسوفت وهواوي و آي بي إم وحتى أمازون نفسها.

كل هذا يعود إلى عنصر تطبيق قواعد الجودة في البلوكتشين، فوجود بيانات مرتبطة بمعايير الجودة "Quality Standards" والامتثال التنظيمي، يسهل على الشركات إثبات التزامها أمام الجهات الرقابية أو العملاء المهتمين بالجودة، وهي بطبيعة الحال الهدف المنشود لكل كيان تجاري يطمح إلى الوصول للهدف الأسمى: النجاح المطلق.

الأصول الفكرية.. حقوق لا تضيع

لا شك أن الأصول الفكرية بشكلها الحديث تحظى بأهمية متزايدة في عالمنا اليوم، فهي تمثل الإبداع البشري في صورة نصوص وأعمال فنية وبرمجيات، أو حتى أفكار مبتكرة في صيغ رقمية تنتمى للعالم المستقبلي، ومع انفتاح العالم الرقمي ولا محدوديته الكبيرة صارت حماية هذه الأصول من السرقة أو التعدي أمر صعب يحتاج إلى مجهود كبير، فمنذ عشر سنوات فقط لم يكن سهلًا، بل كان شبه مستحيل أن نتتبع حقوق الملكية الفكرية لأي عمل فني أو ابتكار على الإنترنت، وهنا جاءت تقنية البلوكتشين لتقدم حلًا مبتكرًا وفعالًا.

وبما أننا أسسنا فكرة أن البلوكتشين هو "دفتر" سجلات شفاف وآمن ، حيث يُمكن تسجيل أي "أصل فكري" عليه بصورة دائمة وغير قابل للتعديل أو الحذف. وهذا يعني أن كل عمل إبداعي يمكن توثيقه بملكية رقمية، مما يضمن أن المبدع الأصلي سيظل مالكًا له إلى الأبد، بغض النظر عن تداول العمل على شبكة الإنترنت.

ومن بين التقنيات المرتبطة بالبلوكتشين، التي أحدثت ثورة في هذا المجال برزت الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، وهي بتعريفها الأوليّ ليست مجرد ملفات رقمية، بل هي عقود ملكية رقمية  تثبت أصالة العمل وملكية صاحبه ومحفوظة على شبكة البلوكتشين؛ أي أن شراء أي عمل في صيغة NFT يعني امتلاك نسخة أصلية موثقة من العمل الفني أو الإبداعي.

تعبيرية عن رموز NFTs

هذا النظام ليس مجرد وسيلة للحماية، بل أيضًا منصة تجارية جديدة لمبدعين أصبحوا قادرين على بيع أعمالهم مباشرة إلى الجمهور دون الحاجة إلى وسطاء، كما يمكنهم إضافة شروط ذكية في العقد، مثل الحصول على نسبة من الأرباح في كل مرة يُعاد فيه بيع العمل.

هكذا تُقدم تقنية البلوكتشين نماذج فريدة تدعم الشفافية والعدالة والابتكار في عالم الأصول الفكرية. وهذا يدعو المرء للتفكير قطعاً في تعزيز قيمة أمن البيانات، ولا مركزية تداولها، وقطعًا لا نغفل عن تعزيز الإبداع الإنساني في المقام الأول، ومنح المبدعين قوة أكبر في حماية واستثمار أعمالهم.