في زمنٍ باتت فيه الحقيقة محل شك، وتحولت فيه الوجوه إلى قوالب قابلة للتقليد، والأصوات إلى أدوات يمكن نسخها ببراعة مقلقة، تبرز قصة جديدة من قلب أوروبا، وتحديدًا من الدنمارك، تحمل في طياتها بذور الأمل والحماية الرقمية. تخيل أن تستيقظ ذات يوم لتجد مقطع فيديو يُظهر وجهك، يتحدث بصوتك، يقول أشياءً لم تقلها قط، وربما يرتكب أفعالًا لم تخطر لك على بال. كل شيء يبدو حقيقيًا، من نبرة الصوت إلى تعبيرات الوجه.

التزييف العميق

هذه ليست مشاهد من فيلم خيال علمي، بل واقع يُصاغ حاليًا بتقنيات "التزييف العميق" أو Deepfake، التي اجتازت حدود العبث وأصبحت أداة تهدد الخصوصية، والمصداقية، وأحيانًا السمعة والحياة نفسها. لكن وسط هذه الفوضى الرقمية، أطلقت الدنمارك شرارة تحرك غير مسبوق، قد يكون نقطة تحول في العلاقة بين الإنسان وبياناته الشخصية. أعلنت الحكومة الدنماركية عن مشروع قانون ثوري يمنح المواطنين حقوق ملكية قانونية على صورهم وأصواتهم وملامحهم. نعم، ملكية قانونية، كما تملك منزلك أو سيارتك، ستملك وجهك وصوتك رقميًا، وتقرر كيف ومتى ومن يستخدمهم.

اقرأ أيضًا: أبرز الوظائف المُعرضة للاختفاء بسبب الذكاء الاصطناعي

هذا القانون لا يهدف فقط إلى تنظيم استخدام البيانات البيومترية، بل يسعى لحماية الإنسان في عصر لم يعد فيه من السهل التمييز بين الحقيقة والتزوير. خطوة جريئة تعيد تعريف الخصوصية الرقمية، وتمنح الأفراد قوةً كانوا قد بدأوا يفقدونها تدريجيًا مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي. فهل تكون الدنمارك قد أطلقت أول حجر دومينو في سلسلة من القوانين العالمية المقبلة؟ وهل نشهد قريبًا عالمًا رقميًا أكثر عدالة؛ تحكمه القوانين لا الخوارزميات؟

ماهو التزييف العميق؟

التزييف العميق (Deepfake) هو تقنية متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق لإنشاء أو تعديل صور أو فيديوهات أو تسجيلات صوتية تبدو حقيقية لكنها في الواقع مزيفة بالكامل. المصطلح نفسه هو دمج لكلمتي "deep learning" أي التعلم العميق، و"fake" أي المزيف، ما يعكس جوهر التقنية التي تستخدم شبكات عصبية متقدمة لتوليد محتوى رقمي مزيف بدقة مذهلة.

كيف يعمل التزييف العميق؟

تبدأ العملية بجمع كمية كبيرة من البيانات المتعلقة بالشخص المستهدف، مثل صور وفيديوهات وصوتيات متعددة الزوايا والتعبيرات. بعدها، يُدرب نموذج ذكاء اصطناعي، غالبًا باستخدام شبكات تنافسية مولدة (GANs)، حيث يتنافس نموذجان:

  • المولد (Generator) الذي يحاول إنشاء محتوى مزيف.
  • المميز (Discriminator) الذي يحاول كشف المزيف من الحقيقي.

هذا التنافس يحسن جودة المزيف تدريجيًا حتى يصبح شبه مستحيل التمييز بينه وبين المحتوى الحقيقي.

أشكال التزييف العميق

  • تبديل الوجه (Face Swap): استبدال وجه شخص بوجه آخر في فيديو أو صورة.
  • تزييف الصوت (Voice Synthesis): توليد صوت مزيف لشخص ليقول كلمات لم ينطق بها قط.
  • مزامنة الشفاه (Lip-sync): مطابقة حركة الشفاه في فيديو مع صوت مزيف.
تقنية تبديل الوجوه بالتزييف العميق - المصدر: BBC

هذه التقنيات تستخدم في خلق فيديوهات يظهر فيها أشخاص يفعلون أو يقولون أشياء لم تحدث أبدًا.

لماذا يصعب اكتشاف التزييف العميق؟

1. تطور تقنيات التعلم العميق

يعتمد التزييف العميق على شبكات عصبية متقدمة مثل المشفر التلقائي والشبكات التوليدية التنافسية (GANs)، حيث يتنافس نموذجان: مولد يحاول إنشاء صور أو فيديوهات مزيفة، ومميز يحاول كشف المزيف. هذا التنافس المستمر يؤدي إلى تحسين جودة المزيف بستمرار، بحيث تصبح الأخطاء أو العيوب التي يمكن اكتشافها نادرة جدًا وغير واضحة.

2. محاكاة دقيقة للضوء والظل وحركات الوجه

أصبحت التقنيات الحديثة قادرة على معالجة الإضاءة والظلال بطريقة متقنة جدًا، مما يلغي العيوب التقليدية مثل الظلال غير الطبيعية أو الإضاءة غير المتناسقة التي كانت تساعد في كشف التزييف العميق سابقًا. كما أن حركات الشفاه تتزامن مع الكلام بدقة عالية، مما يصعب ملاحظة أي تباين بين الصوت والصورة.

محاكاة حركات الوجه بالتزييف العميق - المصدر: Brookings

3. استخدام كميات ضخمة من البيانات الحقيقية

تُدرب نماذج التزييف العميق على كم هائل من الصور والفيديوهات الحقيقية المتاحة على الإنترنت، ما يسمح لها بالتعرف على أدق التفاصيل في ملامح الوجه والتعبيرات وحركات الجسم؛ وبالتالي إنتاج مزيفات تبدو طبيعية للغاية.

4. تطور مستمر يجعل الكشف هدفًا متحركًا

يشبه التزييف العميق "هدفًا متحركًا"، فكلما طورت أدوات كشف المزيفات، تطورت أدوات التزييف نفسها لتتجاوز هذه الحواجز. هذا السباق المستمر يجعل من الصعب تطوير أدوات كشف فعالة بنسبة 100%.

5. صعوبة اكتشاف التناقضات الدقيقة بالعين المجردة

حتى البشر المدربون يواجهون صعوبة في التمييز بين الفيديوهات الحقيقية والمزيفة، حيث تشير الدراسات إلى أن دقة الإنسان في اكتشاف التزييف العميق تتراوح بين 69% و72% فقط، وهذا يعني أن نسبة كبيرة من المزيفات تمر دون كشف.

استحالة التمييز بالعين بين الحقيقة والتزييف العميق - المصدر: Bloomberg

6. الاعتماد على تفاصيل دقيقة يصعب ملاحظتها

بعض العلامات التي يمكن البحث عنها مثل اختلاف ألوان الشفاه، الظلال غير الطبيعية، أو عدم تطابق حركة الشفاه مع الصوت، أصبحت أقل وضوحًا مع تطور التقنية، مما يقلل فرص اكتشاف التزييف بسهولة.

مخاطر وتهديدات التزييف العميق

يحمل التزييف العميق (Deepfake) مخاطر وتهديدات جسيمة تطال الأفراد والمؤسسات والدول على حدٍ سواء، ويُعدّ تحديًا كبيرًا في عالم يشهد اعتمادًا متزايدًا على المحتوى الرقمي. إليكم عرضًا لأبرز هذه المخاطر:

1. التلاعب السياسي

يُستخدم التزييف العميق لإنشاء فيديوهات مزيفة تظهر سياسيين يقولون أو يفعلون أشياء لم تحدث، خصوصًا في فترات الانتخابات؛ وهذا يؤثر على الرأي العام ويُضعف الثقة في العملية الديمقراطية. هذا يخلق ما يُعرف بـ"الدعاية الكاذبة" حيث يمكن للسياسيين الحقيقيين أن يُتهموا زورًا بأنهم يستخدمون التزييف لتبرير أخطائهم.

2. الإرهاب ونشر المعلومات المضللة

تستخدم الجماعات الإرهابية التزييف العميق لصناعة فيديوهات مزيفة لهجمات أو تصريحات مزيفة لقادة عالميين، مما يثير الذعر ويُسهل تجنيد أعضاء جدد عبر رسائل مقنعة للغاية.

اقرأ أيضًا: هل مازال العقل البشري قادرًا على هزيمة الذكاء الاصطناعي في الحرب؟

3. الاحتيال المالي وانتحال الهوية

تُستخدم تقنيات التزييف العميق في عمليات احتيال معقدة، مثل تقليد صوت المدير التنفيذي لإصدار أوامر تحويل أموال ضخمة، كما حدث في 2019 حين تم خداع مدير شركة بتحويل 243,000 يورو بناءً على أوامر صوتية مزيفة.

4. الابتزاز والاعتداء على الخصوصية

تنتشر فيديوهات التزييف العميق الإباحية غير المرخصة التي تستهدف خصوصية الأفراد، خصوصًا النساء، ما يؤدي إلى أضرار نفسية واجتماعية كبيرة، ويصعب على الضحايا منع أو إزالة هذه المحتويات.

5. تدمير السمعة الشخصية والمؤسسية

يمكن للتزييف العميق أن يُستخدم لتزوير أدلة في المحاكم أو تشويه سمعة أشخاص وشركات عبر نشر فيديوهات مزيفة تدعي تورطهم في أنشطة غير قانونية أو أخلاقية، ما يعرقل العدالة ويزيد من التكاليف القانونية.

6. تهديد الأمن القومي والمعلوماتي

يهدد التزييف العميق سرية المعلومات وسلامتها، إذ يمكن استخدامه في هجمات إلكترونية متقدمة تخدع أنظمة المصادقة الصوتية أو تخلق فوضى معلوماتية تؤثر على استقرار الدول.

7. انتشار المعلومات المضللة

مع صعوبة التمييز بين الحقيقي والمزيف، يزداد التشكيك في كل المحتوى الإعلامي، ما يضعف ثقة الجمهور في وسائل الإعلام ويعزز انتشار نظريات المؤامرة والمعلومات الخاطئة.

8. تأثيرات اقتصادية وخسائر مالية ضخمة

بحسب تقرير حديث، تجاوزت الخسائر المالية الناتجة عن الاحتيال باستخدام التزييف العميق 200 مليون دولار في الربع الأول من 2025، مع زيادة مستمرة في التعقيد وانتشار هذه الهجمات عبر القارات.

أمثلة شهيرة

شهد التزييف العميق (Deepfake) العديد من الأمثلة الشهيرة التي توضح قوته وتأثيره، سواء في الفن أو السياسة أو الإعلام أو حتى في الاحتيال، وإليكم أبرز هذه الأمثلة:

1. استخدام التزييف العميق في الفن والإعلام

  • ديفيد بيكهام في حملة توعية ضد الملاريا، استُخدمت تقنية التزييف العميق لإظهار بيكهام وهو يتحدث بتسع لغات مختلفة، ما أتاح له التواصل مع جمهور واسع بطريقة مبتكرة.
  • شركات كبرى مثل بوما ونايكي استخدمت نسخًا رقمية من ممثلين محترفين في إعلاناتها، حيث يمكن التحكم بهذه النسخ رقمياً دون الحاجة لتواجد الممثل فعليًا.
  • تستخدم تقنيات التزييف العميق في السينما والمسلسلات لعمل نسخ من الممثلين في مراحل عمرية مختلفة.

2. التزييف العميق في السياسة

  • كامالا هاريس: في مايو 2023، انتشر فيديو مزيف لها يظهرها تتلعثم في خطاب، مما أثار مخاوف من استخدام التزييف العميق في تشويه سمعة السياسيين.
  • فولوديمير زيلينسكي: في مارس 2022، انتشر فيديو مزيف يدعو فيه الجنود للاستسلام خلال الغزو الروسي، لكن الفيديو حُذف لاحقًا بعد إثبات زيفه.
  • مارك زوكربيرغ: في 2019، ظهر فيديو مزيف له يتحدث عن جمع البيانات والسيطرة على المستخدمين، كان جزءًا من معرض فني للتوعية بمخاطر الذكاء الاصطناعي.

3. التزييف العميق على منصات التواصل الاجتماعي

الدنمارك تتخذ موقفًا قانونيًا رائدًا

في يونيو 2025، قدمت وزارة الثقافة الدنماركية مشروع قانون لتعديل قانون حقوق النشر الوطني، يمنح المواطنين حقوقًا ملكية على ملامحهم وأصواتهم، ويمنع استخدام هذه الخصائص دون موافقة صريحة منهم. يتيح القانون للأفراد:

  • طلب إزالة المحتوى المزيف (Deepfake) الذي يستخدم صورتهم أو صوتهم دون إذن.
  • المطالبة بتعويضات مالية في حال انتهاك حقوقهم.
  • فرض غرامات على المنصات الإلكترونية التي لا تلتزم بحذف المحتوى المخالف بعد طلب ذلك.
  • يستثني القانون الأعمال الفنية الساخرة والبارودية، لكنه يحظر الاستخدام غير المصرح به في العروض الفنية أو السياسية.

خلفية التشريع وأسباب تبنيه

جاء هذا القانون بعد سلسلة من الحوادث التي كشفت عن استغلال التزييف العميق في الدنمارك، منها فيديوهات مزيفة لرئيسة الوزراء ميتا فريدريكسن، وقضايا قانونية ضد منشئي فيديوهات إباحية مزيفة. كما أن هناك توافقًا واسعًا بين الأحزاب السياسية الدنماركية على ضرورة حماية المواطنين من هذه الظاهرة، حيث حصل المشروع على تأييد برلماني بنسبة وصلت إلى 90%.

صورة من المقطع المزيف لرئيسة وزراء الدنمارك

وزير الثقافة، ياكوب إنجل-شميدت، أكد أن القانون يرسل رسالة واضحة بأن "لكل شخص الحق في جسده وصوته وملامحه"، وأن التكنولوجيا تفوقت على التشريعات الحالية، مما يستوجب تحديث القوانين لحماية الأفراد.

كيف يعمل القانون؟

يُعرف التزييف العميق في القانون بأنه "تمثيلات رقمية عالية الدقة للأشخاص تشمل مظهرهم وصوتهم". يمنح القانون حقوق ملكية فكرية على هذه التمثيلات، ما يعني أن استخدام أي صورة أو صوت أو ملامح دون إذن يُعد انتهاكًا لحقوق الملكية. كما يُلزم القانون المنصات الرقمية بحذف المحتوى المخالف خلال فترة زمنية محددة بعد تلقي طلب من الشخص المتضرر. وفي حال عدم الامتثال، تفرض غرامات مالية كبيرة قد تصل إلى مستويات رادعة، مع إمكانية تصعيد القضية إلى المفوضية الأوروبية.

أثر القانون على المجتمع والتكنولوجيا

يمثل هذا التشريع خطوة نوعية في مكافحة نشر المعلومات المضللة وحماية الأفراد من سرقة الهوية الرقمية. كما أنه يضع الدنمارك في موقع ريادي بين الدول الأوروبية والعالمية التي تحاول التعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق. وتجدر الإشارة إلى أن دولًا أخرى مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية اتخذت إجراءات مماثلة، لكنها تركز غالبًا على المحتوى الإباحي أو تهديدات الخصوصية، بينما القانون الدنماركي شامل ويعطي حقوق ملكية فكرية مباشرة للمواطنين.

ورغم التفاؤل، يواجه القانون تحديات تقنية وقانونية، منها:

  • صعوبة الكشف الدقيق عن كل حالات التزييف العميق المتطورة.
  • الحاجة إلى تعاون دولي لأن المحتوى الرقمي يتجاوز الحدود الوطنية.
  • التوازن بين حماية الحقوق وحرية التعبير، خاصة في مجال السخرية والفن.

وسط هدير الثورة الرقمية وتقدم الذكاء الاصطناعي بخطى لا تعرف التوقف، يظل التزييف العميق وجه مظلم لهذا التقدم، حيث تتداخل حدود الواقع والخيال، ويصبح من الصعب أحيانًا التمييز بين الحقيقة والوهم. والآن، لا تبدو الخصوصية مجرد رفاهية، بل تتحول إلى معركة وجودية يخوضها الإنسان للحفاظ على ذاته وهويته. لهذا فإن ذلك التشريع ليس مجرد قانون جديد في دفاتر الدولة، بل هو إعلان مبدأ ورسالة موجهة للعالم: إن الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون وحشًا منفلتًا، بل أداة تُسخّر لخدمة الإنسان وتحميه وتحترم وجوده الرقمي كما المادي.
وفي النهاية، يبقى السؤال الكبير: كيف نُبقي على شعلة الابتكار متقدة دون أن نحترق بنارها؟ التحدي الحقيقي ليس فقط في اختراع المستقبل، بل في رسم ملامحه بما يضمن العدالة والكرامة والحرية الرقمية لكل فرد، في عالم يتحول بسرعة تفوق تصورنا.