للمعاناة لذة فريدة ونادرة على النفس البشرية..
لا تظن أنني أعاني من اكتئاب أو اتفلسف بشكل ما أنا فقط أعرض وجهة نظر، هل فكرت يومًا عن السبب الذي يجعلنا ندخل السينما لنشاهد أحد الأفلام الحزينة ولا مانع لدينا في البكاء قليلًا أثناء مشهد موت البطل؟
الجلوس في الشرفة مساءًا بمفردك مع خلفية من الموسيقى الحزينة في لحظات تسترجع فيها حبيبتك السابقة، فشلك في العمل، خيانة الصديق، وكل السقطات التي مريت بها في حياتك، تجربة أعتقد أن الكثير منا مر بها بل يوجد البعض معتاد عليها في كل سقطة.
هذه المشاعر على الرغم من أنها حزينة إلا أنها هامة لأي إنسان طبيعي، البكاء ليس ضعف بل وسيلة لتفريغ كل هذه الطاقة، ولا ننكر أن هذه التجارب الحزينة لها شاعرية نادرة، حزينة نعم وكئيبة كثيرًا ولكنها شاعرية.
لذلك نجد أن هناك من يصنع أغنية حزينة جدًا أو من يخرج فيلمًا يموت فيه البطل بشكل حزين، لأن الحزن له جمهورة يا صديقي والمعاناة لها تأثير ولذة فريدة على النفس.
الديستوبيا بيئة ممتازة جدًا لإظهار هذه المعاناة والحزن في العمل الفني، شخصيًا أحب الأعمال التي تدور حول الديستوبيا لأن لها بُعد عميق جدًا، فهي ليست مجرد قصة حزينة عن البطل الجميل المصاب بالسرطان وسيموت في نهاية النفق، بل تكون دائمًا أعمال لها فكرة أكثر أهمية.
لحسن الحظ فإن الكثير من المبدعين فهموا هذه النقطة وقدموا لنا أعمال رائعة فكرتها كلها تدور حول الديستوبيا، الأعمال انطلقت في كل الفنون حرفيًا حتى الموسيقى نفسها، نعم توجد أغاني تدور حول فكرة الديستوبيا بشكل رائع وتعرض قصة كاملة بوجهة نظر وفكرة.
أما عن الألعاب فقد كان لها نصيب أيضًا خصوصًا مع تطور المشاهد السينمائية وبناء العالم، أصبح الآن من الممكن تقديم تجربة ديستوبيا رائعة في الألعاب.
لكن دعنا من الألعاب حاليًا لنتحدث عن الديستوبيا بشكل أعمق وفي نفس الوقت بعيد عن المصطلحات المعقدة، لنفهم الديستوبيا سويًا ونتذوقها وربما بعد ذلك نعود للألعاب مرة أخرى.
مجرد لحن حزين؟
لا الديستوبيا ليست مجرد لحن حزين يلعب على عواطف المتلقي بل هي فكرة أعمق، لنعرفها أولًا في سطر ونقول أن الديستوبيا هي عكس اليوتوبيا.
اليوتوبيا مصطلح يرمز إلى المدينة الفاضلة، المدينة التي لا يجوع فيها أحد ولا يوجد بها معاناة أو شقاء، الجميع سعداء لا ينعون هم الغد ولا توجد مشكلة أصلًا ليتحدثوا عنها.
الآن يمكنك تصور الديستوبيا، هي الجوع والفقر، الحزن والمعاناة وفي نفس الوقت التشبث بالحياة وعدم الاستسلام لسبب ما سنعرفه لاحقًا في مقالنا.
يوتوبيا أحمد خالد توفيق
كاتبنا المصري الرائع أحمد خالد توفيق أبدع في روايته يوتوبيا وتمكن من وصف مجتمع الديستوبيا بأفضل شكل ممكن، وعلى الرغم من بساطة لغة الرواية وحجمها الصغير إلا أن عبقريتها تكمن في الإلمام بعناصر الديستوبيا كلها.
السطور القادمة قد تحتوي على حرق لأحداث رواية يوتوبيا، ولكن كيف لم تقرأها حتى الآن؟
- لدينا الصياد ولدينا الضحية، الصياد شاب من يوتوبيا يدمن المخدرات ويزهد الحياة ويقرر الذهاب في رحلة لصيد أحد الأشخاص من المجتمع الفقير، ربما يحتفظ بقطعة من أنفه أو ذراعه ويعلقها فوق سريره وربما قرر القيام بهذه الرحلة سعيًا وراء الخلاص من الحياة الرتيبة التي يعيشها.
- أما عن الضحية فكان جابر، العملة النادرة في مجتمع الأغيار الفقراء فهو مثقف بشكل ما وسط مجتمع يلفظ أي فكرة ويعيش كما عاش الإنسان الحجري وريما اسوأ.
- في رواية يوتوبيا أبدع أحمد خالد توفيق عندما لعب بأدوار الصياد والضحية، جابر أصبح صيادًا في وقت ما وهو ضحية وكذلك الشاب اليوتوبي تحول من صياد إلى ضحية.
- طوال أحداث الرواية يحاول جابر تهريب الشاب اليوتوبي وحبيبته جيرمين بعد أن انكشف أمرهم ولم يتمكنوا من صيد أي أحد، هذه الخطوة من جابر غير مفهومة في البداية ولا نفهم دوافعها.
- جابر غاضب حانق جدًا على كل مجتمع يوتوبيا فكيف لا يقوم بقتل الشاب وحبيبته فهي فرصة رائعة لكي يأخذ بثأره من هذا المجتمع الغني.
- لكن مع مرور الصفحات تبدأ تفهم وجهة نظر جابر، انتصاره الحقيقي يكمن في هذه المساعدة فهو يشعر بأنه من يملك قرار أن يعيش هذا الفتى اليوتوبي أو يموت، هذه السلطة كافية جدًا بالنسبة له ليشعر بالانتصار وقد اختار جابر أن يعيش الفتى فهو من يتحكم في زمام الأمر الآن.
لنفهم عبقرية الديستوبيا في رواية أحمد خالد توفيق يجب علينا أن نحرق النهاية أيضًا، ولكنني كما ذكرت من لم يقرأ رواية يوتوبيا حتى الآن على أي حال؟
- في النهاية نجد أن جابر تمكن من تحرير علاء الشاب اليوتوبي وإعادته هو وحبيبته إلى مدينة يوتوبيا مرة أخرى لنجد علاء يرد الجميل ويقوم بقتل جابر وأخذ تذكار منه ليعلقه فوق السرير.
- هنا تتجسد الديستوبيا، لا يوجد في الديستوبيا نهاية سعيدة، لا يمكن أن يتحول جابر وعلاء إلى أصدقاء بأي شكل ممكن يجب أن تكون النهاية بوقع قوي ومؤثر والأهم أن يكون متسق مع الفكرة التي تدور حولها الرواية.
- بالعودة إلى عالم رواية يوتوبيا نجد أن تجسيد العالم بشكل حزين وكئيب ومنهار كان أمر ضروري ولكنه ليس الأساسي، فمثلًا اختار أحمد خالد توفيق أن يصور أرض الاغيار على أنها مكان قذر بدون أي خدمات أو طعام وإذا حصلت على كلب فأنت لن تربيه بل تأكله على الأرجح.
- هذا التصور ليس حصري بل هو تصور خاص لأحمد خالد توفيق يحاول من خلاله إظهار مدى المعاناة التي يعيشها الأغيار، لذلك من الممكن أن نجد رواية أخرى تجسد فكرة الديستوبيا ولكن في عالم أكثر رفاهية وهو ما سنراه لاحقًا.
- إذا المميز في يوتوبيا أحمد خالد توفيق هي الفكرة نفسها، فكرة الصراع الفلسفي بين أفكار جابر وعلاء، لماذا لا ينتحر الاثنان، لماذا يصمم كل منهم على التفكير واتخاذ موقف في ظل هذا العالم المتهالك؟
- حتى أفكارهم لا يمكن أن تصل بهم إلى أي تقدم أو نجاح فقد انهار العالم بالفعل ولن يرتقي من جديد مهما ظهرت أفكار أو شخصيات في هذه المجتمعات، هذا هو المستوى من السوداوية التي تتناولها فكرة الديستوبيا.
نحن نكثر من التوابل لأنها تخفي طعم أي شيء.. تخفي طعم الدجاج الفاسد والفول الحامض والبيض الممشش.. التوابل هي السلعة الوحيدة التي لم يزدد سعرها لأنها ضرورية كي نبقى أحياء – أحمد خالد توفيق في وصف طعام أهل الأغيار برواية يوتوبيا
مالكوم ماكدويل وبرتقالته الآلية A Clockwork Orange
أبدع الممثل مالكوم ماكدويل فى فيلم البرتقالة الآلية وبالمناسبة هذا الفيلم مأخوذ من رواية تحمل نفس الإسم، والبرتقالة الآلية هو أحد أفضل الأفلام التي جسدت عالم الديستوبيا بكل مشاكله من عنف جسدي وسادية وانهيار في الأخلاق والمعايير.
الكثير شاهد فيلم البرتقالة الآلية ولكن إذا كنت من البعض الذي لم يشاهد الفيلم فمن الممكن أن تكون شاهدت الصورة الشهيرة لمالكوم ماكدويل وهو ينظر بعين ثابتة حادة تمتلئ بالغضب والعنف والسادية.
المخرج ستانلي كوبريك والممثل مالكوم ماكدويل أبدعوا في هذا الفيلم وقدموا الديستوبيا بشكل قوي وستشعر بأن مطرقة تهوى على رأسك وأنت تشاهد الفيلم، لدي تجربة خاصة مع هذا الفيلم وهي أول مرة شاهدته كانت بالمساء وانتهيت منه وخلدت للنوم لأعاني من أسوأ الكوابيس التي حلمت بها بسبب هذا الفيلم وما شاهدته من عنف ومعاناة.
في هذا الفيلم المجتمع منهار أخلاقيًا وليس ماديًا مثل رواية يوتوبيا، في البرتقالة الآلية لم نرى جوعى بل كان الجميع قادر على شراء الطعام ولم نرى منازل شوارع بلا مرافق بل كانت توجد المرافق بشكل عادي وطبيعي.
الانهيار كان أخلاقي بحت، الاغتصاب في كل مكان أو المخدرات بل يمكن أن نقول هذه الأشياء أصبحت نمطية وبدأت تظهر انحرافات جديدة، مثل العنف الذي كان يعاني منه بطلنا.
بطل الفيلم كان سادي يعشق العنف وكون عصابة لممارسة أعمال عنيفة بدون مبرر أو سبب فهو لا يسعى للمال من السرقة بل يسعى للشعور بالعنف خلال عملية السرقة.
هنا البطل لديه وجهة نظر أيضًا بغض النظر عن اتفاقك معها أم لا، والفيلم عمومًا كله يناقش فكرة العنف وهل يمكن للإنسان الاستغناء عن العنف أم أن العنف فطرة أساسية تساعد الإنسان على الاستمرار في الحياة.
عصابات نيويورك الديستوبيا بدون فكرتها
فيلم عصابات نيويورك Gangs of New York قدم لنا عالم الديستوبيا بشكل رائع ولكنه افتقر إلى فكرة الديستوبيا الفلسفية في حد ذاتها، فكرة الفيلم بسيطة أكثر من اللازم فهو يتحدث عن عصابات عرقية مختلفة وبطلنا يحاول الانتقام لمقتل أبيه.
خلال أحداث الفيلم بطلنا يتعلق بفتاة وتنشأ قصة حب وتدور الأحداث حتى يتمكن بطلنا في النهاية من تحقيق مسعاه وكذلك الحصول ضعلى الفتاة التي أحبها.
هذا السيناريو لا ينتمي إلى الديستوبيا، الديستوبيا كما ذكرنا في رواية يوتوبيا وفيلم البرتقالة الآلية لا تحتوي على حب ولا يوجد بها نور.
ولكن لماذا ذكرنا فيلم عصابات نيويورك في مقالنا، ذكرناه لأن الفيلم جمع عدد كبير من المشاهد التي لا يمكن أن تحدث إلا في عالم الديستوبيا، يمكنك أن تقتل أي أحد في منطقة الخمس نقاط وتعليقه على عمود، والغريب أن الناس لن يهابوا الأمر بل على الأرجح سيقومون بنهب متعلقات الجثة وفي النهاية سيقوم أحدهم بأخذ الجثة نفسها ليفعل بها ما يحلو له أو قد يتاجر بها.
القذارة الموجودة في كل مكان والعنف والدم جعلني أشعر أن هذا العالم المرسوم بعناية بيئة ممتازة لتدور فيه أحداث أكثر سوداوية وأكثر عمقًا، ولكن هذا لا يعني أن الفيلم سيء بل هو فيلم رائع به أداء تمثيل منقطع النظير خصوصًا من دانيال دي لويس الذي قام بدور الجزار.
ذكرنا هذا الفيلم بالتحديد لأنه توجد العديد من الألعاب التي اتبعت هذا النهج، قدمت فكرة الديستوبيا كعالم ولكن بعدت عنها في جوهرها، وهو ما سنعرفه لاحقًا.
الديستوبيا المميزة
عرضنا حتى الآن عدد من الأمثلة على أعمال الديستوبيا ومن الواضح أن الديستوبيا بها بعض العناصر التي تميزها وتفرقها عن أفكار أخرى مثل دراما نهاية العالم مثلا أو أفلام النجاة.
لا خير لا شر، فقط الصراع
الأبطال في عالم الديستوبيا ليسوا أخيار وليسوا أشرار في نفس الوقت، بل هم أشخاص ذوي فلسفة معينة، لنعود إلى رواية يوتوبيا لا يمكن أن نقول جابر شخص طيب بل جابر كان له دوافع معينة وراء تصرفه كان يريد الشعور بنشوة النصر وأنه يتحكم في حياة مواطن من يوتوبيا.
أما فيلم البرتقالة الآلية فلدينا مشهد في بداية الفيلم بروز هذا الأمر بشكل كبير، حيث قامت عصابة بطلنا بافتعال شجار مع عصابة أخرى كانت تعتدي على إحدى الفتيات، وبسبب هذا الشجار تمكنت الفتاة من الهروب.
هذا المشهد كان هام جدًا في الفيلم ليبين أن بطلنا لا يسعى لنشر الشر المُطلق بل هو شخص لديه رغبة وميول عنيفة لا أكثر ويحب إخراجها للعالم في أي صورة ممكنة سواء كانت شجار، سرقة، أو حتى علاقة جنسية.
انهيار الأخلاق، لا ديستوبيا مع الأخلاق
عالم الديستوبيا قد يكون فقير أو قد يكون غني، ولكن الأساسي هو أن يكون بلا أخلاق، لا يهم ماذا يلبس الناس في هذا العالم وماذا يأكلون، أين يسكنون في أبراج عالية أم في الطرقات بلا مأوى.
الهام هو أن يكون هذا المجتمع بلا أخلاق وبه انحرافات تضم كل الأطياف، في رواية يوتوبيا رأينا الانحلال الأخلاقي سواء في يوتوبيا أو في منطقة الأغيار، الدعارة في كل مكان وانعدام فكرة الجواز أصلًا، انتشار المخدرات بل انهيار فكرة الأبوة والأمومة أصلًا، وهو نفس ما رأيناه في فيلم البرتقالة الآلية ورأينا وجود مقاومة هشة من المجتمع والشرطة تجاه هذه الانحرافات الأخلاقية.
الدم والعرق سمة مميزة
الدم هو مياه عالم الديستوبيا، لا يمكن تصور رواية أو عمل درامي عن الديستوبيا بدون عنف ودم يختلط بالعرق، رأيناه في عصابات نيويورك ورأيناه في بالطبع في البرتقالة الآلية من خلال المشاجرات العنيفة التي قام بها بطلنا ، أيضًا تخيلناه مع رواية يوتوبيا ورأينا كيف يعيش الأغيار على الدم والعرق.
لكن تظل وجهة النظر هي الأهم
الأهم من كل ما سبق وجهة النظر، لبطلنا وعدوه وجهة نظر، وجهة نظر حول الحياة نفسها والغرض منها في هذه الأوضاع، لماذا نستمر أصلًا في هذا العبث وهل يمكن تغيير الأوضاع أم لا.
وعلى الرغم من أن النهاية في معظم الأوقات تكون حزينة ولكنها تفتح باب لأحداث لاحقة فهي لا تغلق الباب بشكل كامل، في رواية يوتوبيا مات جابر ولكننا كنا على موعد مع قتال بين الأغيار وأهل يوتوبيا لا نعرف نتيجته، وفي البرتقالة الآلية يعود بطلنا إلى ميوله العنيفة بعد أن تم سلبها منه في منتصف الفيلم ولا نعلم أيضًا ماذا سيفعل في المستقبل.
هل وصلت الفكرة التي أتحدث عنها؟، لدينا وجهة نظر فريدة يتم عرضها بأحداث سوداوية ونهاية حزينة ولكنها لا تعطيك إجابة وتتركها لك أنت كمتابع.
هذا هو ما يميز هذه النوعية من الأعمال عن روايات النجاة من الموتى الأحياء أو الحياة بعد الانفجار النووي، الدوافع مختلفة تمامًا وكذلك النتائج.
وهذا هو حبي الشخصي لأعمال الديستوبيا، وجهة النظر وطبيعة الشخصيات الفلسفية الرائعة تضفي على العمل نوعًا مميزًا من الشاعرية، قد تستغرب من الكلام قليلًا ولكن هذا هو ما يحدث مع هذه النوعية من الأعمال الفنية.
ماذا عن الألعاب؟
اه صحيح تذكرت نحن هنا لنتحدث عن الديستوبيا في صناعة الألعاب وكيف تم تقديمها، ولكن صدقني ما تحدثنا عنه في السطور السابقة كان يستحق.
بالطبع صناعة الألعاب استخدمت فكرة الديستوبيا هي الآخرى، ولم لا فهذه الفكرة بيئة ممتازة لتقديم لعبة خصوصًا وأن الألعاب يمكنها تقديم جرعة زائدة من العنف والدموية وتكون مقبولة لدى اللاعبين.
الآن الألعاب أصبحت أكبر وبها قصة أعمق وبالطبع مشاهد سينمائية أضخم، وبالتالي تم تقديم بعض الأعمال الديستوبية الشهيرة، ولكن هل هذه الأعمال تم تقديمها بشكل جيد؟
سايبربانك 2077 والفرصة الضائعة
جاءت سايبر بانك مع عالم ديستوبي واضح وصريح تقع أحداثه في المستقبل، الأنوار النيون في كل مكان والبشر المرصعين بالقطع الميكانيكية إلى جانب السيارات الحديثة ومع ذلك التقدم إلا أن العصابات والعنف في كل مكان.
ولكن على الرغم من رسم العالم الممتاز إلا أن اللعبة ابتعدت قليلًا عن فكرة الديستوبيا بسبب الأحداث، الأحداث الخاصة بالقصة تميل أكثر نحو الأكشن وتجنح عن الفكرة، ويظهر الأمر عندما نقارن المراحل الأولى والمهمات الأولى من اللعبة بمنتصفها مثلًا.
المراجل الأولى من اللعبة كانت مرتبطة بشكل كبير مع العالم وفكرة الديستوبيا فرأينا انهيار الأخلاق وتجارة الأعضاء والمخدرات المنتشرة في كل مكان بعد ذلك تنفصل اللعبة عن هذا العالم وتأخذك في صراع اللاعب مع مرضه ومحاولة التخلص منه.
على الرغم من هذا البعد عن الفكرة الفلسفية الموجودة في الديستوبيا إلا ان القوام الرئيسي للعبة حاول الحفاظ عليها قليلًا خصوصًا في نهاية اللعبة وبالتحديد المرحلة الأخيرة.
سايبربانك كان من الممكن أن تصبح أيقونة وأسطورة في صناعة الألعاب وليست مجرد لعبة جيدة، ولكن الكسل والتسرع أدى إلى ضياع الفرصة، عالم اللعبة المرسوم بشكل رائع ينقصه الحياة والتفاعل، بطلنا كان يحتاج إلى التفاعل مع هذا العالم القاسي المنهار بشكل أكبر.
لذلك يمكن أن نقول سايبر بانك قدمت عالم ديستوبي رائع ولكن اللعبة أضاعت الفرصة بالتركيز على قصة تنتمي أكثر إلى الخيال العلمي والأكشن وليست فلسفية.
بايوشوك تفعلها
لنذهب سريعًا إلى لعبة بايوشوك لنجد أنها قدمت تجربة ديستوبيا أفضل بكثير، وعلى الرغم من أن العالم يعتبر شبه ميت إلا أن الفكرة واضحة وتصل إلى اللاعب.
مدينة رابتشر كانت يوتوبيا في وقت ما ولكنها غرقت في سياسات خاطئة حولتها إلى ديستوبيا مع مرور الوقت، بطلنا يتعرض لحادثة تسقط على إثرها طائرته ليدخل إلى عالم مدينة رابتشر بالصدفة ويبدأ رحلة طويلة في محاولة للخروج والهروب من المدينة.
خلال الرحلة يتعرف بطلنا على العديد من الأسرار التي تحل اللغز رويدًا رويدًا حتى نصل للنهاية التي لن نحرقها لك لأن اللعبة تستحق أن تُلعب وأن تُصدم بالنهاية.
مدينة رابتشر تعتمد على إظهار التحول الذي حدث لها بعد الانهيار وهنا تظهر الديستوبيا من ناحية الشكل وتوظيف البيئة، عالم اللعبة خليط بين الحداثة والدمار وهو تأثير غريب قليلًا ونادرًا ما نجده خصوصًا وأن الدمار ليس نتيجة حرب وقذائف بل نتيجة خراب وعنف فردي وكأن الناس تحولوا إلى وحوش وأكلوا بعض في هذه المنطقة.
أما عن أحداث اللعبة فهي تدور في نفس وجهة النظر، ماذا حدث للمدينة وكيف حدث، وأعداؤك هم بقايا البشر المتواجدين في المدينة الذين تحولوا مع الوقت إلى وحوش، هل ترى معي الفكرة كلها تدور حول الديستوبيا وكيف يمكن للإنسان تدمير شيء جميل وتحويله إلى هذا القبح بسبب أطماع مالية أو سياسية.
عكس سايبربانك التي أخذتنا في رحلة مشتتة قليلًا وبعيدة عن الفكرة، أنت لا تفهم لماذا الشركة سيئة أو جيدة ولا تفهم فلسفة أحد أو وجهة نظره أو دوافعه على عكس بايوشوك، لذلك فإن بايوشوك هي أفضل من قدمت عالم الديستوبيا في وجهة نظري.
هناك المزيد
يوجد الكثير من الألعاب الأخرى التي تتناول الديستوبيا بشكل ما مثل لعبة ميترو أو ولفنشتاين ولكنها ألعاب أخذت من الديستوبيا فكرة العالم فقط، شكل العالم وكيف يتعامل معه الأشخاص وأهملوا وجهة النظر الموجودة في الديستوبيا نفسها.
ولفنشتاين تقدم عالم منهار ومحطم ولكنها أخذت اللعبة إلى تجربة التصويب بشكل كامل فأنت تقتل وتقتل وتقتل بدون التعرض للفكرة الفلسفية مما حولها إلى لعبة ممتعة ومسلية لا أكثر، أما مترو فأخذت اللعبة نحو النجاة على الرغم من أنها تمسكت قليلًا بالديستوبيا وعناصرها.
لدينا كذلك فروست بانك اللعبة الاستراتيجية التي قدمت الديستوبيا في أبهى صورها، هذه اللعبة قدمت عالم منهار وأنت تتعامل معه بصفتك حاكمه، تحاول العبور والنجاة به وفي خلال الأحداث ستأخذ بعض القرارات الغير أخلاقية، هذه اللعبة جعلت تعيش في عالم الديستوبيا وجعلتني في الكثير من المواقف أتعامل وكأنني جابر من الأغيار وفي بعض الأوقات كنت صياد يوتوبيا.
ننتظر أعمال فنية أكثر
في وجهة نظري عالم الديستوبيا فريد جدًا من نوعه ويمكن من خلاله إخراج ألعاب ممتازة خصوصًا وأن الألعاب لديها الآن كل العناصر اللازمة وأدوات التطوير، ننتظر في المستقبل التركيز على تقديم ألعاب بها توجه فني أعمق وتركز على فكرة الديستوبيا بجوهرها ولا تقتصر فقط على نقل العالم وإظهار أشكال الحزن والمعاناة.
أخيرًا جميع الأمثلة الموجودة في المقال سواء روايات، أفلام، أو ألعاب تستحق التجربة حتى وإن تعرضت لبعض الحرق في المقال فصدقني مازال يفوتك الكثير من المتعة فأنصحك بتجربتها سريعًا ولكن حاول أن لا تؤثر هذه الأعمال على حالتك النفسية يا صديقي، لأن الحزن شاعري ولكنه خطير.
?xml>