بينما كانت الحياة تمضي بإيقاعها المعتاد في شوارع القاهرة، لم يكن أحد يتوقع أن شرارة صغيرة، غير مرئية للغالبية، ستشعل سلسلة من الأحداث كفيلة بتعطيل جزء من الحياة الرقمية لملايين المواطنين. لم تكن هناك صافرات إنذار، ولا تحذيرات استباقية، فقط دخان أسود كثيف بدأ يتصاعد من قلب العاصمة، تحديدًا من مبنى سنترال رمسيس أحد أقدم المراكز الحيوية للاتصالات في مصر. وفي اللحظات الأولى، مرّ الخبر سريعًا كأي "حريق إداري"، لكنه لم يلبث أن تحول إلى ما هو أبعد من مجرد حادث عرضي.

تصاعد الأدخنة من مبنى سنترال رمسيس - المصدر: CNN

ففي غضون ساعات، بدأ المواطنون يشعرون بأمور لا تبدو مرتبطة مباشرة بحريق، مثل بطاقات الصراف الآلي (ATM) تتوقف فجأة عن العمل، وتطبيق Instapay يرفض تنفيذ التحويلات، المحافظ الإلكترونية تتعثر، خدمات الدفع عبر فودافون كاش وأورانج موني تتباطأ أو تختفي، الإنترنت يتعطل أو ينهار في بعض المناطق. وكأن شبكة رقمية كاملة تُنتزع فجأة من الحياة اليومية!

هنا فقط، بدأت الأسئلة الحقيقية تظهر: كيف يمكن لحريق في مبنى واحد أن يُربك هذا العدد الضخم من الخدمات؟ ولماذا لم يكن هناك بديل؟ هل فعلًا تعتمد البنية التحتية الرقمية في مصر على نقطة مركزية واحدة؟ وهل نحن أمام خلل عابر؟ أم خلل بنيوي يكشف هشاشة النظام بالكامل؟

ما حدث في سنترال رمسيس لم يكن مجرد "عُطل"، بل لحظة اختبار حقيقية لمنظومة رقمية يقال إنها المستقبل. في هذا المقال، لن نُعيد ما نُشر عن الحريق أسبابه، بل سنفتح ملفات أكثر عمقًا حول علاقة السنترال بالبنية الرقمية المالية، وكيفية تجنب الأزمات المماثلة في المستقبل.

لماذا تعطلت ماكينات ATM وخدمات الدفع؟

السبب يكمن في أن سنترال رمسيس يُعد نقطة مركزية في منظومة الاتصال التي تعتمد عليها قطاعات مختلفة من ضمنها المؤسسات البنكية وشركات الاتصالات ومزودو الخدمات الرقمية. فغالبًا ما تكون تلك الجهات مربوطة عبر شبكات تعتمد على مسارات تمر من خلال السنترال أو ترتكز على مراكز توزيع رئيسية فيه. وعندما اندلع الحريق، لم يكن الأثر محصورًا في الخسائر المادية، بل امتد إلى انقطاع أو اختناق في الاتصال الرقمي؛ ما جعل هذه الخدمات غير قادرة على الوصول إلى خوادمها أو تنفيذ عمليات تحقق لحظي (real-time authentication)، وهي العمود الفقري لأي معاملة رقمية.

ماكينات ATM  - المصدر: New Arab

بعبارة أخرى، عندما احترق السنترال؛ احترق معه العمود الفقري لاتصال تلك الخدمات ولو بصورة مؤقتة، لكنه كان كافيًا لإثارة القلق وإظهار حجم الاعتماد على نقطة واحدة.

كيف تعطّلت ماكينات ATM؟

ماكينة الصراف الآلي (ATM) ليست جهازًا مستقلًا يعمل بنفسه، بل هي أقرب إلى "واجهة" متصلة بشبكة معقدة من الخوادم وقواعد البيانات. كل مرة يدخل فيها العميل بطاقته، تُرسل الماكينة إشارات في مسار مُحدد إلى خادم البنك للتحقق من البيانات، والرصيد، وتنفيذ العملية، ثم ترجع النتيجة في جزء من الثانية. لكن ماذا يحدث لو فقدت هذه الماكينة الاتصال بالخادم؟ ببساطة، تتوقف عن العمل تمامًا. وهذا بالضبط ما حدث بعد اندلاع الحريق في سنترال رمسيس، فالسنترال هنا يعمل كمحطة مركزية لاستقبال وإرسال هذه الاتصالات.
ولهذا عند وقوع عطل بالسنترال، ينقطع هذا المسار الحيوي. والماكينة تصبح "حية" من الخارج، لكنها غير قادرة على "الكلام" مع البنك. وفي بعض البنوك، حتى الماكينات المتصلة بشبكات خاصة (VPN) أو شبكات داخلية ما زالت تمر بمسارات عبر السنترالات أو مزودي خدمة الإنترنت، ما يجعلها عرضة لنفس الانقطاع.

مصطلحات تقنية انتشرت مع هذا العطل

  • Timeout في الاتصال: الماكينة تحاول إرسال الطلب، لا تتلقى ردًا، ثم تظهر رسالة خطأ أو تتوقف تمامًا.
  • فشل في المصادقة: معظم العمليات تتطلب مصادقة من الخادم (OTP – PIN check – balance check)، ودون اتصال هذه المهام مستحيلة.
  • توقف كامل في الشبكة: في بعض الحالات، لا ترى الماكينة الشبكة أصلًا، وتُظهر رسالة "Service unavailable".

لكن لماذا لم تعمل بعض الماكينات الأخرى؟ بعض البنوك تستخدم خطوط ربط بديلة (4G مثلاً أو شبكة موازية) أو لديها خوادم موزعة جغرافيًا في أكثر من منطقة، ما يجعلها أقل تأثرًا بخلل سنترال واحد. لكن الأغلبية، تعتمد للأسف على مسار واحد أو تعتمد على شبكة ISP التي مرت من خلال سنترال رمسيس.

لماذا تعطلت المحافظ الإلكترونية وتطبيق Instapay؟

على عكس ماكينات ATM، قد يظن البعض أن التطبيقات المالية مثل Instapay أو المحافظ الإلكترونية مثل فودافون كاش تعمل فقط من الهاتف، وبالتالي من المفترض ألا تتأثر بحريق في مبنى اتصالات، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. هذه الخدمات الرقمية تعتمد في تشغيلها على شبكة من الخوادم وقواعد البيانات والاتصالات الآنية، ولكل عملية تمر بعدة خطوات تقنية حساسة تُصبح كلها بلا قيمة إذا فقدت خاصية الاتصال في الوقت الفعلي (Real-time).

تطبيق انستاباي - المصدر: Instapay

1. كيف تعمل هذه التطبيقات في الخلفية؟

  • المستخدم يفتح التطبيق ويُرسل طلبًا (تحويل – استعلام – سحب).
  • التطبيق يرسل هذا الطلب إلى خادم الخدمة عبر الإنترنت.
  • الخادم يتصل بالبنك أو شركة الاتصالات أو الشبكة المشتركة للتحقق من البيانات.
  • تنفذ العملية خلال ثوانٍ، ويرجع الرد إلى الهاتف.

2. لكن ما الذي حدث عند انقطاع سنترال رمسيس؟

السيناريو الذي أدى للتعطل: عندما انهارت الشبكة أو تعرضت لضغط شديد، وتعطل الاتصال بين الهاتف والخوادم. حتى لو كان الهاتف متصلًا بالبيانات أو Wi-Fi، فالطلب قد لا يجد طريقه للوصول إلى الخادم لأنه يمر بمسار شبكة متأثر - في غالب الشبكة التي توفر الإنترنت تمر عبر السنترال - ولو وصل الطلب بصعوبة، فالخادم نفسه ربما كان غير قادر على الوصول إلى قواعد بيانات البنك أو مزود الخدمة، بسبب الانقطاع أو الضغط.

محاولات الإطفاء والإنقاذ في حريق سنترال رمسيس - المصدر: CNN

هذه الخدمات تعتمد بشدة على الاتصال اللحظي المتزامن (Synchronous)، أي أن أي تأخير أو انقطاع في نقطة من النقاط يُفسد العملية كلها. فودافون كاش، مثلًا، تعتمد على اتصال مباشر بين رقم الهاتف ونظام إدارة الحسابات في الشركة، الذي يرتبط بدوره بالبنك المركزي أو البنوك المعنية. وللتوضيح أكثر Instapay يربط مباشرةً ولحظيًا بين حسابك في بنك معين وحساب المستلم في بنك آخر. وذلك من خلال شبكة مركزية تحت إشراف البنك المركزي وكل ذلك يحتاج شبكة مستقرة وسريعة.

البنية المركزية: سيف ذو حدين

في عالم الاتصالات والبنية التحتية الرقمية، تُعد "المركزية" سلاحًا ذا حدين. فهي من جهة تسهّل الإدارة وتُبسط تنظيم الشبكات، لكنها من جهة أخرى تجعل النظام بأكمله هشًا أمام أي خلل في نقطة واحدة. سنترال رمسيس، الذي اندلع فيه الحريق ليس مجرد مبنى إداري، بل هو واحد من أقدم وأكبر السنترالات في مصر، ويُعد مركزًا رئيسيًا لربط شبكات الاتصالات وخدمات الإنترنت في مناطق متعددة من القاهرة، وقد يمتد تأثيره إلى ما هو أبعد من ذلك.

وفي ظل هذا التصميم، فإن كثيرًا من الخدمات من ماكينات الصراف الآلي، إلى المحافظ الإلكترونية، وحتى بعض مزودي الإنترنت تمر إشاراتها وبياناتها عبر هذا السنترال. وهنا تظهر المشكلة:

  • عندما تسقط الحلقة المركزية؛ تسقط معها الحلقات المرتبطة.
  • لم تكن المشكلة في الحريق نفسه، بل في غياب نقاط توزيع بديلة تعمل تلقائيًا عند سقوط نقطة رئيسية.
  • وبدلًا من أن تُحول الإشارة أو الخدمة لمسار آخر، تُفاجأ المنظومة بأنها بلا مخرج، وبأن البدائل لم تُجهز أو لم تُفعل.

غياب خطط الطوارئ: أين كانت البدائل؟

في الأنظمة الرقمية الحديثة، لا تُقاس القوة فقط بسرعة الإنترنت أو عدد الأبراج، بل تُقاس بمدى الجاهزية وقت الطوارئ. وهنا تبرز قاعدة أساسية في تصميم الشبكات والخدمات الرقمية: "لا تُربط الحياة بخيط واحد". ما حدث بعد حريق سنترال رمسيس كشف غيابًا واضحًا لما يُعرف بخطط الاستمرارية أو Disaster Recovery Plans. وهي ببساطة مجموعة من السيناريوهات الجاهزة التي تُفعّل أوتوماتيكيًا بمجرد وقوع أي خلل كبير، لضمان استمرار الخدمة أو تقليل فترة انقطاعها إلى الحد الأدنى.

في العديد من الدول، تُبنى الشبكات البنكية والاتصالات على نموذج التكرار أو Redundancy، بحيث يكون هناك مسارات بديلة، وخوادم احتياطية، ونقاط توزيع موازية يمكن تفعيلها فورًا إذا تعرّضت نقطة رئيسية لأي خلل. لكن في الحالة المصرية، بدا وكأن كل شيء كان مرهونًا بمركز واحد، دون تفعيل فعلي لمسارات بديلة أو حتى استجابة سريعة تُعيد توجيه البيانات بعيدًا عن نقطة الخلل. فما بين تعطل ماكينات ATM وبطء تطبيقات الدفع وانهيار جزئي في الاتصالات، تبين أن ما نستخدمه من تقنيات متقدمة يوميًا يقف على أرض هشة عند أول اختبار حقيقي.

الأسوأ من ذلك، أن هذا الغياب لم يكن في البنية فقط، بل في التعامل البشري أيضًا: لم تُصدر الشركات تحذيرات مبكرة أو أي إعلان رسمي للمستخدمين بما يحدث، ولم نرَ خطة واضحة أو استجابة شفافة تُطمئن الناس وكأن الأزمة لا تستحق إدارة. ربما لم يكن بالإمكان منع الحريق، لكن كان بالإمكان، بل من الواجب أن تكون هناك خطة واضحة ومعلنة ومُفعّلة تُثبت أن الرقمنة ليست رفاهية بل مسؤولية.

كيف أثرت الأزمة على صورة التحول الرقمي؟

لم تكن الأزمة أزمة حريق فحسب، بل كانت أزمة ثقة. فعندما يجد المواطن نفسه غير قادر على سحب أمواله من ماكينة قريبة أو يفشل في تحويل مبلغ بسيط عبر هاتفه أو يعجز عن إتمام معاملة دفع إلكتروني في وقتٍ يُفترض فيه أن "كل شيء صار أسهل"، فإن السؤال الذي يتبادر تلقائيًا إلى ذهنه ليس متى ستعود الخدمة؟ بل هل هذه المنظومة أصلًا موثوقة؟

التحول الرقمي في مصر، شأنه شأن أي دولة، قائم على مبدأ الإقناع أولًا، إقناع المواطن بأن التعامل الرقمي أكثر أمانًا، وأسرع، وأكثر مرونة من الطرق التقليدية، لكن عندما تنهار هذه الصورة خلال ساعات، وبسبب حادث غير متوقع، فإن كل ما بُني على مدار سنوات قد يتصدع في لحظة. في الأيام التي تلت الحريق، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي سيلًا من الشكاوى والسخرية والقلق. بدأ يُفضل البعض العودة إلى الكاش، وآخرون أعربوا عن خشيتهم من الاعتماد الكامل على التطبيقات والمحافظ الرقمية. والأسوأ، أن الغياب الإعلامي الرسمي والتقني عن شرح ما حدث وكيفية التعامل معه، فتح الباب أمام الإشاعات والهلع.

في بيئة تتحرك نحو الرقمنة الشاملة سواء في الخدمات الحكومية أو المعاملات المالية لا يكفي أن نُقنع الناس بالتحول بل يجب أن نُثبت أن النظام قادر على تحمل الصدمات، والاستمرار رغم الأزمات. ما حدث أعاد طرح السؤال القديم الجديد: هل نحن نُسرع الخطى نحو "الرقمنة" دون أن نؤسس لها قاعدة صلبة تضمن استمرارها؟ لكن ماذا لو أعدنا التفكير؟

في كل أزمة فرصة وفي كل خلل جرس إنذار

ما حدث في سنترال رمسيس يجب ألا يُنظر إليه فقط كحادث عرضي، بل درس تقني كامل يمكن أن يُحدث فرقًا حقيقيًا في مستقبل البنية التحتية الرقمية في مصر، إذا أردنا التعلم فعلًا. أولى هذه الدروس أن البنية التحتية ليست فقط ما نراه من أسلاك وخوادم، بل هي أيضًا كيفية توزيع العبء، وطريقة التعامل مع الطوارئ. فمن غير المعقول في عصر يُدار فيه العالم عبر الإنترنت، أن تظل شبكة بحجم شبكة الاتصالات المصرية مرتبطة بنقطة مركزية واحدة، دون وجود ما يكفي من نظم التوزيع والتكرار.

1. استخدام التكنولوجيا ذاتها كأداة حماية

نحن نتحدث عن دولة تطمح للتحول الرقمي الكامل، فكيف لا تكون هناك أنظمة إنذار ذكية؟ كيف لا تُستخدم تقنيات إنترنت الأشياء (IoT) لمراقبة درجات الحرارة أو كشف الدخان أو الإبلاغ الفوري بأي خلل في الكهرباء أو الشبكات؟ بل كيف لم نرَ نظامًا لإعادة توجيه الخدمات أوتوماتيكيًا في حالات الانقطاع؟ بعض هذه الحلول موجود في دول قريبة منا، بل وربما لدى شركات خاصة داخل مصر، لكنه لم يُفعّل على مستوى البنية التحتية القومية. وهنا يظهر أن التكنولوجيا ليست هي المشكلة، بل قرارات التفعيل والاستثمار والجاهزية.

إنترنت الأشياء - المصدر: Pixelz

2. عندما تتوقف التكنولوجيا ما البدائل الذكية في لحظات الانقطاع؟

في ظل الاعتماد المتزايد على الأنظمة الرقمية في كل ما يخص المال، من السحب إلى الدفع والتحويل، يصبح السؤال الأهم في وقت الأزمة: ماذا نفعل عندما تتوقف هذه الأنظمة فجأة؟ لا أحد ينكر أن التكنولوجيا قد تتعطل لأي سبب. لكن الأنظمة الذكية لا تُبنى على افتراض "أن كل شيء سيعمل دائمًا"، بل تُبنى على سيناريوهات "ماذا لو تعطل شيء؟" وهنا تأتي أهمية وجود بدائل فورية وآمنة.

بدائل تقنية يمكن الاعتماد عليها لحظيًا

  • نقاط بيع (POS) مستقلة عن الإنترنت المحلي: بعض أجهزة POS الحديثة قادرة على العمل باستخدام شريحة اتصال 4G، دون الحاجة إلى إنترنت أرضي (ADSL/Fiber). هذه الأجهزة يمكنها تنفيذ المدفوعات حتى في ظل سقوط شبكات أرضية، بشرط أن تكون مربوطة بسيرفرات خارج نطاق الأزمة مثل خوادم سحابية.
  • خوادم احتياطية (Failover Servers) موزعة جغرافيًا: لو خصصت البنوك ومحافظ الدفع خوادم موزعة في أكثر من محافظة أو حتى خارج مصر، يمكن للأنظمة التحويل تلقائيًا عند تعطل السيرفر الرئيسي، وتواصل تقديم الخدمات دون انقطاع يذكر.
  • إتاحة وضع Offline Mode مؤقت للمحافظ الإلكترونية: تتيح بعض الأنظمة إجراء عمليات محدودة دون إنترنت، مع التحقق لاحقًا عند استعادة الاتصال. مثلًا، يمكن السماح بتحويل أو دفع مبلغ معين ضمن رصيد مصرح به مؤقتً ويُخصم عند رجوع الشبكة.
  • توفير بدائل متعددة للاتصال: لا يجب أن يعتمد البنك أو مزود الخدمة على خط اتصال واحد، ووجود اتصال احتياطي عبر مزود مختلف أو حتى شبكة داخلية خاصة VPN عبر 4G، يمكن أن يُبقي الخدمة مستمرة في حالات سقوط السنترالات.
  • تكامل بين البنوك والتطبيقات غير المصرفية: في بعض الدول، في حالات الطوارئ، يُسمح باستخدام تطبيقات دفع بديلة للوصول المؤقت للأرصدة (بروتوكول API بديل).
تطبيقات وأجهزة نقاط البيع POS - المصدر: KORONA POS

أين المشكلة؟

ليست المشكلة في غياب الحلول التقنية لأن معظمها متاح، بل في غياب رؤية الأزمات وعدم اعتبار سيناريو الانقطاع أمرًا يستحق التخطيط المسبق. لو اُعتبرت كل خدمة رقمية خدمة حياتية، مثلها مثل الكهرباء والماء، لكانت البدائل موجودة وفعالة، وتبدأ بالعمل في اللحظة صفر من وقوع أي خلل. من وجهة نظري، لم تكن النيران التي التهمت سنترال رمسيس سوى لحظة مرئية من قصة خفية، قصة نظام رقمي هش كان يتنفس من رئة واحدة. لم يكن دخان الحريق وحده هو ما غطى القاهرة، بل دخان الأسئلة التي لم تجد إجابة.

حريق سنترال رمسيس - المصدر CNN

في لحظة، اكتشف المواطن أن الهاتف الذكي الذي كان يحمل فيه "بنكه الصغير"، لم يعد قادرًا على فعل شيء، وأن الكود السريع الذي كان يدفع به ثمن قهوته، لم يستجب. أن الحياة الرقمية، بكل سهولتها المبهرة قد تكون قشرة ناعمة تخفي تحتها هشاشة غير متوقعة. ما حدث في سنترال رمسيس لا يجب أن يُنسى كـ "حدث عابر" أو "حادث عرضي"، بل يجب أن يُعلمنا درسًا واضحًا: أن أي دولة تطمح للتحول الرقمي لا يكفي أن تُطلق التطبيقات، بل عليها أن تبني جسور الأمان. وأن تقدم الخدمات ليس في واجهتها فقط، بل في صلابتها ومرونتها وقدرتها على النهوض عندما تسقط.

ربما كانت النيران لحظة ضعف؛ لكنها قد تكون أيضًا شرارة يقظة. المستقبل لا ينتظر والرقمنة لن تتوقف، لكن وحدها الدول التي تُحصن نفسها بالعلم والتخطيط والبنية المتينة؛ هي التي تستطيع أن تتحمّل احتراق مركز دون أن تنهار المنظومة كلها.