في مساءٍ خانق من أمسيات القاهرة المزدحمة، حيث الضجيج لا يهدأ والأنوار لا تنطفئ، اخترق صوت صفارات الإنذار نسيج المدينة المعتاد. وما هي إلا لحظات، حتى بدأت أعمدة الدخان تتصاعد من قلب العاصمة وتحديدًا عند تقاطع شارع الجلاء، حيث يقف مبنى سنترال رمسيس منذ عقود كأحد أعمدة البنية التحتية للاتصالات في مصر.

اندلع حريق سنترال رمسيس فجأة، ليقلب المشهد رأسًا على عقب.

وفي غضون دقائق، انقطع الاتصال، وتوقفت الهواتف عن الرنين، وانطفأ الإنترنت من شاشات الهواتف والمنازل والمكاتب. لم يكن الأمر مجرد حادث عابر، بل عزلة رقمية أصابت ملايين المستخدمين في أنحاء متفرقة من مصر. ولم يعد السؤال: من المتصل؟ بل صار: ما الذي يحدث؟ ولماذا انقطعت مصر عن العالم بسبب حريق سنترال رمسيس؟

اندلاع حريق سنترال رمسيس - المصدر: Sky News

هكذا بدأت واحدة من أكثر الحوادث تأثيرًا في البنية التحتية التكنولوجية في الآونة الأخيرة، حين التهمت النيران طابق في السنترال، فأضاءت أزمةً أعمق من مجرد انقطاع خدمة: أزمة في التصميم والجاهزية وسرعة الاستجابة.

تفاصيل حريق سنترال رمسيس

حريق سنترال رمسيس - المصدر: BBC

في مساء الإثنين 7 يوليو 2025، اندلع حريق هائل داخل غرفة أجهزة بالطابق السابع من مبنى سنترال رمسيس. وبحسب المعلومات الأولية، بدأت النيران في مجموعة من الكابلات والمعدات الفنية، ما تسبب في تصاعد كثيف للدخان وامتداد ألسنة اللهب إلى أجزاء أخرى من المبنى، الأمر الذي استدعى تدخلًا عاجلًا من قوات الحماية المدنية.

استمر الحريق لأكثر من 13 ساعة متواصلة، ما جعل مهمة السيطرة عليه شديدة التعقيد، رغم الدفع بعشرات سيارات الإطفاء والفرق المتخصصة. ووفقًا لبيان وزارة الصحة، أسفر الحادث عن وفاة أربعة أشخاص وإصابة 29 آخرين، بينهم حالات اختناق نقلت إلى مستشفيات قريبة لتلقي العلاج.

ما كشفته التحقيقات الأولية

محافظ القاهرة في موقع الحادث - المصدر: Sky News

أكدت التحقيقات الأولية، التي شاركت فيها النيابة العامة وفرق الأدلة الجنائية، أن الحريق اندلع بسبب ماس كهربائي داخل إحدى غرف الكهرباء أو معدات الاتصالات، يُرجح أنه نتج عن تهالك بعض الكابلات  أو الأحمال الزائدة التي لم تعد تتحمل ضغط الاستخدام اليومي.

وسرعان ما تحولت تلك الشرارة الأولى، إلى ألسنة لهب اجتاحت الطوابق العليا للمبنى، في ظل غياب أنظمة إطفاء أوتوماتيكية كان يمكن أن تحتوي الكارثة في لحظاتها الأولى.

وقد كشفت التقارير الفنية أن البنية التحتية داخل السنترال كانت تفتقر إلى معايير السلامة الحديثة، سواء من حيث العزل الناري للكوابل أو تجهيزات الحماية الكهربائية، وهو ما ساعد على تمدد النيران وانتقالها إلى أكثر من غرفة.

رجال الإسعاف والحماية المدنية في موقع الحريق - المصدر: Okaz News

ووفقاً للجهات المختصة، يجري الآن إعداد تقرير شامل يرصد أوجه القصور في صيانة المبنى، وتحديد المسؤوليات، مع تعهد من وزارة الاتصالات باتخاذ إجراءات عاجلة لتأمين السنترالات الاستراتيجية ومراجعة أنظمة الحماية بها.

ما الذي يجعل سنترال رمسيس بهذا القدر من الأهمية؟

استمرار تصاعد الأدخنة حتى صباح اليوم التالي - المصدر: Telegraph Egypt

يُعد مبنى سنترال رمسيس أحد الأعمدة الرئيسية لشبكة الاتصالات في مصر، بل يمكن وصفه بالقلب النابض للبنية التحتية الرقمية في البلاد. اُفتتح عام 1927، ويقع في شارع رمسيس بوسط القاهرة، ويحمل تاريخًا طويلًا كمركز رئيسي لتوزيع المكالمات والبيانات. 

وعلى مر العقود، ومع تطور وسائل الاتصال من الهاتف الأرضي إلى الإنترنت إلى شبكات المحمول، ظل هذا المبنى يحتفظ بمكانته كمركز سيادي في قلب شبكة الاتصالات المصرية.

لكن أهميته لا تقتصر على تاريخه الطويل فحسب، بل تمتد إلى ما يقوم به فعليًا من أدوار حيوية؛ إذ يمكن تشبيهه بـالعقل المركزي أو غرفة العمليات لشبكات الاتصال في مصر. كما تمر من خلاله نسبة كبيرة من المكالمات الهاتفية والبيانات الرقمية.

شارع سنترال رمسيس - Shrouk News

وتشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 40٪ من حركة الاتصالات والإنترنت في مصر ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بهذا السنترال، سواء من خلال التحويلات البينية بين الشبكات أو عبر خدمات الربط الدولية التي يعبر من خلالها الإنترنت إلى داخل البلاد.

منظومة عمل متكاملة

في قلب المبنى، تعمل منظومة ضخمة من الأجهزة والتقنيات الحديثة، تشرف على تنظيم حركة المكالمات وتحويلها من شبكة لأخرى، خاصة بين شركات المحمول الكبرى مثل فودافون وأورانج وWE. كل مرة يتصل فيها شخص من شبكة إلى أخرى، تمر هذه المكالمة عبر ما يُعرف بنقطة الربط البيني، التي تُدار غالبًا من خلال السنترال.

صورة توضيحية لكابلات الإتصالات - المصدر: Tech Radar

كما يضم المبنى وحدات أساسية من شبكة الألياف الضوئية، وهي البنية التحتية التي تعتمد عليها البلاد بالكامل في تشغيل الإنترنت عالي السرعة. وتزداد أهمية المبنى نظرًا لكونه نقطة عبور رئيسية للكابلات البحرية القادمة من الإسكندرية، التي تربط مصر بشبكات الإنترنت العالمية الممدودة تحت سطح البحر، بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.

ولا يتوقف دوره عند هذا الحد، فهو يحتوي أيضًا على غرف مخصصة لاستضافة الخوادم المركزية وبعض خدمات الحوسبة السحابية، التي تستخدمها جهات حكومية وخاصة لتشغيل تطبيقات ومواقع إلكترونية مهمة. ولذا، فإن أي عطل أو توقف مفاجئ في هذا السنترال لا يعني فقط انقطاع خدمة أو تراجع في الجودة، بل قد يؤدي إلى شلل فعلي في أجزاء واسعة من البنية التحتية الرقمية للدولة.

صورة توضيحية لاندلاع ماس كهربائي - المصدر: Egy In

لهذا السبب، عندما اندلع به الحريق، مثَّل ذلك صدمة حقيقية كشفت عن هشاشة الاعتماد على مركزية الاتصالات، وفتحت تساؤلات جادة حول معايير الأمان في المنشآت الحيوية. فقد تسببت النيران في توقف مؤقت لمجموعة واسعة من الخدمات، وظهرت الآثار سريعًا في ضعف الاتصال، وتعطل المكالمات، وانقطاع الإنترنت في مناطق واسعة في البلاد.

لقد أظهر الحادث بشكل واضح أن أمن البنية التحتية للاتصالات ليس تفصيلًا فنيًا، بل مسألة تتعلق بالأمن القومي الرقمي بأكمله.

التداعيات وردود الأفعال

ما إن انتشرت ألسنة اللهب من قلب سنترال رمسيس، حتى انعكست أصداء الحريق على الحياة اليومية للمصريين. لقد كان الأمر أشبه بزلزال صامت أصاب شرايين الاتصالات، وامتد أثره ليشمل قطاعات حيوية مثل البنوك، والتجارة الإلكترونية، وخدمات الدفع.

على وسائل التواصل الاجتماعي، تحولت منصات مثل X وفيسبوك إلى ساحات للنقاش والغضب والسخرية، حيث تسابق المغردون لنشر مقاطع فيديو للحريق، والتعبير عن القلق من هشاشة البنية التحتية. وبرز وسم #حريق_سنترال_رمسيس ضمن قائمة الأكثر تداولًا، وسط تساؤلات لاذعة حول اعتماد دولة كاملة على نقطة اتصال مركزية بهذا الحجم.

الازدحام بموقع الحادث - المصدر: RT Arabic

في الوقت ذاته، أكدت تقارير صحفية أن خدمات الإنترنت في مصر تراجعت بنسبة قاربت 62٪ فور وقوع الحادث، قبل أن تستقر لاحقًا عند مستوى أقل من الطبيعي. وقد انعكس ذلك مباشرة على الخدمات المصرفية، فقد أظهرت البيانات أن عددًا من البنوك، وعلى رأسها البنك الأهلي المصري، شهد توقفًا مؤقتًا في أجهزة الصراف الآلي (ATM) والمعاملات الإلكترونية.

واضطُرت بعض فروع البنوك إلى تمديد ساعات عملها، كما تباطأت التحويلات البنكية، في حين رفع البنك المركزي حدود السحب النقدي لتقليل آثار الانقطاع.

بينما امتد التأثير أيضًا إلى منظومة البيع والشراء، حيث تعطلت خدمات الدفع الإلكتروني، وأُبلغ بعض المستخدمين عن تعذر تحويل الأموال عبر تطبيقات مثل فوري وإنستاباي. كما تضررت خدمات حجز التذاكر في القطارات والطيران.

محاولات الإطفاء استمرت حتى صباح اليوم التالي - المصدر: Sky News

ولم يكن سوق المال في منأى عن الفوضى، إذ اضطرت البورصة المصرية إلى تعليق التداول مؤقتًا للمرة الأولى منذ عام 2011، بسبب تأثر الاتصال بمنظومات البنية التحتية، في مشهد نادر لا يحدث إلا في الأزمات الكبرى.

هكذا تحول حريق محدود إلى اختبار واسع النطاق لقدرة الدولة على إدارة بنيتها الرقمية. فخلف الأدخنة التي غطت سماء القاهرة، كانت هناك فوضى رقمية صامتة تضع الكثير من علامات الاستفهام على المشهد بأكمله.

الدروس المستفادة من الحريق

اندلاع الحريق في الطابق السابع من المبنى - المصدر: Egy In

فتح حريق سنترال رمسيس بابًا واسعًا لمراجعة شاملة للبنية التحتية الرقمية في مصر، بعدما تبين أن الاعتماد على مركز تحكم واحد يمكن أن يوقف خدمات ملايين المواطنين في دقائق. فحين تتوقف الاتصالات، وتنهار أنظمة الدفع، وتتعطل البنوك، يتضح أن الخلل ليس فقط في حريق أو ماس كهربائي، بل في فلسفة هندسية كاملة تعول على المركزية وتفتقر إلى خطط بديلة مرنة.

أعاد الحدث طرح أسئلة كانت مؤجلة لسنوات: أين مراكز النسخ الاحتياطي؟ لماذا لا توجد بنية موزعة جغرافيًا للخدمات الحيوية؟ ما مدى جاهزية الدولة لحالات الطوارئ الرقمية؟ وبينما تقود الدول المتقدمة سباق التحول الرقمي نحو اللامركزية والاعتماد على الحوسبة السحابية، يبدو أن الحادث أعاد مصر خطوات إلى الوراء، لكنه في الوقت نفسه كشف عن فرصة لإعادة التفكير في المنظومة من جذورها.

إن ما حدث لا يقل خطورة عن الانقطاعات الكبرى التي شهدتها دول أخرى، مثل انقطاع الكهرباء الضخم الذي ضرب إسبانيا والبرتغال وأجزاء من فرنسا في أبريل الماضي، لكنه في الحالة المصرية له طابع خاص؛ لأننا لم نكن نتعامل مع خدمة واحدة بل مع شبكة كاملة تتأرجح فوق كابل محترق.

سيارات الإطفاء بموقع الحريق - المصدر: Ascent Topics

وربما يكون هذا التنبيه القاسي دافعًا لتبني سياسات جديدة تعتمد على توزيع الأحمال، وإنشاء مراكز بيانات احتياطية في مختلف المحافظات، وتدريب فرق تدخل سريع قادرة على الاستجابة خلال دقائق بدلًا من ساعات.

ما بعد حريق سنترال رمسيس

وزيرة التنمية المحلية ومحافظ القاهرة بموقع الحادث - المصدر: Egy In

أعاد حريق سنترال رمسيس تسليط الضوء على الحاجة الملحة إلى تطوير البنية التحتية للاتصالات في مصر. كما كشف عن ثغرات واضحة في منظومة الأمان التقني، وأثبت أن غياب الاستعداد الكافي لمثل هذه الطوارئ يمكن أن يؤدي إلى خسائر لا تقتصر على الأرواح فحسب، بل تمتد إلى الاقتصاد وحياة المواطنين اليومية.

ودفعت هذه التداعيات الجهات المعنية إلى الدعوة لاتخاذ مجموعة من الإجراءات الوقائية والتقنية. بدأت التوصيات بضرورة تحديث أنظمة الكهرباء داخل السنترالات، والتخلص من الكابلات المتهالكة، وتركيب أجهزة استشعار حراري ودخان قادرة على الإنذار المبكر قبل تفاقم أي خلل. كما برزت الحاجة إلى اعتماد أنظمة إطفاء أوتوماتيكية فعالة، قادرة على احتواء الحريق في مراحله الأولى دون الاعتماد فقط على التدخل البشري.

الأدخنة تغطي سماء القاهرة بعد اندلاع الحريق - المصدر: RT Arabic

تطلب الأمر أيضًا مراجعة توزيع الأحمال الكهربائية داخل المباني القديمة، وضمان وجود مصادر طاقة احتياطية تُفعل تلقائيًا عند انقطاع التيار أو حدوث خلل. ودعت التوصيات إلى إنشاء بنية رقمية موازية تعتمد على مراكز بيانات بديلة، تضمن استمرارية الخدمة حال تعطل أي مركز رئيسي، دون أن يشعر المستخدمون بأي انقطاع.

ولم تغفل التوصيات عن أهمية الجانب البشري، حيث شددت على ضرورة تدريب العاملين في هذه المراكز على بروتوكولات الطوارئ، وتجهيز غرف تحكم مركزية تراقب الشبكات على مدار الساعة، وترصد أي خلل أو مؤشرات غير طبيعية فور ظهورها.

جاء هذا الحادث ليُذكر بأن الاتصالات لم تعد قطاعًا منفصلًا عن الحياة اليومية، بل باتت جزءًا أساسيًا من عمل الدولة والمجتمع. ويعني ذلك أن حماية هذه المنظومة تتطلب استثمارًا دائمًا في السلامة، وتحديثًا مستمرًا في التكنولوجيا، واستعدادًا شاملاً لمواجهة الطوارئ بأقل خسائر ممكنة.

وفي النهاية، لا تقتصر أهمية ما جرى على الأضرار المباشرة، بل في ما كشفه من فرصة ثمينة لإعادة بناء الثقة في بنية تحتية رقمية أكثر كفاءة، لا تُطفئها شرارة واحدة.