تخيل عزيزي القارئ، أن أحلام ما بعد العصر تتحقق! لا، لا أقصد أن تمطر السماء نقودًا بل أقصد أن تتمكّن من تذوّق طعام الشيف بوراك عن بُعد. أسمعك تقول: "جيد، فهو يحشو كل ما يقع في طريقه على أي حال". لكنني أتحدث بجدية أن تجلس على سريرك، وتجرب نكهات أطعمة يدفع البعض آلاف الدولارات لتذوقها.

وبدلًا من أن يخبرك صانع المحتوى بأن هذا الطعام "لذيذ" أو "جوسي" لأن أموال الإعلانات أكثر لذّة بالنسبة له، ستختبر بنفسك ما إذا كان كذلك فعلًا أم لا. لا، لستُ أحكي لك عن فيلم خيال علمي، بل أتحدث عن جهاز حقيقي يُدعى e‑Taste، طورته جامعة أوهايو. فدعنا الآن "نتذوّق" تفاصيل هذا الابتكار، أقصد نتعرف عليه!

ما هو جهاز e-Taste؟

جهاز e-Taste هو ابتكار تكنولوجي حديث يُعرف بـ "اللسان الرقمي" أو "الحاسة الرقمية للتذوق"، طوره باحثون من جامعة أوهايو (Ohio State University)، ويهدف إلى محاكاة عملية التذوق البشري رقميًا، بحيث يتمكن المستخدم من تجربة النكهات عن بُعد، دون الحاجة لتناول الطعام فعليًا.

الفكرة الأساسية تعتمد على تحفيز براعم التذوق باستخدام إشارات كهربائية دقيقة تحاكي طعم المواد المختلفة مثل الحلو، والمر، والحامض، والمالح. لكن كيف يعمل الجهاز؟

ستتذوق الهاتف! يعتمد الجهاز على واجهة تلامسية توضع على اللسان، غالبًا على شكل شريحة صغيرة أو سطح معدني مزود بأقطاب كهربائية دقيقة. ترسل هذه الأقطاب نبضات كهربائية ضعيفة إلى مستقبلات التذوق على اللسان، ما يحفز إحساسًا معينًا بالطعم، دون وجود المادة الغذائية فعليًا.

تقنية e-Taste - المصدر: Visionary CIOs

تُبرمج هذه النبضات بدقة شديدة من خلال خوارزميات معقدة بحيث تُحاكي التفاعل الكيميائي الذي يحدث عادة عندما تتذوق الطعام الحقيقي. يُرسل تردد معين لتحفيز الإحساس بالحلاوة، وآخر للملوحة وهكذا. فيما يلي أبرز تطبيقات e-Taste:

  • تجارب الطعام الافتراضي: يُستخدم الجهاز حاليًا في مشاريع بحثية وتجريبية ضمن بيئات الواقع الافتراضي (VR) ليتيح للمستخدمين تجربة تذوق أطعمة أثناء مشاهدة فيديوهات طعام، واختبار "طعم المنتج" قبل شرائه عبر الإنترنت أعرف أن خيالك يأخذك ل Energy Drink وChicken Dinner في PUBG لا تقلق أنا أيضًا!
  • برامج التغذية العلاجية والحمية: بعض المؤسسات الصحية بدأت بتجربة التقنية لمساعدة مرضى السكري والسمنة في تذوق النكهات دون السعرات الحرارية الفعلية، إعلانات بلبن ستكون كافية! ومرضى اضطرابات الشهية مثل فقدان الشهية أو الشره المرضي لتجديد ارتباطهم بالطعام بطريقة آمنة.
  • الذين فقدوا حاسة التذوق: يُجرى تطوير الجهاز حاليًا كوسيلة تعويضية لكبار السن أو المرضى الذين فقدوا حاسة التذوق بسبب العلاج الكيماوي أو الجراحات، ومن يعانون من حالات عصبية تؤثر على الحواس مثل الشلل الرعاش Parkinson.
  • اختبارات الطعم الصناعية: تجربه بعض شركات الأغذية لاستخدام اللسان الإلكتروني كأداة تقييم طعم موثوقة عند تطوير منتجات جديدة، وذلك عبر اختبار الطعم الصناعي للمنتجات قبل الإنتاج الضخم، ومحاكاة استجابات مختلفة لشرائح متعددة من المستهلكين.
  • التعليم والتدريب في كليات الطهي: يُستخدم في بعض المعاهد كمساعد تعليمي للطلبة في التعرف على الفروق الدقيقة بين الطعوم المختلفة، وبناء حس ذوقي دقيق دون الحاجة إلى كميات كبيرة من المواد الغذائية.

هل هو آمن؟

نعم، وفقًا للأبحاث الأولية المنشورة في دورية IEEE Transactions on Biomedical Engineering، فإن الجهاز آمن تمامًا للاستخدام البشري. حيث إن الإشارات الكهربائية المستخدمة ضعيفة جدًا وغير مؤذية، وقد اختبرت على متطوعين دون تسجيل آثار جانبية تُذكر. بالطبع، مرضى الوسواس القهري سيغضبون هنا.

التحديات التقنية التي تواجه جهاز e-Taste

هناك العديد من التحديات التي تواجه الجهاز رغم المزايا المتعددة التي يوفّرها، ويُمكننا تلخيص هذه التحدّيات في النقاط التالية:

  1. تعقيد تجربة التذوق البشرية: الطعم ليس مجرد إحساس منفصل، بل هو مزيج دقيق من عناصر متعددة النكهات الأساسية (الحلو، المر، المالح، الحامض)، بالإضافة إلى الرائحة ودرجة الحرارة وملمس الطعام. محاكاة هذه التجربة الغنية بواسطة جهاز إلكتروني، هي مهمة معقدة للغاية تتطلب تكنولوجيا دقيقة وحساسة.
  2. ضمان الأمان والسلامة: يعتمد عمل الجهاز على تحفيز اللسان باستخدام تيارات كهربائية خفيفة أو جزيئات نكهة قابلة للتبخير. وهذا يثير تساؤلات جدية تتعلق بسلامة المستخدم، خاصة فيما يتعلق بالتحسس أو التهيج أو التأثيرات العصبية على المدى الطويل. لذلك، يُعدّ ضمان الأمان البيولوجي والتشغيلي أحد أهم التحديات التقنية.
  3. اختلاف استجابة الأفراد: تختلف حاسة التذوق من شخص إلى آخر بناءً على عوامل وراثية وصحية، ما يجعل من الصعب تطوير نموذج موحد يناسب جميع المستخدمين. وبالتالي، هناك حاجة إلى أنظمة قابلة للتخصيص تتيح ضبط الإحساس بالنكهات وفقًا للفروق الفردية.
  4. متطلبات الطاقة والتصميم: من الضروري أن يكون الجهاز صغير الحجم، وسهل الاستخدام، وقادرًا على العمل لفترات طويلة دون الحاجة إلى إعادة شحن مستمرة. الجمع بين هذه المتطلبات يُشكل تحديًا في مجال هندسة الإلكترونيات الدقيقة.
  5. الربط الرقمي والاتصال بالإنترنت: لا يعمل الجهاز في فراغ، بل يعتمد على منظومة متكاملة تشمل تطبيقات ذكية، وقواعد بيانات للنكهات، واتصال لحظي بالإنترنت. ضمان تزامن هذه العناصر بدقة عالية، ومنندون تأخير، يُعد تحديًا تقنيًا آخر، خاصة إذا أردنا دمج الجهاز في تجارب الواقع الافتراضي أو المتاجر الرقمية.
  6. القبول الاجتماعي والنفسي: رغم جاذبية الفكرة من الناحية التكنولوجية، فإن تقبّل الناس لفكرة تذوق طعام غير موجود فعليًا يمثل عائقًا في حد ذاته. فالتجربة الذوقية لطالما كانت مرتبطة بالفعل الحسي الفيزيائي، وفصلها عن الأكل الحقيقي قد لا يلقى رواجًا في جميع الثقافات أو بين مختلف الفئات العمرية.
  7. التكلفة والتصنيع: لا تزال النماذج الأولية لهذه التقنية مكلفة، نظرًا لما تتطلبه من مواد دقيقة وبحوث متقدمة. وحتى تصل إلى مرحلة الإنتاج التجاري الواسع، لا بد من تقليل تكلفة التصنيع دون التأثير على جودة الأداء، وهو أمر يتطلب مزيدًا من الوقت والاستثمار.

مستقبل التقنية

يبدو أنها ستكون الخطوة الأولى نحو دمج الحواس في العالم الرقمي، فبعدما اعتدنا على التفاعل مع الصور والصوت وحتى اللمس في بعض الأجهزة، يأتي التذوق ليكمل التجربة ويمنحنا إحساسًا أكثر واقعية في عالم افتراضي بالكامل. تخيّل أن تتذوّق قطعة شوكولاتة وأنت تشاهد إعلانها على هاتفك… أو أن تجرب نكهة طبق قبل طلبه من مطعم في بلد آخر!

ويبدو أيضًا أنها ستكون تحولًا جذريًا في التجارة الإلكترونية، فبدلًا من الاعتماد فقط على تقييمات الآخرين أو صور مغرية، يمكنك تذوق المنتج بنفسك وأنت في المنزل، مما قد يغيّر قواعد لعبة التسويق الغذائي تمامًا.

أما في عالم التعليم، فقد تصبح هذه التقنية أداة رائعة في تدريب الطهاة أو تعليم الأطفال النكهات والتمييز بينها، مما يفتح أبوابًا جديدة لتجربة التعلم الحسي.

وفي المستقبل القريب، لن يكون غريبًا أن ترسل نكهة القهوة المفضلة لصديقك كرسالة صباحية (لو أرسلتها بسكر وهو يفضلها سادة، ربما يحظرك) أو أن يرتبط طعم ما بذكرى معينة، مثلما نفعل اليوم مع الموسيقى والصور.

يبدو أننا -أخيرًا- قد نستمتع بإعلانات شرمب زون والعبد في المستقبل أكثر، لأن التقنية لم تعد تكتفي بمساعدتنا على رؤية العالم أو سماعه، بل أصبحت تطمح لأن تُشعرنا به. جهاز "التذوق الإلكتروني" ليس مجرد أداة عابرة، بل خطوة أولى نحو مستقبل نعيشه بالحواس، لا بالشاشات فقط.

مستقبلٌ تأكل فيه بعينيك، وتشم عبر الإنترنت، وتتذوق الطعام دون أن تغادر سريرك. مستقبلٌ يُلغي المسافات بين التجربة والمتعة، ويمنحنا نسخة أقرب من الواقع، ليلغي الواقع نفسه! حسنًا هذه قصّة أُخرى على كل حال. وإن كانت بداية الطريق الآن مجرد نكهات صناعية تنقلها شريحة صغيرة، فغدًا قد يصبح لكل نكهة قصة، ولكل جهاز طعم، ولكل ذكاء اصطناعي نَفَس بشري.