لطالما سحرتني الأحلام بمعالمها الغامضة التي لا تخضع للعقل أو المنطق، حيث يمكنني الطيران فوق المدن أو لقاء الأحبة الذين رحلوا منذ زمن أو الهرب من مشكلة تؤرقني ولا أجد لها حلًّا. لكن في كل مرة أستيقظ فيها، يذوب الحلم كقطعة ثلج تحت أشعة شمس الواقع، ولا يبقى منه سوى أثر باهت في الذاكرة.

شاهدتُ مؤخرًا فيلم Inception لكريستوفر نولان، ذاك الفيلم الذي كسر الحواجز بين الحلم والواقع، بين العقل البشري واللاوعي. ومع كل مشهد من الفيلم كنت أتساءل: هل سيأتي يوم نستطيع فيه السيطرة على أحلامنا؟

هل يمكن للعقل البشري أن يُبرمج الحلم كما يُبرمج مشهدًا سينمائيًا؟ أن نختار من يظهر وأين نكون، ومتى نستيقظ؟

صورة لتداخل التأثيرات في deepdream - المصدر: tensorflow

وسط هذه التساؤلات، اكتشفت شيئًا أكثر غرابة، وهو أن هناك مشروع غريب من Google يُدعى DeepDream، يجعل الحاسوب يعيد تشكيل الواقع البصري في صورة حلم لا يخضع للمنطق، ولا يخلو من الإبداع.

فإذا كنا نحاول فهم الحلم والتحكم به، والآلة من جهتها تحاول خلق صور تشبهه، فهل نلتقي في نقطة مشتركة؟ وهل يكون الحلم في المستقبل ميدانًا جديدًا نتقاسمه مع الذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن أن تحلم الآلة فعلًا أم أننا فقط نرى انعكاس أحلامنا نحن؟

في هذا المقال، نغوص في عالم DeepDream، ونكتشف كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيل الواقع بصريًا بطريقة تشبه الحلم. نستعرض كيف بدأت هذه التجربة، ولماذا أثارت جدلًا واسعًا بين العلماء، ونفكر معًا: هل الحلم هو آخر ما تبقى لنا كبشر أم أنه المجال القادم الذي ستدخله الآلة؟

عندما بدأت الآلة تحلم

التلاعب بالصور في deepdream - المصدر: The Guardian

بدأ الأمر كما تبدأ معظم الاكتشافات الكُبرى، تجربة بسيطة في أحد مختبرات Google. لم يكن الهدف صناعة آلة تحلم، بل مجرد محاولة لفهم كيف ترى الشبكات العصبية العميقة الصور. كان يعمل المهندس ألكسندر موردفينتسيف على مشروع تحليلي، يستخدم نموذجًا يُدعى «Inception» لتحليل الصور، ثم طرأت له فكرة غريبة: ماذا لو طلبنا من النموذج ألا يتعرف فقط على ما في الصورة، بل أن يعزز الأنماط التي يعتقد أنه رآها؟

فجأة، لم تعد الصور كما كانت. فتحولت صورة كلب عادي إلى كائن متعدد العيون. وتلون السحاب بتنانين وهمية، وامتلأ العشب بأشكال عجيبة تشبه الوجوه. وكأن النموذج لم يكتفِ بالنظر إلى الصورة، بل بدأ يعيد تشكيلها، ويضخ فيها خيالًا خاصًا بها.

وهنا وُلد ما يُعرف اليوم بـ DeepDream. وهو مشروع تقني لا يتنبأ، بل يحلم بصريًا، أو على الأقل، يقدم لنا وهمًا يشبه الحلم. كانت الصور الناتجة مدهشة ومقلقة في آنٍ واحد، إذ بدت وكأنها مأخوذة من عقلٍ يغلي بالأفكار المتداخلة والذكريات المختلطة، تمامًا كما تفعل أحلامنا أحيانًا.

كيف يعمل DeepDream؟

التخيل بالذكاء الاصطناعي - المصدر: Fast Company

قد يبدو للوهلة الأولى أن DeepDream مجرد فلتر غريب يضيف تأثيرات بصرية على الصور، لكنه في الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. لفهم آلية عمله، علينا أن نعود خطوة إلى الوراء، إلى قلب التقنية: الشبكات العصبية الاصطناعية، وهي نماذج رياضية مصممة لمحاكاة طريقة تفكير الدماغ البشري.

عندما نُدرّب شبكة عصبية للتعرّف إلى الصور، فإنها تتعلم عبر طبقات متعددة. تبدأ من ملاحظة الخطوط البسيطة، ثم تتدرج لتتعرف على الأنماط، ثم الأشكال، وأخيرًا الأشياء نفسها: وجه، شجرة، كلب، وهكذا. فكل طبقة من هذه الطبقات تفكك الصورة وتحللها على طريقتها الخاصة.

لكن DeepDream يفعل العكس تقريبًا. فبدلاً من أن يمرر صورة عادية عبر الشبكة للحصول على تصنيف، يُدخل صورة إلى النموذج، ثم يطلب منه «تعظيم» استجابته لما يراه؛ أي أننا نطلب من النموذج أن يُبالغ فيما يعتقد أنه موجود.

كيف يتم ذلك؟

التأثيرات التي تُولدها بالذكاء الاصطناعي - المصدر: Medium

يحسب البرنامج ما يُعرف بالمشتقات (gradients)، وهي ببساطة توجيهات حول كيف يجب أن تتغير الصورة لجعل الشبكة «ترى» شيئًا ما بشكل أوضح. ثم تُعدل الصورة بناءً على هذه التوجيهات، وتُعاد الكرة مرارًا، مما يؤدي إلى تضخيم الأنماط البصرية داخلها. والنتيجة؟ صورة مشوّهة، غريبة، وكأنها مرآة لحلم آلي لا يخضع لأي منطق.

يمكنك أن تُدخل صورة عادية لقِطّة، وتخرج منها بشيء يشبه قطة تملك جناحين، وخلفها سحب على شكل عيون، وعشب مملوء بوجوهٍ بشرية مصغرة. الأمر كله أشبه بمحاولة العقل الصناعي أن يتخيل أو أن يهذي.

تعتمد هذه التقنية غالبًا على نماذج دربتها Google مسبقًا، مثل InceptionV3، وهي نماذج ضخمة تضم ملايين الوصلات والعُقد، مدربة على ملايين الصور. وكل طبقة منها «تحب» أن ترى شيئًا معينًا، فتبدأ هذه الطبقات بفرض ذوقها الخاص على الصور.

لكن المفارقة هنا أنه كلما زادت جولات التعديل، خرجنا من الواقع أكثر واقتربنا من شيء يشبه الحلم أو حتى الكابوس.

كيف يُنتج الحاسوب تلك الصور المضطربة؟

كيف يتم التأثير على الصور - المصدر:  Fortune

لفهم كيفية عمل DeepDream بالتفصيل، نحتاج أن نتخيل كيف تنظر الشبكة العصبية إلى صورة ما. لنقل أننا أدخلنا صورة لجبل. في الوضع الطبيعي، تمر هذه الصورة عبر طبقات متعددة داخل النموذج، وكل طبقة تكتشف شيئًا معينًا، فهناك طبقة تلاحظ الحواف، وأخرى تتعرف على الألوان، وطبقة أعمق تميز السماء الأشجار وربما تصنف أخرى الصورة كمنظر طبيعي.

لكن في DeepDream، تُستخدم هذه الشبكة العصبية بطريقة غير تقليدية بدلًا من الاكتفاء بتصنيف الصورة، نقوم بالخطوات التالية:

مراحل تعديل الصور - المصدر: Trancentral

1. اختيار طبقة معينة داخل النموذج

كل طبقة في الشبكة مسؤولة عن رؤية مستوى معين من التجريد. يمكننا مثلًا اختيار طبقة وسطى تُظهر تفاعلات الأنسجة أو الأشكال أو طبقة عليا ترى وجوهًا أو عيونًا أو حيوانات.

2. إدخال صورة أولية

نبدأ بصورة حقيقية، كصورة شجرة أو شخص أو حتى صورة عشوائية من الضجيج (Noise). ثم تُمرَّر هذه الصورة داخل النموذج، وتُسجل كيف استجابت الطبقة المختارة.

3. حساب الخطأ العكسي (Backpropagation)

هنا تبدأ الخدعة، فبدلاً من استخدام Backpropagation لتصحيح النموذج كما نفعل أثناء التدريب؛ نستخدمه لتصحيح الصورة نفسها. نحسب الاتجاه الذي يجب أن تتغير فيه كل بكسلة لتعزز استجابة النموذج.

كيف تشبه المؤثرات هلوسات الأحلام - المصدر: rhizome

4. تعديل الصورة خطوة بخطوة

نطبق تعديلات صغيرة على الصورة لجعل الطبقة المختارة «سعيدة»، أي نشيطة أكثر. ثم نعيد تمرير الصورة، ونكرر العملية. ومع كل تكرار، تبدأ السمات التي تراها الطبقة بالظهور بشكل أوضح: عيون أو دوامات أو أشكال هندسية أو كائنات خيالية بالكامل.

5. تكبير الصورة وتكرار العملية

لزيادة العمق البصري، تُقسم الصورة إلى عدة مستويات (Octaves). في كل مستوى، تُكرَر عملية «الحلم» ثم يُدمَج الناتج مع المستوى التالي؛ وهو ما يعطي التأثير النهائي إحساسًا بأنه ثلاثي الأبعاد أو بلا نهاية.

6. النتيجة: حلم رقمي

في النهاية، نحصل على صورة لا تشبه ما بدأنا به إطلاقًا، بل أشبه بكابوس سريالي مليء بالأنماط المتكررة والوجوه الغريبة والكائنات المشوهة. إنه عقل رقمي يعبر عن «ما يراه» بطريقته الخاصة، حتى لو لم يفهم ما يراه.

يمكنك عزيزي القارئ أن تطلب من النموذج أن يتخيل كلبًا، فترى عشرة كلاب مدمجة مع الأشجار والسحاب والظل. هذا هو DeepDream في جوهره: استبطان لما تراه الشبكة وتحويله إلى صورة؛ وكأنها نافذة على عقل لا يملك عقلًا.

التأثير بالذكاء الاصطناعي - المصدر: disperser

هل يحلم النموذج كما نحلم نحن؟

عندما ننظر إلى الصور الناتجة عن DeepDream، لا يسعنا إلا أن نشعر بشيء مألوف. تلك الوجوه المتكررة، التفاصيل المبالغ فيها، التحولات العشوائية بين الأشكال، كلها تذكرنا بأحلامنا نحن. لكنها، في جوهرها مختلفة تمامًا.

الحلم البشري: تجربة ذاتية مليئة بالمشاعر

لا يعد الحلم لدى الإنسان مجرد صورة، بل سردية يعيشها العقل في غياب الوعي الكامل. نحلم لأننا نتذكر، لأننا نشتاق، لأن عقولنا تحاول معالجة القلق أو إعادة ترتيب الذاكرة. في الحلم، لا نسأل كيف وصلنا إلى المكان، ولا لماذا نرى شخصًا راحلًا، نحن نعيش الحدث بمشاعر حقيقية ونصدقه حتى نستيقظ.

يدخل العقل البشري أثناء النوم في حالة معقدة من النشاط العصبي، تحديدًا في مرحلة تُعرف بـ REM sleep، حيث تتشابك الذكريات والتجارب والمخاوف في مسرح داخلي لا يخضع للمنطق.

حلم الآلة: تضخيم للأنماط دون معنى

شكل التأثير قبل وبعد - المصدر: techno Llama

أما DeepDream، فلا يمتلك ذكريات، ولا مشاعر، ولا وعيًا بالزمان أو المكان. هو ببساطة يتفاعل مع أنماط بصرية بطريقة حسابية. فهو لا «يرى» الكلب لأنه يتذكره أو يحبه، بل لأنه تعلم أن يتعرف على شكل الكلب آلاف المرات، فأصبح يراه حتى في أماكن لا وجود له فيها.

قد تبدو الصور التي ينتجها النموذج حالمة أو مرعبة، لكنها لا تحوي أي سرد أو عاطفة. ولا يوجد في «عقل الآلة» حنين ولا رموز ولا هروب من الواقع، فقط طبقات من التعرف البصري المضخم مدفوعة بخوارزميات لا تفهم ما تصنع.

الفرق الجوهري: المعنى

يعد الحلم البشري محاولة طموحة من العقل لصياغة معنى معين؛ حتى وإن كان هذا المعنى غامضًا أو غريبًا. أما DeepDream، فهو يحاكي الشكل، لكنه يفتقد جوهر الحلم: المعنى. هو يحلم بصريًا فقط، بلا قصة، بلا دافع، بلا هدف.

لكن المفارقة أن هذه الصور، رغم أنها ناتجة عن خوارزمية صُنعت مسبقًا، فإنها تمس شيئًا ما في داخلنا. ربما لأننا نحن من نُسقط عليها المعنى، فنحن نراها ونتذكر أحلامنا نحن، وربما لهذا السبب يشعر البعض بأن DeepDream لا يكشف عقل الآلة، بل يكشف شيئًا من عقلنا نحن.

عندما يحلم الذكاء الاصطناعي

صنع التأثيرات بالذكاء الاصطناعي - المصدر: google research

قد يبدو DeepDream مجرد مشروع تقني غريب للوهلة الأولى، لكن ما إن انتشرت صوره في الإنترنت، حتى انقلب إلى ظاهرة ثقافية. فرسوماته الهلوسية لم تُدهش المهندسين فقط، بل جذبت الفنانين وعلماء النفس وحتى الأطباء.

أداة فنية خارجة عن المألوف

في عالم الفن، استُخدم DeepDream كفرشاة رقمية ترسم ما لا يقدر عليه البشر. وقد بدأ فنانون رقميون يدمجون خوارزميات الذكاء الاصطناعي في أعمالهم؛ لينتجوا لوحات تتجاوز الخيال البشري. فالآلة لا تعاني من محدودية المخيلة أو التقاليد الفنية، بل تبتكر تركيبات بصرية غير متوقعة، تعيد تشكيل الواقع في صور سريالية تقترب من أحلام سلفادور دالي أو لوحات المدرسة السريالية.

ولأن الآلة لا تملك ذوقًا فنيًا، فإنها تخلق «الجميل» و«القبيح» بنفس الحيادية، ما يفتح أبوابًا جديدة لتجربة الفن كتأمل في اللاوعي الرقمي.

نافذة على اللاوعي البشري؟

تأثير تداخل الألوان - المصدر: popular science

في علم النفس، أثارت صور DeepDream تساؤلات حول علاقتها بمحتوى اللاوعي. فالكثير من هذه الصور تُشبه فعلاً ما نراه في أحلامنا أو نوبات الهلوسة، خصوصًا لدى من يعانون من بعض الاضطرابات العصبية أو يستخدمون عقاقير تؤثر على الإدراك.

بدأ بعض الباحثين باستخدام DeepDream كأداة لتحفيز الحديث عن الصور الداخلية لدى المرضى، خاصة في جلسات العلاج النفسي الإبداعي. إذ قد تساعد هذه الصور على تسهيل التعبير عن الأحاسيس الغامضة أو استحضار الذكريات المكبوتة، من خلال تشابهها مع محتوى الأحلام أو الكوابيس.

احتمالات علاجية مستقبلية

إدخال التعديلات على لوحة الموناليزا - المصدر: full stop

في ميدان الطب العصبي، وُضعت فرضيات جريئة: هل يمكن أن يساعدنا فهم «أحلام الآلة» على فهم اضطرابات النوم أو الهلوسات البصرية؟ هل يمكن تدريب نماذج ذكاء اصطناعي لمحاكاة أنواع معينة من الأحلام بهدف تهدئة القلق أو محاربة الاكتئاب؟

لا تزال هذه الأسئلة في طور التجريب، لكن الاحتمالات تثير الحماس. فربما في المستقبل، تُستخدم خوارزميات تشبه DeepDream لتوليد بيئات بصرية علاجية، تساعد العقل البشري على الاسترخاء أو مواجهة صدماته في بيئة خيالية آمنة.

مستقبل الأحلام المصمَمة

مشهد من فيلم inception - المصدر: the guardian

عدتُ بمخيلتي إلى فيلم Inception، إلى تلك اللحظة التي تدور فيها النحلة الصغيرة على الطاولة، بلا توقف، بين الحلم واليقظة. واليوم، وبينما تنسج الخوارزميات أحلامًا رقمية على شاشاتنا. لا يسعنا إلا أن نتساءل: هل سيأتي اليوم الذي لا نعرف فيه إن كان ما نراه حلمٌ حقيقي أم مجرد وهم مبرمج؟

الأدهى من ذلك، هل سيتحول الحلم من تجربة داخلية خفية، إلى محتوى مشترك يمكن للآخرين مشاهدته أو التفاعل معه؟ هل ستنتهي خصوصية الحلم كما انتهت خصوصية الفكر على وسائل التواصل؟

لا يملك DeepDream عقلًا، ولا روحًا، لكنه يقدم لنا مرآة غريبة الشكل ذات سطح مكسور تُظهر لنا شيئًا من أنفسنا لم نره من قبل.

قال كارل يونغ «عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي»:

الحلم هو المسرح الذي يُمثل عليه الحالم قصة حياته.

لكن ماذا لو تغير الحالم؟ ماذا لو باتت الآلة هي من تُدير هذا المسرح، وتخلق القصة من تلقاء نفسها؟
هنا في DeepDream، نرى محاولة بدائية لعقلٍ لا ينام، يحاول أن يحلم بلا مشاعر أن يتخيل بلا ذاكرة وأن يقول لنا شيئًا ربما عنا نحن، لا عنه هو. وربما في المستقبل، لن تكون الأحلام مجرد مرآة للإنسان، بل مساحة مشتركة بيننا وبين ذكاءٍ جديد، لا يزال يتعلم كيف يرى… ويحلم.