[quote "في غضون فترة زمنية مُعيّنة – اعتمادًا على من تسأل ومتى تسأل، والتي تتراوح زمنيّاً في فترة ما بين 18 و 24 شهرًا – ستسمح التحسينات في عمليات التصنيع التكنولوجية لعدد المكونات المنفصلة على بوصة مربعة (6.5 سنتيمترات مربعة) من رقائق السيليكون بالمضاعفة (أو باختصار، فإن عدد المكونات والتي في حالتنا هي الترانزستورات على كل شريحة سيليكون سيتضاعف كل فترة زمنية في حدود سنتين"]

لا شك أن تلك القاعدة البسيطة السابقة، والتي تعتمد بشكل كبير على المُلاحظة الفعلية والتجربة كانت ولا تزال أحد أكثر النبوءات والتوقّعات، أو حتّى الملاحظات الأكثر شهرة في عالم التقنية والحاسوب بشكلٍ عام.

وكيف لا وقد ساهمت تلك الملاحظة إلى التطوّر الرهيب الذي نراه اليوم في عالم التقنية بشكلٍ عام. هذه الملاحظة والتي أُطلق عليها فيما بعد اسم "قانون مور" تعود بشكلٍ رئيسي لأحد مؤسسي شركة Intel العريقة والذي يُدعي جوردن مور، وقد قام بالإدلاء بها في عام 1965 لتُصبح بعد ذلك ركيزة أساسية في تصميم وتطوير شرائح السيليكون حتّى عامنا الحالي.

ولكن من هو جوردن مور بالأساس؟ كيف كانت بدايته، وما هي قصّة حياته، وكيف استطاع بفطنته وجهوده أن ينهض بشركة إنتل لتُصبح أحد أكبر -إن لم تكن كذلك بالفعل- الشركات التقنية في عالم الهاردوير على الإطلاق؟

كل ذلك وأكثر سنعرفه معاً في مقالتنا اليوم، فأعدّ كوباً من القهوة عزيزي القارئ وتعال أُخبرك بأحد أكثر القصص إلهاماً في عالم التقنية، قصّة الأب الروحي لوادي السيليكون... 

نبذة سريعة

مُنذ بضعة أيام، وصلنا -نحن المتابعين لعالم التقنية- خبر كان مأساويّا للبعض، ولكنه كان لابد له في يوم من الأيام، ألا وهو خبر وفاة أحد المؤسسين الأشهر للعملاق الأزرق Intel وهو السيد جوردن مور (صاحب قانون مور الشهير).

تُوفّي جوردون إيرل مور في 24 مارس 2023 عن عمر يناهز 94 عامًا. وقد كان مور رجل مُتعدد الاهتمامات والمسؤوليات، والمهارات أيضاً. ولعل أحد أشهر هذه الاهتمامات كانت التزاماته الطويلة الأمد تجاه عائلته - كزوج لبيتي آي مور لمدة تصل إلى 73 عامًا، وكأب لابنيه كين وستيف مور - مروراً بدراسة العلوم والتكنولوجيا، وصيد الأسماك.

كان مور أيضًا كيميائيًا حاصلًا على درجة الدكتوراه ، وتقنيًا لتصنيع أشباه الموصلات، ووصف نفسه بأنه "رائد أعمال عرضي"، وقائد لعمليات البحث والتطوير الصناعي، والمدير التنفيذي لبعض الشركات، ومستثمر في مجموعة من المشاريع، ورائد للأعمال الخيرية.

وبالرغم من كُلأ ما سبق ذكره من الأعمال والمجالات التي برع فيها الرجل، إلا أنه ربما يكون مور معروفًا على نطاق أوسع بظاهرة "قانون مور" الخاصة به، وهي الديناميكية التنموية في رقائق السيليكون الدقيقة التي أدت -لمدة وصلت لأكثر من نصف قرن- إلى زيادات هائلة في تطوّر الرقائق الإلكترونية مصحوبة بانخفاض في تكلفة تصنيعها.

وترجع الأهمية الكبيرة لهذا القانون إلى أن هذه الزيادة الهائلة في وظائف الإلكترونيات الرقمية، والقدرة على تحمّل تكاليفها في شكل رقائق السيليكون الدقيقة أحد الأُسس الرئيسية التي أدّت للاستخدام الواسع للإلكترونيات الرقمية والحوسبة على مستوى العالم.

بل وفي جميع مجالات المجتمع والثقافة، وبالتالي الوصول في نهاية المطاف إلى عالمنا الرقمي المعاصر، الذي يعتمد على التقنية والأجهزة الإلكترونية في كُل شيءٍ تقريباً. 

وبالنظر لهذه الأهميّة الكبيرة التي خلّفها قانون مور، وإضافة ما لعبه من الأدوار في عالم التكنولوجيا وريادة الأعمال في إحدى أهم شركتين من شركات تصنيع شرائح السيليكون الدقيقة حتى الآن (- Fairchild Semiconductor  وشركة Intel - ، وهما الشركتين اللتين شارك في تأسيسهما) عمل جوردون مور كعامل وركيزة أساسية في بناء عالمنا الرقمي الذي نعيشه اليوم!

البداية

وُلد مور في الثالث من يناير عام 1929 في سان فرانسيسكو، وأمضى العقد الأول من عمره في قرية بيسكاديرو الزراعية الساحلية التي تقع شمال سانتا كروز في شبه جزيرة سان فرانسيسكو.

حيث كانت عائلة مور أول المستوطنين الأنجلو في القرية في أربعينيات القرن التاسع عشر، ولعل ارتباطه الوثيق بمكان نشأته كان له سر خفي عنده. حيث أن قد تندهش عندما تعلم أنه عاش وعمل معظم حياته المليئة بهذه الإنجازات المهولة في دائرة نصف قطرها أربعين ميلاً فقط من منزل طفولته! 

كان والد مور يعمل كنائب عمدة لبلدتهم، وكانت والدته من مواليد بيسكاديرو، وهي المكان الذي طور جوردون مور فيه شغفه الدائم بالصيد الرياضي. بعد ذلك انتقلت العائلة إلى مدينة ريدوود في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث التحق جوردون مور بالمدرسة الثانوية العامة هُناك.

وقد كانت مدينة ريدوود هي نفس المكان الذي تعرض مور فيه لأول مرة لمجموعة أدواته الكيميائية، والتي معها نمّى قدرته على صنع المتفجرات. 

ويبدو أن ولعه بالمُتفجّرات كان كبيراً في تلك الفترة، فبعد تجاربه الأولى، سرعان ما حوّل مور السقيفة الموجودة في الفناء الخلفي لمنزل العائلة إلى مختبر متفجرات متطور -وإن كان محفوفًا بالمخاطر-، وهُناك أجرى تجارب مختلفة مع الصواريخ والمُتفجّرات.

مرحلة التعليم العالي

وكما هو حال العديد من الكيميائيين من قبله، كانت هذه الـ"الومضات، والانفجارات والروائح الكريهة" هي التي دفعت مور إلى الدراسة والتوسّع في عالم الكيمياء. 

يُعد مور من أوائل أفراد عائلته الذين أكملوا تعليمهم العالي، حيث التحق بولاية سان خوسيه كخطوة أولى نحو حلمه في أن يصبح كيميائيًا. وخلال السنتين اللتين قضاهما هناك -قبل أن ينتقل بعد ذلك إلى جامعة كاليفورنيا بيركلي- التقى مور بشابة تُدعى ببيتي آي ميتزلر، وقد كانت شخصيّة محترفة ومتخصصة في الصحافة، بجانب شخصيتها الودودة.

وسرعان ما تزوج الحبيبان في عام 1950، مباشرة بعد تخرج جوردون بدرجة البكالوريوس في الكيمياء، وقبل أيام من وصوله لبدء دراساته العليا في الكيمياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا Caltech. 

ولعل اللطيف في كُل ذلك أن بيتي مور نفسها كانت من مواطني شبه جزيرة سان فرانسيسكو كما هو حال مور، بل ومن عُشّاق الصيد الرياضي أيضاً! 

بوادر التفوّق في الحياة المهنيّة 

كان مور مُنذ اللحظة الأولى رجلاً مثجتهداً، لذا فقد حصل بسرعة على درجة الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، حيث تخصص في البحث التجريبي في مجال التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء.

وبعيداً عن التخصص الذي قد يبدو اسمه غريباً بالنسبة للبعض، فقد تطلب عمله قياسًا دقيقًا وتحليلاً رياضيًا دقيقًا ومعدات معقدة للتحكم الدقيق في المواد الصعبة.

بعد ذلك أمضى مور ما يزيد قليلاً عن عامين كعالم كيميائي في مجال البحوث، حيث استطاع صقل هذه المهارات بشكل أكبر آنذاك، في مختبر الفيزياء التطبيقية، مختبر الصواريخ الموجّهة التابع للبحرية الأمريكية الذي تديره جامعة جونز هوبكنز.

وأثناء وجوده هناك، حضر مور محاضرة عامة ألقاها ويليام شوكلي، وهو أحد علماء الفيزياء البارزين في البلاد في ذلك الوقت، والذي كان -لحسن حظ مور- المخترع الأول لترانزستورات الوصلات ثنائية القطب (الترانزستورات ثنائية القطب) junction transistor في مختبرات هاتف بيل Bell Telephone Laboratories.

الانضمام لويليام شوكلي

كان مور مهتمًا بالعمل التطبيقي المباشر بشكلٍ أكبر، وشغل في خضم ذلك مجموعة متنوعة من المناصب، بما في ذلك منصب في مختبر لورانس ليفرمور الوطني - والذي كان في ذروة شهرته آنذاك- والذي رفضه مور.

ولكن من حُسن حظ مور، فقد وجد ويليام شوكلي السيرة الذاتية لمور في مختبرات ليفرمور، مما دفعه لعمل مكالمة هاتفية -غير مسبوقة بالنسبة للمُهندس الشاب مور- والتي كانت مُفاجأة له. حيث عرض عليه شوكلي العودة مرة أُخرى إلى مكان نشأته، في شبه جزيرة سان فرانسيسكو الأُم.

في عامي 1955 و 1956، كان شوكلي مشغولًا بتجميع الموظفين الرئيسيين لمختبر جديد في ماونتن فيو، كاليفورنيا. في تلك الفترة كان شوكلي قد غادر بالفعل مختبرات بيل، وانضم إلى أحد الكيميائيين الحاصلين على درجة الدكتوراه من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، والذي كان يُدعى أرنولد بيكمان.

كان بيكمان هو الآخر رجلاً طموحاً، ولذلك فقد بنى شركة إلكترونيات وأجهزة كبيرة خاصة به سمّاها Beckman Instruments.

مختبر شوكلي لأشباه الموصلات

ولذا فقد تعاقد بيكمان -الذي كان لديه بالفعل شركتان تابعتان في منطقة الخليج- مع شوكلي لإنشاء مختبر جديد في المنطقة، وهو مختبر شوكلي لأشباه الموصلات التابع لشركة Beckman Instruments, Inc، في منطقة الخليج لتطوير ثم إنتاج شكل جديد واعد من الترانزستور الوصلات، والذي تم تسميته الترانزستور السيليكوني مزدوج الانتشار double-diffused silicon transistor.

بسبب تصميمه المُبتكر، كان يُعتقد أن الترانزستور الجديد لديه إمكانات سوقية كبيرة للتطبيقات العسكرية والأتمتة الصناعية. وحيث كانت عملية تصنيع هذه الترانزستورات عملية كيميائية في الأساس، لذا قفد احتاج شوكلي إلى كيميائيين تجريبيين وذوي خبرة وحادة، بالإضافة إلى المهندسين الكهربائيين، والفيزيائيين، وعلماء المعادن، والمهندسين الميكانيكيين للوصول لنتائج مُرضية.

وقد انتهز مور فرصة العمل كواحد من هؤلاء الكيميائيين، لتطبيق معرفته الكيميائية ومهاراته التجريبية في طليعة تكنولوجيا الإلكترونيات، والعودة إلى منطقة الخليج بالخبرات الجديدة.

جلب مختبر شوكلي لأشباه الموصلات حرفياً إلكترونيات السيليكون إلى ما أصبح يعرف بعد ذلك بوادي السيليكون، ولكن تأثيره كان أوسع في ذلك الحين.

ولأن لا شيء يبقى على حاله، فبحلول عام 1957، أصبح مور وسبعة أعضاء آخرين من فريق شوكلي غير راضين تمامًا عن التوجه التكنولوجي والاستراتيجي للمختبر، وبإدارته من قبل ويليام شوكلي وأرنولد بيكمان.

لذا وبعد أن أعربوا عن مخاوفهم بشأن عدم التركيز والالتزام بإنتاج ترانزستورات السيليكون مزدوجة الانتشار لكلا المُديرين، واللذان للأسف رفضا مقترحاتهم، قرر المنشقون الثمانية المغادرة بلا عودة!

شركة Fairchild Semiconductor

بعد أن غادرت المجموعة صرح Beckman لم تدّخر جُهداً للبدء مرّة أُخرى في مشروعها الخاص، ولكن هذه المرّة برؤيتهم واستراتيجيتهم الخاصّة.

ولذا فقد قامت المجموعة المنشقة -والتي كانت تمتلك جميع المهارات، والمعرفة الأساسية لإنتاج ترانزستورات السيليكون مزدوجة الانتشار- بالعمل مع بنك الاستثمار في نيويورك Hayden Stone.

ومن ثم توصّلت المجموعة في النهاية إلى صياغة اتفاقية مع مقاول الدفاع Fairchild Camera and Instrument لإنشاء كيان جديد سمّته "شركة  Fairchild Semiconductor Corporation" والذي سيتخصص في تصنيع ترانزستور السيليكون الجديدة.

حكاوي رمضان : AMD ، من البداية ووصولاً لعصرها الذهبي!

ولعل الطريف في الأمر هو أن هذه الشركة الناشئة الصغيرة كانت أول المحاولات للاستقلال من شركة في وادي السيليكون، والتي من شأنها أن تحدد النهج الذي سيسير عليه مئات من شركات أشباه الموصلات، ولاحقًا الشركات الناشئة، والشركات المنبثقة في مجال تكنولوجيا المعلومات.

وخلال سنواته في Fairchild Semiconductor ، قدم Moore مساهمات مباشرة في التطوّر التكنولوجي لصنع ترانزستورات السيليكون مزدوجة الانتشار، كما أنه تولى بشكل تدريجي مسؤوليات أكبر تخص المسار التكنولوجي الخاص بالشركة.

ويبدو أن جهودة -مع أصدقاءه- قد أدلت بنتائجها بسرعة، فقد جاء النجاح التكنولوجي والتجاري لشركة Fairchild Semiconductor بسرعة كبيرة.

ففي غضون خمس سنوات فقط من إنشائها، مع توجيهات مور في مجالات البحث والتطوير، أنشأت الشركة نشاطًا تجاريًا مربحًا في مجال الترانزيستورات المصنوعة من السيليكون والصمامات الثنائية، كما وقد ساهم في ظهور مفهوم "العمليات المستوية planar process" لتصنيع الأجهزة، والذي تم استخدامه بعد ذلك من قِبل صناعة أشباه الموصلات العالمية لصنع الإلكترونيات السيليكونية.

كما واستخدمت التقنية التصنيعية أيضاً لإنشاء دوائر متكاملة planar integrated circuit من السيليكون، والتي نجحت بشكل كبير للغاية، ليتم بعد ذلك تسميتها باسم رقاقة السيليكون الدقيقة (كما نعرفها اليوم).

الاستحواذ على Fairchild Semiconductor

وعلاوة على كل ذلك، فقد حقق مؤسسو Fairchild Semiconductor الاستقلال المالي الكامل لكلٍ منهم، بعدما مارست الشركة الأم حقها في شراء الشركة الفرعية، حيث تم شراء شركة Fairchild Semiconductor من مؤسسيها، لتُصبح بعد ذلك قسمًا تابعاً للشركة الأم  Fairchild Camera and Instrument.

ومن بين المؤسسين الأصليين، ترقّى كُل من روبرت نويس وجوردون مور لمناصب مرموقة في الشركة بشكلها الجديد. حيث أصبح نويس المدير العام لقسم أشباه الموصلات، بينما كان مور يدير البحث والتطوير في الشركة.

ومع الفرص الهائلة في مجال الإلكترونيات التي تمثلها رقاقة السيليكون الدقيقة، غادر المؤسسون الستة الآخرون بسرعة لشركات ناشئة جديدة تعمل على تصنيع شرائح السيليكون الدقيقة أيضاً.

وبالطبع ومع رحيل زملاؤه اللذين كانوا يملكون القدرة لمنافسته، أصبح مور في موقع فريد لاغتنام هذه الفرصة وتحليلها، حيث كانت لديه معرفة وثيقة بتكنولوجيا تصنيع رقائق السيليكون، وعملية تطوير رقائق السيليكون الدقيقة للإلكترونيات الرقمية. وهو ما سيستفيد منه في القريب العاجل بشكل لم يكن هو نفسه يتخيّله!

قانون مور

اولاً: ملاحظات مور الأوليّة

مرّت السنوات تباعاً بعد ذلك، ووصل عام 1963 الموعود. بدأ مور في تسجيل ونشر تحليلاته لعمليات تصنيع رقائق السيليكون الدقيقة. حيث اعتقد مور أن النهج الأساسي لتصنيع رقائق السيليكون الدقيقة -وهو نوع من عمليات الطباعة الكيميائية- مفتوح أمام الصقل والزيادة بشكل موسّع.

وباختصار فقد نصّت ملاحظاته على الآتي، مع الاستثمار الكافي للجهد الإبداعي في عميلات التصنيع والوقت والمال الكافيين، يمكن تحسين عملية الطباعة الكيميائية تقريبًا بشكل مستمر.

في ذلك الوقت، لم يكن هناك أيّة حواجز أساسية تمنع التقدم في المستقبل، على الأقل ليس لعقود من الزمن. ومع هذا، رأى مور أن قابلية التوسع في عملية الطباعة الكيميائية ستجعل -من حيث التكلفة والأداء- شرائح السيليكون الدقيقة ذات وظائف رقمية أكثر من أي وقت مضى.

سيتم تشكيل وتجميع الترانزستورات الأصغر حجمًا معًا بأعداد أكبر من أي وقت مضى على رقائق السيليكون الدقيقة التي من شأنها أن تؤدي إلى توافر المزيد والمزيد من الإلكترونيات الرقمية. وبذلك، ستقوم رقائق السيليكون الدقيقة بالمساعدة في جعل الإلكترونيات الرقمية أرخص بكثير بمرور الوقت.

ونتيجة لذلك، فقد انتشرت تلك الشرائح -في نهاية المطاف- في جميع أنوع الإلكترونيات، وزاد هذا التوجّه بشكل كبير من استخدام الإلكترونيات الرقمية في المجتمع بشكلٍ عام. 

ثانياً: قانون مور رسميّاً

وبمرور الوقت، وتحديداً في مقال تقني نُشر عام 1965 حول هذا التحليل، والذي ظهر في المجلة الإلكترونية التجارية تحت عنوان "حشر المزيد من الإلكترونيات في الدوائر المتكاملة"، أكد مور وجهة نظره السابقة مرّة أُخرى ولكن هذه المرّة بتوقع مُثير للجدل.

طبقاً لمور، فإن التوقّع ببساطة يؤكد على أن عدد الترانزستورات الموضوعة على الرقائق سيتضاعف كل عام، خلال العقد القادم على الأقل، وذلك من أجل الحصول على أقصى فائدة اقتصادية من الإلكترونيات الرقمية، أي لجعلها رخيصة ومربحة في نفس الوقت. 

ولعل ما لم يتوقّعه أحد في تلك الفترة الزمنية، هو أن هذا التضاعف المنتظم لـ "تعقيد" الرقائق الدقيقة لتحقيق أقصى فائدة اقتصادية سيتم العمل على تحسين الجدول الزمني الخاص بها من قبل مور في السنوات القادمة، حيث سيُعرف عمومًا بعد ذلك باسم "قانون مور".

ومع مرور الوقت بالفعل، فإن هذه المضاعفة المنتظمة المرتبطة بالتخفيضات الأسية في تكلفة الإلكترونيات الرقمية قد حدثت فعلاً على مدى نصف القرن التالي، بل وأكثر من ذلك. وهو الأمر الذي وفّر حجر الأساس لإنشاء عالمنا الرقمي الحالي!

سنوات إنتل 

في عام 1968، ومرّة أُخرى، قرر جوردون مور ترك Fairchild لإنشاء شركة ناشئة جديدة لتصنيع رقائق السيليكون مع روبرت نويس. حيث كان نويس غير راضٍ عن الإدارة العليا للشركة، وكان مور محبطًا بشكل متزايد لأنه لم يتمكن من نقل التقنيات الجديدة بنجاح من معمل البحث والتطوير الخاص به إلى حيّز التصنيع بالفعل.

حيث اعتقد مور أن تقنية الرقائق المصنوعة من السيليكون قد تقدمت إلى المرحلة التي يمكنها أن تصبح فيه الرقائق الدقيقة منافسًا لاستخدامها كذاكرة كمبيوتر. 

فقد وجدت رقاقات السيليكون الرقمية بالفعل -حتى تلك اللحظة- استخدامًا متزايدًا لوحدات المنطق في الكمبيوتر -وهي تلك الأجزاء من أجهزة الكمبيوتر التي تقوم بإجراء العمليات الحسابية.

وفي المُقابل، كانت أجزاء أجهزة الكمبيوتر التي تحتفظ بالمعلومات المطلوب حسابها - وأقصد هنا ذاكرة الكمبيوتر - يتم تصنيعها من نوع رخيص وموثوق من التكنولوجيا المغناطيسية تسمى الذاكرة الأساسية أو Core memory.

ولذا فقد اعتقد مور أنه من خلال دفع عملية الطباعة الكيميائية إلى أبعد من ذلك، يمكن لشرائح السيليكون الدقيقة أن تنتزع ذاكرة الكمبيوتر من تقنية النوى المغناطيسية.

الاهتمام بتصنيع الذواكر

ونظرًا لأن ذاكرة الكمبيوتر كانت الجزء الأكبر من تكلفة أجهزة الكمبيوتر الرقمية آنذاك، وكان إنتاج أجهزة الكمبيوتر الرقمية يتوسع باستمرار، فقد اعتقد مور أن رقائق الذاكرة يمكن أن تكون مجالاً مميزاً للتجارة.

 

وبينما قام كل من Moore و Noyce باستثمارات شخصية لإنشاء Intel ، جاء الجزء الأكبر من التمويل من استثمارات رأس المال الاستثماري التي كان يُنظّمه مستثمر يُدعى Arthur Rock.

كان روك هو الممول الرئيسي وراء إنشاء شركة Fairchild Semiconductor ، التي انتقلت لاحقًا إلى سان فرانسيسكو لتكون رائدة في مجال شراكات رأس المال الاستثماري للاستثمار في الشركات الناشئة المُتخصّصة في التقنية.

أمّا مور - مثل المؤسسين الآخرين لشركة Fairchild Semiconductor - فقد كانوا شركاء رئيسيين في وقت مبكر لشراكات رأس المال الاستثماري Rock’s وغيرها. 

بل يمكننا القول أنه في الواقع، فقد كان جميع المؤسسين المشاركين في شركة  Fairchild Semiconductor، هم نفسهم مستثمرين أوليين في شركة Intel أيضاً.

وعلاوة على ذلك، أنشأ العديد من الذين غادروا Fairchild Semiconductor العديد من أبرز شركات رأس المال الاستثماري في وادي السيليكون، بما في ذلك شركات مثل Kleiner Perkins و  Sequoia.

 ثلاثي إنتل!

أمّا بالنسبة إلى إنتل، فقد شكّل مور ونويس وجروف ثلاثيًا شهيراً في عالم التقنية قاد الشركة للريادة على مدار الثلاثين عامًا القادمة. وقد كان نويس - حتى وفاته المفاجئة في عام 1990- هو الوجه العام والبطل للشركة، حيث عمل عن كثب على القرارات الإستراتيجية مع مور وغروف.

وعمل مور كخبير استراتيجي تقني نهائي للشركة، حيث اتخذ القرارات الرئيسية بشأن الاستثمارات في مجالات البحث والتطوير والقدرات التصنيعية، بالإضافة إلى أنواع المنتجات التي ستتبعها الشركة.

أمّا غروف فقد تُركت له مهمة صعبة للغاية، تتمثل في إنشاء منظمة تعمل على تنفيذ هذه الاستراتيجيات والقرارات، بالإضافة إلى دفعها للقيام بذلك. 

وبصفته نائب الرئيس التنفيذي لشركة Intel حتى عام 1975، قدم مور العديد من المساهمات التكنولوجية التي ساعدت الشركة في تأمين العملاء المحتملين والنجاحات المبكرة في مجال عمل ذاكرة الرقائق الدقيقة.

وتحت قيادة مور، أصبحت إنتل رائدة في سوق رقائق ذاكرة DRAM في هذه الفترة ومن ثم أصبحت رائدة في إنشاء وتسويق رقائق ذاكرة EPROM ، والتي تطوّرت فيما بعد لتُصبح ذاكرة فلاش.

أول معالج مركزي دقيق للشركة

وعلاوة على ذلك، دعم مور إنشاء إنتل لأول معالج دقيق ناجح تجاريًا - والمعالج الدقيق هو وحدة المعالجة المركزية الموجودة على شريحة واحدة مُجمّعة (على عكس التصميم الذي كان موجوداً قبل ذلك).

هذه الرقائق جميعها (الرقاقة الدقيقة، والذاكرة الحيوية، وذاكرة  EPROM) ستُصبح بعد ذلك ضرورية لظهور الحواسيب الشخصية. وقد كان أول معالج دقيق للشركة هو 4004.

بعد ذلك، ومن عام 1975 إلى عام 1987، عمل جوردون مور كرئيس تنفيذي لأطول مدة خدمة في شركة إنتل حتى الآن. في تلك السنوات، واجهت إنتل منافسة محلية ودولية متزايدة في جميع أسواقها من شرائح السيليكون الدقيقة.

واتخذ مور -بمشورة ودعم أساسيين من جروف- العديد من القرارات الحاسمة في هذه الفترة، وهي التي مهدت بعد ذلك الطريق للنجاح الكبير للشركة.

التركيز على المعالجات المركزية

وبالرغم من النبوغ فيها، فقد وافق مور على التراجع الاستراتيجي عن أعمال DRAM التي كانت الشركة رائدة فيها، وإعادة توجيه الشركة نحو المعالجات الدقيقة بدلاً من ذلك. كما وتوجّه -بدرجة أقل- نحو رقائق الذاكرة غير المتطايرة مثل EPROM و Flash.

في مجال المعالجات الدقيقة، وافق مور على عدد من الاستراتيجيات الرئيسية. حيث أكدت إنتل أن معالجاتها الدقيقة متوافقة مع الإصدارات السابقة من البرمجيّات، مما يسمح للمستخدمين بالحفاظ على استثماراتهم في البرامج (التي كانت باهظة الثمن آنذاك ويتم تصميمها حسب الطلب).

وخاصة أنظمة تشغيل Microsoft وبرامج التطبيقات المكتوبة من أجلها. كما وشاركت إنتل في برامج تسويقية قوية ضد منافسيها الرئيسيين واستهدفت المستهلك النهائي بحملتها الشهيرة  "Intel Inside".

وبشكل حاسم، وافق مور أيضًا على قرار شركة إنتل بالعمل "كمصدر وحيد" لمعالجات Intel 386 ، وهي خطوة نتج عنها امتياز إنتل المهيمن في المعالجات التجارية الصغيرة خارج الأجهزة المحمولة.

رئاسة آندي جروف

بعد ذلك، أصبح آندي جروف رئيسًا تنفيذيًا لشركة إنتل في الفترة من 1987 إلى 1997 من أجل قيادة إستراتيجية المعالجات الدقيقة لشركة Intel، حيث عمل مور كرئيس لمجلس الإدارة من 1987 إلى 1997.

وخلال هذه السنوات، تولى مور مسؤوليات أكبر خارج الشركة. ولعل إحدى أهم تلك المسؤوليات على وجه الخصوص، هو قيادته لأحد الجهود المهمّة التي نتج عنها خارطة طريق تكنولوجية لرابطة صناعة أشباه الموصلات لتطوير صناعة أشباه الموصّلات.

خارطة الطريق هذه، التي تم توسيعها لاحقًا لتشمل شركاء دوليين، كانت بمثابة آلية عملت من خلالها صناعة أشباه الموصلات الدولية وموردي المواد والمعدات التابعين لها معًا للحفاظ على قانون مور بشكل صريح.

العمل الخيري 

بعد رئاسته لشركة Intel، حوّل مور اهتمامه بشكل متزايد إلى العمل الخيري. وخلال فترة ازدهار الإنترنت -وبفضل موقع مور الرئاسي على مدى عقود في شركة Intel- فقد أصبح أحد أغنى الأمريكيين. 

ولذا فقد أنشأ جوردون وبيتي مور مؤسسة جوردون وبيتي مور الخيرية في عام 2000 بهبة تبلغ عدة مليارات من الدولارات. وقد دعمت المؤسسة البحث العلمي، والأنشطة البيئية، والمحافظة على البيئة، وشواغل منطقة الخليج. 

ومن خلال هذه المؤسسة وثروتهم الخاصة، قدم مور - من بين أكبر الهدايا الخيرية على الإطلاق- للدولة، وتحديداً مجال للتعليم العالي (معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا) والحفاظ على البيئة (Conservation International).

وعلى مدى السنوات العديدة الماضية، كان جوردون وبيتي مور يعيشون في جزيرة هاواي، ويعودون إلى منطقة الخليج بانتظام لحضور اجتماعات مجلس إدارة مؤسستهم.

أحد أعظم الرجال في وادي السيليكون!

ولأن لا شيء يدوم للأبد، فقد انتهى الفصل الأخير، وانتهت رحلة المؤسس جوردن مور العظيمة والطويلة الأمد هذا العام، وتحديداً في الرابع والعشرين من مارس الماضي، حيث توفّى السيد جوردون إيرل مور في 24 مارس 2023، ليرحل عن عالمنا عن عمر يناهز 94 عامًا.

وداعاً جوردون مور، شركة إنتل تودّع مؤسسها وصاحب "قانون مور" الشهير

ذهب الرجل وترك خلفه إرثاً من الجهود العظيمة والنافعة للمجتمع ككل، والتقنية بشكلٍ خاص، ليتم ذكره بعد ذلك كأحد أبرز الرجال القلائل الذين كان لهم جزء من الفضل في وصول التقنية إلى ماهي عليه الآن، وستدين له في المستقبل بالفضل كأحد الأعمدة الأساسية التي دفعتها للأمام.