جلسة واحدة على مقهى مع أصدقائك كفيلة بإخراج كمية مشروعات كبيرة لا حصر لها. مشروعات تبدو وكأنها مكسبة للمال بعد أشهرٍ قليلة لا أكثر ولا أقل. تبدأون في عمل دراسات جدوى تفتقر إلى الدقة لكنها تنتج أرباحاً كبيرة على الورق من مبالغٍ بسيطة للغاية. مشاريع تسمين "الكتاكيت" أو مشاريع صالات البلايستيشن هي الأكثر مبيعاً في جلسات المقاهي، لكن عندما ننظر إلى الجلسة التي أنتجت لنا أول معالج في تاريخ المعالجات المركزية، ستقول بأن هذه الفكرة ما هي إلا فكرة فاشلة في وقتها.

إقرأ أيضاً: الطامة الكبري: Intel خارج الخدمة حتي 2022 وسوق التقنية مهدد بالكساد!

فكرة فاشلة لأنها تبدو معقدة بالنسبة لنا. لن أكذب عليك، لو جاء أحدهم لي في سبعينات القرن الماضي لكي يطرح علي فكرة إبتكار أول معالج مركزي لجهاز كمبيوتر، لن أقبل هذه الفكرة. لن أقبلها لأنني لن أجد فريقاً كبيراً يقوم بالعمل معي على مثل هذه الفكرة ولا أريد خسارة أموالي في مشروعٍ كبير يحتاج إلى قوة عمل فائقة.

 

الحاجة سر الاختراع

Intel Busicom أول معالج في تاريح المعالجات المركزية

إستيقظت شركة Intel في يومٍ من الأيام على مكالمة من شركة Busicom الشهيرة بتصنيع الآلات الحاسبة في اليابان. بعد التحيات وما إلى ذلك، قامت الشركة اليابانية بإبلاغ Intel بأنها تريد القيام بعمل آلة حاسبة جديدة تعمل بشرائح مبرمجة عوضاً عن الآلات التقليدية التي إنتشرت وقتها في نهاية الستينيات.

 

بعد الإتفاق والمناقشات، شهد عام 1969 الإتفاق الورقي بين الشركتين لتصنيع مجموعة من المعالجات المصممة خصيصاً من أجل الآلة الحاسبة التي ستقوم Busicom بإطلاقها. في هذه اللحظة، كان على بطل قصتنا، وهو السيد Masatoshi Shima، القيام بالسفر إلى كندا من أجل العمل على شرائح المعالجة تلك.

 

هنا، قرر السيد Shima إقتراح نظامٍ كامل يعمل بثمانية شرائح. ثلاثي سيعمل من أجل التعامل مع المدخلات والمخرجات مثل لوحة المفاتيح وطابعة الفواتير، شريحة ستعمل من أجل الإحتفاظ بالبيانات التي يتم إدخالها، شريحة من أجل الإحتفاظ بالكود البرمجي الذي سيقوم بتشغيلها وثنائي سيعمل كمعالج مركزي لهذه الآلة.

 

كيف سار العمل على أول معالج من Intel؟

Ted Hoff

يظهر السيد Ted Hoff من الظلمات لكي يبدأ بالحديث مع ممثلي Busicom. السيد Hoff كان رئيس وحدة التطبيقات في شركة Intel وقتها وتصدر المحادثات مع الشركة اليابانية. إن كنا في 2020، سأقول لك أن Hoff يستطيع أن يفعل ما يحلو له لأنه سيكون قادراً على إبتكار ما تحتاجه الشركة اليابانية بأريحية تامة.

 

لكن، في 1969، لم تكن Intel بنفس قوتها في الوقت الحالي. لم تكن هذا الإسم الذي تراه في إعلانات الـ Billboard الكبيرة على طرقات القاهرة أو في أكبر مراكز دبي التجارية، لا. في عام 1969، كان عمر Intel سنة واحدة فقط. سنة واحدة فقط في هذا المجال والآن يضطر Hoff إلى الحديث مع شركة يابانية كبيرة بخصوص تزويدها بشرائح المعالجات، صدمة كبيرة، أليس كذلك؟

 

صدمة كبيرة لأن Intel كانت خائفة وقتها من عدم القدرة على تزويد الشركة اليابانية بالكم الكافي من الشرائح، خصوصاً وأن كل شريحة ستحتاج إلى العديد من الدبابيس للتوصيل بينها وبين العديد من المدخلات والمخرجات وهذا كان صعباً على تقنيات التصنيع التي تعتمد عليها الشركة.

 

لم يخيب Hoff أمال رؤسائه ولا أمال الشركة اليابانية. قدم إقتراحاً ذكياً وهو القيام بوضع شريحة للذاكرة بسعة 256 بايت بإسم 4001، شريحة لذاكرة البيانات بسعة 40 بايت بإسم 4002، شريحة تعمل كواجهة للمدخلات والمخرجات بإسم 4003 وأهم شريحة كانت أول معالج تنتجه الشركة للاستخدامات المتعددة وهو 4004.

 

كل هذا يأتي تحت إسم نظام MCS-4 الذي يعمل بأربعة بت فقط في وقتٍ واحد لتقليل عدد الدبابيس التي سيتم إستخدامها لتوصيل الشرائح مع بعضها البعض. تطوير هذا النظام إحتاج إلى شخصٍ ثالث للدخول في عملية تصنيعه وتصميمه، وهنا جاء السيد Stanley Mazor الذي ساعد Hoff على القيام بتحديد كل الخصائص الخاصة بهذا النظام وتحديد موعد مع الشركة اليابانية لإطلاعهم على الفكرة.

 

الشركة اليابانية توافق، ولكن….

 

بعدما قدمت Intel مقترحها الجديدة، قررت Busicom الموافقة عليه وإرسال السيد Shima إلى الأراضي اليابانية مرةً أخرى لكي يبدأ بالعمل على نظام التشغيل الخاص بالآلة الحاسبة الجديدة على حسب معطيات المعمارية التي قدمتها Intel لنظام MCS-4 لتلبية إحتياجات الشركة اليابانية.

Intel HQ

تم الإتفاق بين الطرفين في فبراير عام 1970 وكان المخطط من Busicom هو إطلاق الآلة الحاسبة على أساس الجدول الذي ستقدمه Intel للإنتهاء من تطوير المعمارية الجديدة على أيدي Hoff وMazor. ينص الإتفاق أيضاً على أن السيد Shima سيعود إلى كاليفورنيا مرةً أخرى لكي يراجع ما قام به الثنائي من عمل على أن يبدأ الإنتاج في شهر يوليو من عام 1970 وينتهي في أكتوبر من نفس العام.

 

المثير للشفقة إن كنت تعمل في Intel وقتها والمثير للضحك لك وأنت تقرأ هذه المقالة، السيد Shima لم يعلم بأن مشروع Intel 4004 توقف بالفعل في بداية 1970. المضحك في الأمر أن الثنائي Hoff وMazor لم يعملان من قبل على تصميم شريحة من الأساس. تصميم شرائح المعالجة يحتاج إلى القيام بتحديد المواصفات والقيام بتصميم الدوائر على الورق لتوضيح طريقة عمل الشريحة مع كل ما يقابلها.

 

الأسوأ من كل هذا أنه لا يوجد شخص بداخل Intel كلها يستطيع القيام بهذا الأمر لأن Intel كانت تعمل على تطوير شرائح الذاكرة بعيداً عن المعالجات. لا نعرف لماذا قامت Intel بالموافقة على ما تريده الشركة اليابانية وهي لا تفقه فيه شيئاً، لكن هذا لا يخصنا الآن.

الضلع الناقص وصل يا سادة!

 

في صفقة أفضل من صفقات كرة القدم، إستطاعت Intel الحصول على خدمات السيد Frederico Faggin. السيد Faggin كان مهندس صغير في بداية حياته، لكنه كان مناسباً للعمل على تصميم هذه الشرائح. يمكنك أن تقول أنه كان ناشئاً في هذا المجال كما تقول على أصغر لاعب في فريقك المفضل.

أول معالج من Intel في تاريخ المعالجات المركزية

إستطاع السيد Faggin العمل على تصميم جهاز كمبيوتر متكامل الأركان لشركة Olivetti في إيطاليا وإنضم بعدها لشركة Fairchild للعمل على تقنيات أشباه الموصلات بأوكسيدات المعادن أيضاً. هنا، إستطاع السيد Faggin الوصول إلى شركة Intel بالفعل والعمل معها على مشروع Busicom الذي يعاني من إنعدام المواهب التي يمكنها التعامل معه.

 

الصدمة هنا جاءت للسيد Faggin في جلسته الأولى مع السيد Mazor للحديث بخصوص هذا المشروع. بعد سماعه لكل ما كان في جعبة السيد Mazor، لم يستطع أن يغلق فمه من الصدمة. أمامه أقل من ستة أشهر للعمل على أربعة شرائح ومنها شريحة للمعالجة لا يوجد من يساعده في تصميمها من الأساس.

 

ليست جميع المفاجأت سارة…

 

بالطبع، تتوقع أن يكون أول معالج في تاريخ المعالجات مدروساً بدقة عند تصميمه وإطلاقه، لكن العكس هو الصحيح. أول معالج من Intel لم يعامل معاملة المعالجات في جدوله الزمني، بل تم معاملته وكأنه شريحة من شرائح الذواكر. شرائح الذواكر يتم تصميمها وتطويرها بشكل متكرر في نفس الوقت الذي تحتاج فيه المعالجات إلى أشياءٍ أكثر تعقيداً.

الحاجة تولد الإختراع: السر وراء أول معالج استهلاكي من Intel!

بعد بداية السيد Faggin مع Intel، قام السيد Shima بالعودة إلى كاليفورنيا ليكتشف بأن الفترة التي قاربت نصف العام منذ زيارته الأخيرة لم يتم وضع أي شيء ملموس بخصوص المعالج وهذا ما جعل دمائه تغلي من الغضب لمدة أسبوع قبل أن يستطيع التحدث مع فريق Intel مرةً أخرى.

 

قامت Intel بتقديم جدول جديد لتلتزم به مع القيام بتعيين فريق هندسي كامل ليكرس جهده لهذا النظام بالكامل. إضطر السيد Shima أيضاً للبقاء في الولايات المتحدة لمدة وصلت إلى نصف عام ليساعد في التصميمات الخاصة بهذه الشريحة مع السيد Faggin الذي نسى كل ما يخص حياته وكرس 80 ساعة في الأسبوع للعمل على هذا المعالج.

 

نهاية سعيدة للجميع في Intel وBusicom

Intel 4004

إستطاع السيد Faggin العمل بالفعل على نظام MCS-4 بأفضل ترتيب مناسب له. بدأ بالشريحة الحاملة للنظام ثم توجه للشريحة التي تعمل كواجهة للتوصيل ومنها إلى الذواكر العشوائية لينتهي به المطاف مع أسوأ مخاوفه وهو معالج 4004. صار كل شيءٍ جاهز للعمل مع الآلة الخاصة بـ Busicom وإنتهى تطوير الشريحة في 1970.

 

إن سألتني، يستحق السيد Faggin أن يضع أول حرف من إسمه الأول والأخير على كل معالج من معالجات 4004. "F.F" هي العلامة التي تراها على أي شريحة من شرائح Intel 4004 لكي تخلد ذكراه. رجل المهام الصعبة، أليس كذلك؟

 

حصلت Busicom على شريحتها وأطلقت الآلة الحاسبة، لكنها كانت تمتلك الحقوق الكاملة لهذه الشريحة، مما منع Intel من بيعها لأي مؤسسة أخرى. أي نعم، هذا كان الإتفاق الأولي، لكن Intel عرضت على Busicom التخلص من تكلفة التصنيع على شرط أن تقوم Intel بإستخدامها أيضاً.

 

من هنا، قامت Intel بالإعلان لشريحتها لكي تضع معياراً جديداً في عالم الحوسبة والمعالجات والباقي صار تاريخاً.