لنرجع بالزمن إلى عام 2023، تحديدًا إلى مؤتمر آبل Wonderlust "أرض العجائب"، الذي أعلنت فيه عن إطلاق سلسلة هواتف آيفون 15، كنت متحمسًا جدًا لهذا الحدث؛ بسبب دعم هواتف آيفون  بمدخل «تايب سي» أول مرة. وعندما رأيت اللون الأبيض من آيفون 15، وقعت في حبه فورًا وقرّرت أن يكون هاتفي القادم، بعد أن كنت مستخدمًا وفيًا لأندرويد لأكثر من عشر سنوات!

بالنسبة لي، كان آيفون 15 اختيارًا مثاليًا: مواصفات خارقة، ودعم مستمر بالتحديثات والخصائص الجديدة فهو الابن المفضل لتيم كوك-Tim Cook باعتباره "هاتف السنة" على أي حال، لكن يبدو أن اللقب الوحيد هذا العام هو أنا "مهرج السنة". حيث حَرمت التفاحة الأمريكية أحدث هواتفها من ميزة ثورية وجعلتها حصرية فقط لستة هواتف من أصل 28، مدمرة بذلك التجربة "التفاحية" التي كنت أطمح بالحصول عليها.

إذا كنت لا تعلم عما أتحدث عنه حتى الآن، فهو الذكاء الاصطناعي الذي وعدت آبل بدمجه في أنظمتها لتكون بذلك أخر من يلحق بالقطار، وذلك بعد أن استسلمت أخيرًا وتعاونت مع «OpenAI» لدمج نموذج «ChatGPT» بشكل عميق في نظام iOS، بما في ذلك مساعد سيري وعدد من الخصائص الأخرى. وبجّل فريق التسويق في آبل هذا التحديث وقام بخطوة عبقرية عبر الحفاظ على أول حرفين من مصطلح الذكاء الاصطناعي (AI) ولكن ليكون اختصارًا لـ "ذكاء آبل – Apple Intelligence"، مع شعار: "ذكاء آبل للبقية منا – AI for the rest of us".

ولكن في الحقيقة، وجدت هذا الشعار مضحكًا إلى حد كبير، فـ"البقية منا" بالنسبة لآبل هم فقط مستخدموا آيفون 15 برو وعائلة آيفون 16، وبالتالي كان يجب أن يكون الشعار أقرب إلى "ذكاء آبل للبعض منا".

بداية القصيدة كفر: آيفون 16 لم يأتِ بالذكاء الاصطناعي!

أعلنت الشركة الأمريكية الأخبار السعيدة أول مرة في حدث "Glowtime" الذي كشفت فيه عن سلسلة هواتف آيفون 16 بميزتين أساسيتين: الذكاء الاصطناعي -احم أقصد ذكاء آبل-، وزر التصوير الحسّاس للضغط. تحدث كريج فيديريغي-Craig Federighi عن مدى اهتمام الشركة بالحفاظ على بيانات المستخدمين وخصوصيتهم حتى مع دعمهم بمزايا الذكاء الاصطناعي، وذلك عبر دعم معالجة تلك المزايا التوليدية من خلال عتاد الهاتف نفسه وليس عبر خوادم خارجية، الأمر الذي يطلق عليه كريج مصطلح "الحوسبة السحابية الخاصة – Private Cloud Compute".

ربطت آبل الذكاء الاصطناعي  بهواتف آيفون 16 بشكل مباشر، وأصبحت الحدث الرئيس، وظهرت في الإعلانات الدعائية وفي بوسترات ضخمة زينت فروع آبل حول العالم. لكن في الواقع، كل هذا الاهتمام كان مجرد  دعاية كاذية؛ لأن هواتف آيفون 16 لم تصل مع هذه المزايا الفعلية وقت الإطلاق، وكذلك تواجه آبل صعوبات في دعم هذه المزايا في السوق الأوروبي.

بالنسبة للمستهلك العادي غير المتابع للوسط التقني، فإنه سيتفاجئ بعدم وجود أي من مزايا الذكاء الاصطناعي التي تغنّت بها آبل في سلسلة هواتف آيفون 16، وأنها قسّمت إطلاقها على تحديثات مستقبلية، مما يجعل الأمر مخيبًا للآمال وأقرب إلى عملية احتيال. ناهيك عن وضع المستخدم الأوروبي المحروم من جميع هذه المزايا حتى عند إطلاقها.

بعد شهر وثمانية أيام: ظهور "بعض" مزايا الذكاء الاصطناعي

طرحت سلسلة آيفون 16 في الأسواق في العشرين من سبتمبر الماضي، ولكن اضطر المستخدمون للانتظار حتى يوم 28 أكتوبر للحصول على "جزء" من ميزات الذكاء الاصطناعي عبر تحديث iOS 18.1 (وكذلك iPadOS 18.1 و macOS Sequoia 15.1). والمتمثل في الميزات التالية:

  • أدوات الكتابة: مراجعة النصوص وتلخيصها وإعادة كتابتها في جميع أنحاء نظام التشغيل.
  • مساعد سيري: التصميم الجديد للمساعد الصوتي، وإمكانية الدردشة الكتابية.
  • تطبيق البريد: تلخيص الرسائل واقتراح ردود جاهزة.
  • تطبيق الصور: إنشاء مقاطع بوصف فقط، دعم البحث باللغة الطبيعية، وحذف الأجسام من الصور.
  • الإشعارات: إمكانية تلخيص الإشعارات وإنشاء وصف مختصر لها. 
     

تُمثل هذه الميزات الإطلاق الأول للذكاء الاصطناعي على هواتف آبل، وهو مجرد البداية فقط. حيث أعلنت الشركة أنه بحلول شهر ديسمبر ستصل ميزات أخرى، مثل توليد الصور والرموز التعبيرية. بجانب تطوير الميزات التي أُطلقت بالفعل، ودمج نموذج «شات جي بي تي» في سيري.

ست تفاحات ناضجة واثنتان وعشرون فاسدة!

تحدثت منذ قليل عن "الحوسبة السحابية الخاصة" التي تتفاخر بها آبل وتعتبرها الوسيلة الأكثر أمانًا للحصول على مزايا الذكاء الاصطناعي، لدرجة أنها أتاحت جائزة مليون دولار لمن يكتشف ثغرة في Apple Intellgiance. وهو ليس بالأمر الجديد علينا أن نرى الشركة الأمريكية تهتم جدًا بخصوصية المستخدم، فقد كان هذا شعارها منذ قديم الأزل ومن الأسباب التي أدت إلى شعبيتها وتمركزها في السوق.

ولكن هذه المرة جاءت حماية المستخدمين على حساب المستخدمين نفسهم؛ حيث ضحّت آبل بأغلبية هواتفها -فقط- للحفاظ عليهم وحرمتهم من أهم ميزة في هذا العقد، تلك التي وصلت إلى جميع هواتف أندرويد بلا استثناء عبر دمج نموذج "جيميناي" فيها. أما عن الهواتف التي تدعم تحديث iOS 18 تبدأ من iPhone SE و iPhone XR ومرورًا إلى نهاية القائمة؛ ولكن لم يصل الذكاء الاصطناعي إلا لآيفون 15 برو وعائلة آيفون 16.

22 آيفون من أصل 28 لم يحصلوا على مزايا الذكاء الاصطناعي في تحديث 28 أكتوبر!

تأثير الفراشة هو من أفسد التفاح!

أرجعت آبل سبب حصر مزايا الذكاء الاصطناعي "للنخبة" إلى صغر الذاكرة العشوائية في الأجهزة غير المدعومة، حيث إن الهواتف المحرومة من الميزات الجديدة تأتي بذاكرة عشوائية لا تتجاوز 6 جيجابايت، بينما تتطلب وظائف الذكاء الاصطناعي 8 جيجابايت كحد أدنى، وهذا السبب في حد ذاته يدعو للسخرية؛ لأن الشركة الأمريكية كانت دائمًا ما تتعرض للانتقادات لاستخدامها الحد الأدني من الرام في هواتفها السابقة، بأرقام تتفاوت بشدة مع المنافسين.

على سبيل المثال، النسخة العادية من آيفون 13 أتت بذاكرة عشوائية 4 جيجابايت، التي أُطلقت في عام 2021، بينما كانت تأتي الهواتف الأخرى بذاكرة تبدأ من 8 جيجابايت وتصل حتى 12 جيجابايت أي ثلاثة أضعاف تقريبًا. هذا يشمل هواتف مثل «جلاكسي إس 21»، «ونبلس 9» و «جوجل بكسل 6» وغيرها، وفي كل الفئات السعرية.

لم يعترض مستخدمو آيفون على سعة الذاكرة العشوائية المحدودة، فالأرقام غير مهمة ما دامت لا تؤثر على أداء الهاتف أو تجربة المستخدم؛ ولكن دفع هؤلاء المستخدمون ثمن هذا التقييد بعد كل هذه السنوات، حيث حُرموا من ميزة باتت تُعتبر أساسية في عالم التقنية اليوم. ولولا هذا "التقشف" على مدار السنوات الماضية كان بالإمكان تجنب خيبة الأمل هذه.

استخدام الحد الأدنى من الرام كان قرارا بدا غير مهم في وقته، لكنه أصبح الشماعة التي علقت عليها آبل سبب عدم وصول الذكاء الاصطناعي لأغلب هواتف آيفون الحديثة.

لماذا لا نقسم التفاحة نصفين؟

رغبة أبل في معالجة مزايا الذكاء الاصطناعي داخليًا ولها مبرراتها، ولكن عندما تكون النتيجة تقييد هذه المزايا لعدد محدود من الأجهزة، ينبغي إيجاد حلول تضمن استفادة أكبر عدد من المستخدمين منها. من المنطقي أن تميّز آبل بين أجهزتها الحديثة والقديمة، لكن يجب أن يكون هذا التمييز معقولًا، وليس بالتفاوت الواضح الذي رأيناه.

كان من الممكن دعم معالجة مزايا الذكاء الاصطناعي على الأجهزة غير المتوافقة عتاديًا عبر تشغيلها سحابيًا من خلال خوادم آبل، بينما تستمر الأجهزة المتوافقة في معالجة هذه المهام داخليًا. وبهذه الطريقة، ستتمكن أبل من التمييز بين الفئتين كما ترغب، ولكن دون أن تتجاهل الفئة الأقدم بشكل تام. حيث إن الأجهزة القادرة على المعالجة داخليًا ستبقى الأكثر أمانًا لبيانات المستخدمين، ويمكن لآبل استغلال ذلك ضمن رسائل تسويقية مثل «بياناتك تبقى في هاتفك»، في حين توضح للأجهزة التي تعتمد على الخوادم السحابية أن البيانات تُشارك مع آبل. هذه المشاركة يمكن أن تكون أيضًا فرصة لآبل لتحسين "ذكاء آبل" عبر تدريب النظام على بيانات المستخدمين في الأجهزة غير المدعومة.

الخلاصة: هواتف ذكية دون ذكاء اصطناعي هي هواتف غبية!

الذكاء الاصطناعي هو صيحة هذا العقد، انتشر أسرع من النار في الهشيم وتسارعت معه الشركات بمختلف مجالاتها لدعمه في خدماتها، إذا كنت تريد أن تبيع سلعة اليوم فقط أضف بجانبها عبارة «مدعوم بالذكاء الاصطناعي»، والعكس صحيح. لكن مع الأسف، حُرمت أغلبية هواتف آيفون من هذه القدرات الذكية الجديدة، مما يجعلنا نتساءل: هل لازالت تلك الأجهزة تستحق لقب "هواتف ذكية" إذا كانت تفتقد العنصر الذي بات يُحدد ذكاء الأجهزة اليوم؟