
أزمة إنتل: كيف تتجه إنتل إلى حافة الهاوية؟
لطالما ارتبط اسم إنتل بوهج المستقبل، كأن شعارها الأزرق كان جوازًا للعبور إلى عالم الحوسبة الذي تشكل أمام أعيننا في العقود الماضية. كانت الرقائق التي تبتكرها بمثابة القلب النابض للحواسيب، لا يكاد يخلو منها جهاز أو مركز بيانات. غير أن هذا العملاق الذي شيد مجده على صلابة السيليكون وجد نفسه اليوم يتأرجح على حافة هاوية صنعتها السنوات ببطء، كمن يحمل ثقل الماضي على كتفيه ويسير في ممر ضيق يزداد انحدارًا.
لم تكن كبوة واحدة هي التي أوصلت إنتل إلى هنا، بل سلسلة متراكبة من الإخفاقات والقرارات الثقيلة التي كوّنت أزمة إنتل التي نراها أمامنا. نزيف مالي يلتهم الأرباح، وتعثر تقني جعلها متأخرة عن خصومها في سباق المعالجات المتقدمة، واستثمارات توسعية تحولت إلى عبء بدلًا من أن تكون رافعة. وإضافة إلى ذلك، منافسة شرسة يقودها عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تتحول كل شركة لا تواكب الموجة إلى متفرج على هامش التاريخ.
القصة إذن ليست انهيارًا مفاجئًا، بل مسار طويل من وعود مؤجلة وأحلام كبرى لم تجد بعد طريقها إلى التنفيذ. وكأن إنتل، التي اعتادت أن ترسم ملامح المستقبل، وجدت نفسها اليوم مضطرة للدفاع عن مكانتها حتى لا تصبح جزءًا من الماضي.
في هذا المقال سنسافر عبر مسار إنتل المتعرج، نكشف محطات التراجع والتعثر، ونفكك القرارات التي جعلت عملاق الرقائق يقف على حافة الخطر. وسنحاول أن نستكشف ما إذا كانت الشركة قادرة على النهوض من جديد أم أن أزمة إنتل الحالية ستجعل الشركة تسير بخطى ثابتة نحو الهاوية.

جغرافيا أزمة إنتل
حين نقترب أكثر من المشهد، نكتشف أن أزمة إنتل الحالية لم تعد مجرد عثرات عابرة، بل صارت ملامح ثابتة في ميزانيتها وقراراتها. فنتائجها المالية الأخيرة تكشف عن نزيف لا يخطئه النظر: خسائر بمليارات الدولارات وتآكل في الهوامش، يقابله خفض حاد في النفقات وتراجع في الاستثمارات الرأسمالية التي كانت يومًا رمز قوتها.
بالإضافة إلى ذلك، فقد توقفت مشاريع كبرى في ألمانيا وبولندا أو جُمدت، وتباطأت أعمال البناء في مصانع أوهايو التي روجت لها الشركة كعنوان لنهضتها الصناعية إلى حد يثير التساؤلات.
لقد دخلت إنتل مرحلة تقشف قاسية، وكأنها تعترف ضمنيًا أن الطريق الذي اختارته قبل أعوام لم يعد صالحًا، وأنها مضطرة لإعادة رسم خريطتها الصناعية والمالية من جديد.

هيكلة الجسد المؤسسي
لكن النزيف المالي لم يكن وحده العدو. فداخل أسوار الشركة، كان التضخم البشري والإداري عبئًا يثقل الحركة ويُبطئ القرار. إنتل التي طالما افتخرت بجيوش مهندسيها ومراكزها الممتدة حول العالم، وجدت نفسها مضطرة إلى تقليص قوتها العاملة بما يقارب 15%. كما غادر عشرات الآلاف من الموظفين، وأُعيدت صياغة الهيكل الإداري بأكمله.
الرسالة التي حاولت الإدارة إيصالها واضحة، أنه لا مجال بعد الآن للبيروقراطية الثقيلة، ولا وقت لتكدس المسؤوليات بين المكاتب. فالسوق يتحرك بسرعة هائلة، ومن لا يمتلك مرونة الشركات الناشئة لن يتمكن من الصمود في عصر الذكاء الاصطناعي. غير أن لهذه الجراحة المؤسسية وجهًا آخر؛ إذ يخشى مراقبون أن تفقد الشركة خلال هذه العملية بعضًا من خبراتها العميقة في لحظة هي أحوج ما تكون فيها إلى كل عقل مبدع ومهارة نادرة.

عقدة 18A، وأزمة التصنيع
إذا كان المال والهيكل الإداري يمثلان نصف المعركة، فإن النصف الآخر يتجسد في قلب هوية إنتل، في قدرتها على تصنيع الرقائق. فالشركة التي بنت مجدها على ريادة الهندسة الدقيقة، تواجه اليوم أصعب اختبار تقني في تاريخها الحديث.
عقدة التصنيع 18A «ويقصد بها تقنية متناهية الصغر لصنع الترانزستورات بحجم يقارب 1.8 نانومتر فقط»، التي روجت لها إنتل كتذكرة العودة إلى الصدارة، تحولت إلى عبء ثقيل بدلًا من أن تكون مصدر قوة. حيث تتحدث التقارير عن عوائد إنتاج تكاد لا تتجاوز نسبة مئويّة مُكوّنة من رقمٍ واحد! وهي نسبة كارثية في صناعة لا تحتمل سوى هوامش خطأ ضئيلة.
لا يهدد هذا التعثر فقط إطلاق معالجاتها القادمة، بل يضع علامات استفهام كبرى حول طموحاتها في دخول مجال الرقائق وتقديم نفسها كمنافس حقيقي لشركة TSMC. ورغم أن الإدارة تؤكد أن خطوط أريزونا بدأت إنتاج الدُفعات الأولى وأن الجدول الزمني ما زال قائمًا، فإن الثقة تتآكل كلما طالت فترة الانتظار؛ فأي تأخير يصبح بمثابة نزيف يصعب تعويضه.

أزمة إنتل في سباق الذكاء الاصطناعي: انطلق من دونها!
بينما تتعثر إنتل في معارك التصنيع التقليدية، انفجر في الأفق سباق جديد قلب موازين السوق، وهو سباق الذكاء الاصطناعي. هنا لم تكن المعركة حول معالجات الحواسيب الشخصية أو الخوادم التقليدية، بل حول وحدات تسريع ضخمة تشغل مراكز البيانات العملاقة وتغذي خوارزميات التعلم العميق التي يقف عليها مستقبل التقنية.
في هذا الميدان، صعدت NVIDIA كالعاصفة، مستحوذة على نصيب الأسد من الطلب العالمي، بينما لحقت بها AMD بخطوات متسارعة.
أما إنتل، فمحاولتها عبر مسرعات Gaudi 3 واجهت عراقيل صعبة. مشكلات في نضج البرمجيات، خفض في توقعات المبيعات، وتأخر في كسب ثقة مطوري الذكاء الاصطناعي الذين يبحثون عن حلول متكاملة وسريعة الأداء.
ومع كل ربع يفوتها، تتسع الهوة أكثر، وتزداد أزمة إنتل تفاقمًا؛ إذ تتحول مئات المليارات من الدولارات نحو منافسين آخرين، تاركة إنتل في موقع المتفرج، بدل القائد. وهي خسارة ليست مالية فحسب، بل استراتيجية أيضًا، لأن الذكاء الاصطناعي اليوم هو القلب الجديد لصناعة الرقائق، ومن يتأخر فيه يخاطر بإيجاد نفسه خارج السباق.

استراتيجية إنتل لإعادة التموضع
أمام هذه الضغوط المتشابكة، لم تجد إنتل مفرًا من الدخول في مرحلة تقشف صارمة وإعادة رسم لخريطتها الجغرافية. فبعد أن كانت ترفع شعار التوسّع العالمي، تباطأت خطواتها فجأة.
وبات مشروع أوهايو الذي قدمته الإدارة قبل سنوات كعنوان لنهضة صناعية أمريكية جديدة، يسير بوتيرة بطيئة لا تليق بالوعود الأولى. وكأن الشركة تعترف ضمنيًا أن بناء الطاقات الضخمة قبل حل عقدة العوائد المرتبطة بالـ 18A سيكون مغامرة غير محسوبة.
في المقابل، ركزت الإدارة على تبسيط الهيكل الداخلي وتوجيه الموارد نحو رفع كفاءة التصنيع القائم، وضبط النفقات، وتحويل عمليات الاختبار والتجميع إلى مواقع أقل وأكثر كفاءة. الاستراتيجية هنا تبدو أقرب إلى انكماش مدروس منها إلى توسع طموح، لكنها تعكس إدراكًا بأن البقاء على قيد المنافسة يتطلب الواقعية قبل الحلم.

لماذا تبدو الحافة قريبة؟
حين ننظر إلى صورة إنتل اليوم، نجد أن عوامل الضغط لا تأتي من جبهة واحدة، بل من جبهات متعددة تتقاطع جميعها في نقطة خطرة. يعد أول هذه العوامل هو الضغط المالي، حيث تتآكل الهوامش ويستمر النزيف في الأرباح، بينما لم تنجح الشركة بعد في تعويضه من خلال عقود تصنيع خارجية أو دخول قوي إلى سوق الذكاء الاصطناعي.
وثانيها هو ضغط التنفيذ، إذ يظل مصير عقدة 18A معلقًا بين وعود الإدارة وحقائق التقارير التي تكشف عن عوائد إنتاج مخيبة، ما يهدد بتأجيل الإيرادات المنتظرة ويزيد كلفة التأخر.
أما العامل الثالث فهو ضغط السوق والمنافسة؛ تتحرك NVIDIA وAMD بسرعة مذهلة، وTSMC تحافظ على زعامتها في التصنيع المتقدم، بينما إنتل ما زالت تحاول اللحاق بالركب. لم يعد قطاع الحواسيب الشخصية الذي كان يومًا مصدر قوتها، يملك الزخم الكافي لدعم مسيرتها، ومع كل فصل مالي تتأخر فيه، تصبح المسافة بينها وبين منافسيها أصعب في الردم.
يجعل التقاء تلك الضغوط الثلاثة المشهد أشبه بميزان مائل؛ إذ يكفي أي خطأ إضافي لدفع أزمة إنتل نحو مُنحدرٍ جديد، ويخطو بالشركة خطوة أخرى نحو الحافة.

بصيص الأمل وفرصة النهوض
رغم كل هذا المشهد القاتم، لا تزال هناك خيوط ضوء؛ إذ تراهن الشركة على أن سياسة خفض النفقات وتبسيط الهيكل ستمنحها القدرة على التحرك بسرعة أكبر، وتجعلها أقرب إلى مرونة الشركات الصاعدة بدلًا من ثقل البيروقراطية القديمة.
إضافة إلى ذلك، فإن موقع إنتل الجيوسياسي يظل ورقة مهمة؛ إذ تدفع الولايات المتحدة بقوة لإعادة بناء سلاسل التوريد المحلية لأشباه الموصلات وتقليل الاعتماد على الدول الآسيوية، وهو ما قد يوفر لإنتل عقودًا وحوافز حكومية ضخمة تعيد لها جزءًا من الزخم المفقود.
وبينما تواصل NVIDIA وTSMC السباق في المقدمة، تبقى أمام إنتل فرصة ضيقة لتغيير السردية: إذا نجحت في رفع عوائد التصنيع سريعًا وربطها بمنتجات حقيقية تدخل السوق في الوقت المناسب، قد تتحول من قصة انحدار إلى ريمونتادا تاريخية.
هنا يبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح الشركة في استعادة مكانتها وتكتب فصلًا جديدًا من الريادة، أم أن اسمها العريق سينضم إلى قائمة العمالقة الذين توقفوا عند منتصف الطريق؟
في النهاية، ستكشف الشهور القليلة القادمة إن كانت إنتل قادرة على التراجع خطوة عن الحافة، أم أنها بالفعل تخطو نحو الهاوية.
?xml>