بدأت الصين في إجراء تدريبات عسكرية مكثفة حول جزيرة تايوان في تصعيد يُعد الأكبر في تاريخ البلدين إن صح التعبير. أعلنت الصين بشكلٍ مُفاجئ عن تدريبات تُحيط الجزيرة من كافة الاتجاهات، مُستخدمةً فيها قوات الجيش والبحرية والجوية التابعين لجيش التحرير الشعبي الصيني.

لم يقتصر الأمر على تحرُكاتِ أفرع قوات جيش التحرير الشعبي الصيني بل تبع هذه التحركات تصريح لقائد قوات البحرية الصيني بأن هذا التدريب هو عقوبة صارمة على الأعمال الانفصالية لقوى استقلال تايوان، وتحذير جدي من التدخل والاستفزاز من قبل قوى خارجية.

قد تُفاجأ عزيزي القارئ من الحديث عن مثل هذه الصراعات على واحد من أكبر مواقع التقنية في الوطن العربي، ولكن دعني أخبرك أن اندلاع حرب بين الصين وتايوان سيؤثر على صناعة التقنية ككل، بل على أي جهاز يحتوي على دائرة كهربائية ولن أبالغ إذا أخبرتك أنه سيؤثر على العالم أجمع أضعاف ما أثرته الحرب الروسية-الأوكرانية خلال أكثر من عامين.

لماذا قد تنشأ حرب بين الصين وتايوان؟

توحيد الأراضي الصينية

يعود الصراع بين الصين وتايوان إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في هذا الوقت لم تكن تايوان دولة بل كانت جزء من أراضي الصين. بعد التحرر من احتلال اليابان والانتصار في الحرب، نشبت حرب أهلية في الصين بين الحزب القومي الصيني والحزب الشيوعي الصيني. الأول كان الحاكم الفعلي للبلاد، أو بصورةٍ أخرى، الحاكم المعترف به دوليًا. بينما كان الحزب الشيوعي يمتلك قوة أكبر على أرض المعركة.

بدون الدخول في تفاصيل الحرب الأهلية؛ انتصر الحزب الشيوعي الصيني، وسيطر على كافة أراضي الصين -ما عدا جزيرة تايوان- التي نجح الحزب القومي الصيني في الحفاظ عليها تحت سلطته بالإضافة لعدد من الجزر الصغيرة المجاورة لها.

مُنذ ذلك الوقت، يرى كل من الطرفين أن الصين -والطرف الآخر- يسيطر بفعل القوة العسكرية على جزء من الدولة بصورة غير شرعية.

بالنسبة لباقي دول العالم فهناك دولة الصين فقط، والمعروفة رسميًا باسم جمهورية الصين الشعبية وهي تلك التي يحكمها الحزب الشيوعي الصيني، أما تايوان، فهي دولة غير مُعترف بها بصورة رسمية سوى من 12 دولة أخرى في العالم أهمهم الباراجواي. باقي دول العالم بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية -أكبر حليف لتايوان- لا تعترف بها بشكل رسمي.

في الكثير من المحافل الدولية، يتم الإشارة لتايوان بـ Taipei إرضاءً للصين، كما يحدث في كل دورة من دورات الألعاب الأولمبية، والحدث التقني الأكبر على مُستوى الهاردوير، Computex Taipei، بل أن تايوان لا تمتلك مقعدًا كدولة عضو في الأمم المتحدة من الأساس.

السيطرة على شركة TSMC

توحيد الأراضي الصينية من وجهة نظر الصين ليس السبب الوحيد لمحاولة ضم تايوان. هذا الصراع مر عليه أكثر من 70 عامًا، ربما لم تكُ الصين طوال هذه المدة أكثر جاهزية وقوة عمّا هي عليه الآن، ولم تكن الولايات المتحدة في وضعٍ أسوأ من الآن، ولكن هذه الحرب قد تنشأ لسببٍ مختلِف تمامًا؛ وهو رغبة الصين في السيطرة على شركة TSMC!

شركة TSMC هي شركة تايوان لأشباه الموصلات، وهي أكبر مُصنِّع في العالم لأشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية. تُسيطِر الشركة التايوانية على أكثر من 61% من سوق أشباه الموصلات في العالم، وعلى 90% تقريبًا من سوق الشرائح الأكثر تطورًا. لتدرك مدى قوة وضخامة هذه الشركة فتقرير Counterpoint يُشير إلى أن أكبر منافس لـ TSMC هي شركة سامسونج لأشباه الموصلات (إحدى شركات مجموعة سامسونج) والتي تستحوذ على 17% فقط من هذا السوق.

المصدر: Counterpoint

تمتلك تايوان أيضًا لاعبًا هامًا في هذا السوق، وهو شركة UMC، التي تُسيطر على 7% من هذا السوق لتأتي في المرتبة الثالثة في قائمة أكبر مصنعي أشباه الموصلات في العالم. على الجهة الأخرى؛ فالصين تمتلك شركة واحدة كبيرة في هذا المجال، وهي الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات، SMIC الصينية، والتي تحتل المركز الخامس بحصة سوقية قدرها 5% ترتكز أغلبها على تطوير رقائق وشرائح إلكترونية لشركات الصين -كهواوي- وحكومتها.

بُناءً على ما سبق، ستسمح سيطرة الصين على شركة TSMC للدولة الشيوعية بتخطي العقوبات الأمريكية وحظر بيع التقنية المتقدمة المفروض على الصين وشركاتها منذ عام 2020، سيوفر للشركة ماكينات تصنيع الرقائق المتقدمة التي تصنعها شركة ASML الهولندية فقط والتي أوقفت تصديرها للصين، بل سيجعل صناعة التقنية ككل في قبضة الحكومة الصينية وسيمحي تمامًا هيمنة الولايات المتحدة على هذا السوق.

يقول تقرير لـ Citi Group إن تايوان هي أكثر الدول تقدُمًا في مجال أشباه الموصلات، الولايات المتحدة تحتاج عامين من التطوير للحاق بها أما الصين فتحتاج على الأقل لخمس سنوات من التطوير للحاق بها. كل هذا بافتراض أن تايوان أوقفت عملية التطوير.

طالع أيضًا: صناعة أشباه الموصلات.. الذراع التي تُحرّك العالم!

أنت تدرك الآن لماذا قد تنشأ حرب بين الصين وتايوان، حسنًا لماذا قد تتأثر صناعة التقنية والأجهزة الإلكترونية إذا ما قامت الصين بأي عملية عسكرية تجاه تايوان؟ ولماذا لن يتحمل العالم هذه الحرب؟

تأثُّر صناعة التقنية والأجهزة الإلكترونية

كأي صراع في العالم، هناك دائمًا دراسات متخصصة تتوقع تبعات هذا الصراع وتأثيره من كافة النواحي وبالأخص بالاقتصاد العالمي.

أغلب الدراسات التي أجريت أشارت أنه فور اندلاع الحرب، ستتوقف مصانع TSMC عن العمل فورًا. هناك أكثر من سيناريو جميعهم سيؤدون لتوقف المصانع عن العمل، قبل عام بالتحديد، اقترح أحد المسؤولين في الإدارة الأمريكية قصف مصانع TSMC فور اندلاع الحرب خشية من سيطرة الصين عليها، وهو ما قوبِل بهجوم شديد من قبل الإدارة التايوانية.

سيناريو آخر ظهر على الساحة خلال الأيام الماضية؛ عندما أعلنت شركة ASML المصنعة لماكينات الرقائق المتقدمة أنها قد نجحت بالتعاون مع TSMC في إنشاء "مفتاح قتل". فور احتلال الصين لتايوان سيتم استخدام هذا المفتاح وستصبح كافة ماكينات المصنع بلا فائدة حتى تُعيد ASML تشغيلها مرة أخرى. تقول الشركة الهولندية إنها جربّت هذه العملية عدة مرات انتهت جميعها بنجاح التجربة.

استمرار الحرب دون تأثر TSMC هو أمر غاية في الصعوبة، لأنه في أحسن تقدير؛ لن تتمكن الشركة من تصدير إنتاجها وهو ما سيقودنا لنفس المسار في النهاية.

توقف مصانع TSMC عن العمل سيؤدي لتدمير صناعة التقنية.

فور توقف المصانع عن العمل، ستتعطل كافة الصناعات المتعلقة بالمجال التقني. صناعة قطع الهاردوير ستتدمر، Nvidia و AMD يصنعون أفضل شرائحهم وأغلبها في مصانع TSMC، مما يعني أن قطاع الهاردوير للأفراد والشركات سيتعطل كثيرًا أو ربما سيُشل تمامًا،  كما سيُصاحبه ارتفاع جنوني في الأسعار لتوقف عملية الإنتاج.

الأمر ذاته سيؤثر على صناعة الخدمات السحابية التي تعتمد بشكل كبير على عتاد من الشركتين. تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي سيكون المتضرر الأكبر، لأن كافة الموارد المُتاحة ستذهب لإبقاء الخدمات السحابية قيد التشغيل في ظل اختفاء أي عتاد جديد قد يستخدم لحل أي تلفيات أو في عمليات الصيانة الدورية.

ستتوقف أيضًا صناعة الهواتف الذكية، الأجهزة اللوحية، أجهزة المنزل الذكي، الملحقات الإلكترونية بأنواعها، أجهزة الشبكات والاتصالات وأي جهاز إلكتروني. كل هذا سيصاب بالشلل الفوري لأن المنافسون لن يتمكنوا من تعويض إنتاج TSMC من حيث التقدم التكنولوجي أو كمية الإنتاج.

السيارات، الأسلحة، الاتصالات والفضاء سيُصابون أيضًا بالشلل

الصناعات المذكورة ستمُر هي الأخرى بموجة من الشلل لم تشهده من قبل. خلال أزمة انتشار فيروس كورونا انخفض إنتاج الرقائق بسبب الظروف الصحية آنذاك. تعرضت صناعة السيارات لأزمة كبيرة فرضت على كِبار المُصنعين تصنيع سياراتهم وتجميعها في ساحات كُبرى لأنها غير مُكتملة التصنيع بسبب عدم توريد الرقائق اللازمة. أدى ذلك لموجة ارتفاع كبيرة في أسعار السيارات، فماذا يمكن أن يحدث إذا توقفت الصناعة في تايوان؟

لن نتطرق كثيرًا لصناعات مثل الأسلحة ومركبات الفضاء ومدى تأثرها بما يحدث وسأكتفي بأن أخبرك بأن طائرة F-35 المقاتلة وهي أفضل طائرة في القوات الجوية الأمريكية تعتمد بشكل أساسي على رقائق من TSMC، أما بالنسبة لصناعة الفضاء والأقمار الصناعية فالأمر لن يختلف كثيرًا.

أكبر مُصنع مُعدات الاتصالات في العالم 2022 - الصين في المُقدمة بفارق كبير عن أكبر مُنافس

في صناعة الاتصالات الوضع سيكون كارثي، ليس فقط بسبب افتقاد العتاد المطلوب لهذه الصناعة، بل لأن الصين تمتلك أكبر شركات في هذه الصناعة والتي تأتي شركة هواوي على رأسها. الولايات المتحدة ستبذل بالتأكيد كل ما بوسعها لإخراج الصين من هذه الصناعة للضغط عليها ما سيتسبب في أزمة أكبر.

شلل اقتصادي بسبب فرض عقوبات اقتصادية على الصين

مجال الاتصالات لن يكون المجال الوحيد الذي تُفرض فيه عقوبات اقتصادية على الصين. بالنظر إلى ما حدث مع روسيا فمن المتوقع أن تفرض الولايات المتحدة الأمريكية مئات العقوبات وهو ما سيكون تأثيره مدمر على الاقتصاد العالمي.

عانى العالم على مدار عامين من تبعات العقوبات المفروضة على روسيا، أسعار الغذاء وبالتحديد الحبوب شهدت عدد من الارتفاعات كما تكرر الأمر مع كل من البترول والمعادن والأسمدة وهي كُبرى الصادرات الروسية.

مع الصين التي تعتبر الآن مصنع العالم سيكون الوضع كارثي، الصين تصنع كل شيء تقريبًا ولا يخلو أي مكان مأهول بالبشر في العالم بعشرات المنتجات الصينية. أنت عزيزي القارئ تستخدم هاتف غالبًا مصنع في الصين وترتدي ملابس أجزاء منها على الأقل مُصنعة في الصين وتجلس لتقرأ هذا المقال في مبنى أو وسيلة مواصلات أو حتى حديقة بهم على الأقل عشرات الصادرات الصينية.

يعني فرض عقوبات اقتصادية على الصين كما هو مفروض على روسيا أو إيران أن الولايات المتحدة ستمنع أي دولة من استيراد المنتجات الصينية وإلا ستتعرض هي الأخرى لعقوبات أمريكية وهو أمر تخشاه أغلب دول العالم. إذا ما حدث هذا الأمر فإن المنافسين مثل كوريا الجنوبية، فيتنام، إندونيسيا، ماليزيا، اليابان والهند لن يتمكنوا مجتمعين من سد الفجوة التي سيخلفها خروج الصين من الأسواق العالمية.

10 تريليون دولار خسائر الاقتصاد العالمي

يتوقع تقرير لوكالة Bloomberg أن تكون خسائر الاقتصاد العالمي من هذه الحرب ما يفوق 10 تريليون دولار. إذا لم تكن تدرك ضخامة هذا الرقم فدعني أخبرك أنه ثلاث مرات تقريبًا للناتج المحلي الإجمالي للدول العربية مشتركة وهو أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

هذه الدراسة استندت على أن حرب تايوان والصين قد تستغرق عِدة سنوات مع وجود احتمالية لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية وعدم إيقاف مصانع TSMC عن العمل. أشار التقرير كذلك أن الدول المحيطة وبالأخص حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية مثل كوريا الجنوبية واليابان سيكونا من كِبار المتأثرين بهذه الحرب، حيث يتوقع أن يعاني اقتصادهما من انكماش نسبته 23.3% للأولى و 13.5% للثانية.

مأساة إنسانية

لا يجب أن تُشغلنا الأرقام والصناعة عن أكبر ضرر من هذه الحرب المرتقبة، وهي المأساة الإنسانية التي سيتعرض لها الملايين، وهي أيضًا الدافع الأول لأن لا نتمنى أن تحدث هذه الحرب بغض النظر عن أي شيء آخر.

هل توجد خطة بديلة؟

بالتأكيد لا يقف العالم متفرجًا على ما يحدث في جنوب شرق آسيا، بل تسعى الولايات المتحدة للخروج رابحةً إذا ما حدث أي سيناريو. أطلقت الحكومة الأمريكية برنامج تمويلات وتسهيلات ضخمة لكل من TSMC وسامسونج لفتح مصانع لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة الأمريكية.

مصنع TSMC في أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية تحت الإنشاء

قانون الشرائح والعلوم الذي تم إقراره في عام 2022 يمنح وزارة التجارة الأمريكية 39 مليار دولار لدعم صناعة الرقائق المتطورة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لمجابهة التطور السريع في هذه الصناعة. ستحصل TSMC بموجب هذا القانون على 6.6 مليار دولار كمنحة لبناء مصانعها في ولاية أريزونا وبالتحديد في مدينة فينيكس، وستحصل الشركة أيضًا على 5 مليار دولار كقروض بخلاف إعفاءات ضريبية ستغطي تقريبًا 25% من تكلفة البناء.

ومن المُتوقّع أن يتم افتتاح هذا المصنع خلال النصف الأول من العام المقبل 2025.

ماذا تفعل عند اندلاع حرب بين الصين وتايوان؟

حسنًا قد لا نملك نصيحة شاملة لما يجب أن تفعله إذا ما اندلعت هذه الحرب، ولكن إذا صادف أن قرأت هذا المقال بعد اندلاع هذه الحرب فلدينا نصيحة واحدة. إذا كنت تفكر في شراء أي جهاز إلكتروني فسارع بشرائه، لأن أسعار كل شيء ستقفز إلى مُستوى ربما لن ترجع عنه للأبد، هذا بافتراض أنك وجدت ما تبحث عنه.