لم يكن ذلك الصباح في غرفة العمليات بمستشفى UC San Diego Health الأمريكية صباحًا عاديًا. كانت الأضواء المعلقة ساطعة كالمعتاد، والأجهزة تهمس بإيقاعها المنتظم، لكن شيئًا واحدًا فقط كان مختلفًا، وهو الجراح.

فهو لم يقترب من الطاولة وهو يرتدي ملابس غرفة العمليات التقليدية فحسب، بل وضع على وجهه نظارة أنيقة بلون رمادي معدني، تحمل شعار التفاحة المضيئة، كان الجراح يرتدي نظارة Vision Pro الحديثة.
في تلك اللحظة، لم تكن النظارة أداة ترفيه أو تجربة واقع مختلط كما عرفها العالم عند إطلاقها، بل تحولت إلى نافذة طبية متقدمة. على عدساتها، ظهرت صور الأشعة للمريض، تفاصيل دقيقة لتجاويف الجسم، إشارات حيوية تنبض بشكل متزامن، وحتى بث مباشر من الكاميرا الجراحية نفسها.

كان الطبيب سانتياغو هورغان، أحد أبرز جراحي الجهاز الهضمي في كاليفورنيا، هو من يقود هذه التجربة غير المسبوقة. لم يحتج إلى لمس أي جهاز، بل حرك عينيه ليتنقل بين الصور، ووجه أوامره للنظارة بصوته بثقة وتركيز.

ولأول مرة في التاريخ، أصبحت نظارة الواقع المختلط أداة حقيقية تُستخدم أثناء الجراحة، ضمن تجربة سريرية جمعت بين الطب والتكنولوجيا، وأثبتت أن الواقع المختلط قد أصبح شريكًا في إنقاذ الأرواح.
في هذا المقال، نستعرض تفاصيل تلك التجربة، ونحلل تأثيرها على مستقبل الجراحة والتعليم الطبي، والفرص والتحديات التي تحملها تلك الخطوة الجريئة.

كيف بدأت الفكرة؟

صورة توضيحية لاستخدام نظارات الواقع المعزز في العمليات الجراحية - المصدر: techfinitive

يُعد مستشفى UC San Diego Health أحد المراكز الرائدة في الأبحاث الجراحية والتقنيات الحديثة في الولايات المتحدة. وقد أُجريت أكثر من 50 عملية جراحية في المستشفى باستخدام نظارات Vision Pro، ضمن دراسة سريرية تهدف إلى تقييم فاعلية النظارة داخل بيئة جراحية حقيقية.

لم يكن الهدف استعراضًا تقنيًا بقدر ما كان محاولة لإيجاد حلول عملية لمشكلات حقيقية يواجهها الجراحون يوميًا، مثل الحاجة للانتقال بين شاشات مختلفة أو التشتت أثناء متابعة بيانات المريض أو الاعتماد الزائد على المساعدين لنقل المعلومات.

وقد صرح الدكتور سانتياغو هورغان، رئيس قسم الجراحة، بأن هذه التقنية تمثل نقلة نوعية في طريقة تعامل الأطباء مع البيانات أثناء العمل الجراحي. فقد أصبح بإمكان الطبيب أن يرى كل شيء أمامه مباشرة، دون أن يُبعد نظره عن المريض.

لم تكن الملفت في هذه التجربة محصورة في العمليات البسيطة أو التدريب، بل اُستخدمت في جراحات فعلية حقيقية، شملت تدخلات دقيقة في البطن والصدر. وكانت النتائج الأولية مشجعة، سواء من حيث الأداء الطبي أو ردود فعل الطاقم الجراحي.

تصميم تطبيق خاص بغرفة العمليات

صورة توضيحية لربط الننظارة بالتطبيقات المختلفة - المصدر: medicare

بالإضافة إلى ذلك، طُور تطبيق طبي داخلي خصيصًا داخل مستشفى UC San Diego Health، على يد فريق بحثي متخصص. وقد ركز التطبيق على عرض معلومات طبية حساسة، مثل صور الأشعة، وبيانات التنظير الداخلي، والمؤشرات الحيوية للمريض، ضمن بيئة تفاعلية ثلاثية الأبعاد داخل مجال رؤية الجراح. وصُمم بحيث يتفاعل مع النظارة من خلال تتبع حركة العين، والإيماءات، والأوامر الصوتية، ما أتاح للجراح التحكم الكامل دون لمس أي سطح، وبأقل قدر من التشتيت.

يختلف هذا التوجه عن تطبيقات أخرى طورتها شركات متخصصة مثل eXeX، التي تركز بدرجة أكبر على إدارة الأدوات الجراحية وتنظيم تدفق العمل في غرفة العمليات. ورغم أن كلتا التجربتين توظفان نظارات Vision Pro، فإن الفرق الجوهري يكمن في الهدف من التطبيق وطريقة دمجه في العملية الجراحية.

ما يميز تطبيق UCSD أنه بُني من داخل المؤسسة الطبية نفسها، لتلبية احتياجاتها الواقعية، وليس كحل تجاري جاهز. وقد منحه ذلك قوة أكبر في التكيف مع بيئة غرفة العمليات الفعلية، وجعله نموذجًا أوليًا لمستقبل يمكن فيه للفرق الطبية تصميم أدواتها الرقمية بنفسها، بناءً على تجربتها الميدانية اليومية.

ما هي نظارات الواقع المعزز؟

نظارات الواقع المعزز - المصدر: olhardigital

تعد نظارات الواقع المعزز (AR) أجهزة ذكية تُشبه في شكلها النظارات التقليدية أو الخوذات، لكنها تحتوي على شاشات شفافة أو شبه شفافة تُسقِط معلومات رقمية فوق العالم الحقيقي الذي يراه المستخدم. أي أنها تُمكن المستخدم من رؤية الواقع كما هو، مع إضافة طبقات من البيانات أو الصور ثلاثية الأبعاد التي تتفاعل مع البيئة المحيطة.

فبدلًا من عزل المستخدم داخل عالم افتراضي بالكامل، كما تفعل نظارات الواقع الافتراضي (VR)، تُبقي نظارات الواقع المعزز الشخص على اتصال بمحيطه، لكنها تضيف إليه معلومات يمكن أن تكون مفيدة، مثل عرض صور طبية أو توجيهات جراحية أو تعليمات تفاعلية مباشرة أمام العينين.

تُستخدم هذه التقنية في مجالات متعددة، لكن في الطب تحديدًا، تفتح الباب أمام ثورة في كيفية تدريب الأطباء، وتخطيط العمليات، وحتى إجراء الجراحات بدقة غير مسبوقة.

تجارب طبية أخرى واعدة

استخدام نظارات الواقع المعزز في المجال الطبي - المصدر: sharp health

لم تقتصر استخدامات نظارة Vision Pro على غرف العمليات فقط، بل بدأت المستشفيات والمؤسسات الطبية حول العالم في استكشاف إمكاناتها في مجالات متنوعة داخل الرعاية الصحية. ففي الولايات المتحدة، تحديدًا في مستشفى Sarasota Memorial Hospital بفلوريدا، أُجريت تجربة مشابهة باستخدام تطبيق eXeX أيضًا، لكن بتركيز أكبر على مراقبة سير العمل وتخطيط العمليات الجراحية، ضمن بيئة تعليمية تُستخدم لتدريب الفرق الطبية على التنسيق الفوري واتخاذ القرار تحت الضغط.

أما في مراكز التدريب الطبي مثل Cleveland Clinic وStanford Health، فبدأت نظارات Vision Pro تُستخدم كأدوات تدريب تفاعلية لطلاب الطب، حيث تتيح لهم مشاهدة إجراءات جراحية معقدة من منظور الجراح، والتنقل داخل نماذج ثلاثية الأبعاد للأعضاء البشرية، ما يمنح تجربة تعليمية غامرة يصعب تحقيقها عبر الوسائل التقليدية.

تشير هذه التجارب المتنوعة إلى أن الواقع المختلط بدأ يفرض نفسه كعنصر فاعل في إعادة تشكيل البنية التكنولوجية للممارسات الطبية، سواء في التعليم أو التشخيص أو الجراحة أو إدارة الفرق داخل المنشآت الصحية.

تحديات استخدام Vision Pro في الطب

تجربة استخدام vision pro في غرفة العمليات - المصدر: tech finitive

رغم الحماسة التي أثارتها هذه التجربة، فإن استخدام نظارة Vision Pro داخل غرفة العمليات لا يخلو من التحديات. فأول ما يلفت الانتباه هنا، هو أن النظارة ليست مصممة أصلًا للبيئة الطبية، ما يطرح تساؤلات حول التعقيم، والراحة، والتوافق مع المعايير الصارمة للمستشفيات.

إضافة إلى ذلك، النظارة كبيرة وثقيلة نسبيًا، وقد لا تكون ملائمة للارتداء لساعات طويلة أثناء جراحات معقدة. كما أن استخدامها في بيئة معقمة يستدعي حلولًا إضافية، مثل أغطية خاصة أو بروتوكولات تنظيف دقيقة. هذا بخلاف احتمال انقطاع الاتصال أو مشكلات التطبيقات، التي قد تكون غير مقبولة في عمليات طبية تتطلب دقة مطلقة وعدم وجود أي هامش للخطأ.

تقنيات الواقع المعزز في العمليات الطبية - المصدر: orthofeed

كما أن التكلفة تطرح إشكالية أخرى. فشراء أجهزة Vision Pro وتجهيز التطبيقات المخصصة لها لا يزال مكلفًا لمعظم المستشفيات، خاصة في الدول النامية. ومع أنه من المتوقع أن تنخفض هذه التكاليف مع الوقت، إلا أن الاعتماد الواسع النطاق يحتاج إلى إثبات جدوى سريرية حقيقية، مدعومة ببيانات ونتائج طويلة المدى.
لا أحد ينكر أن التجربة رائدة، لكنها في طورها التجريبي، ولا تزال تحتاج إلى اختبارات أوسع، ومراجعات تنظيمية، وربما إعادة تصميم لتكون النظارة ملائمة فعلًا للاستخدام في غرف العمليات على نطاق واسع.

سباق عالمي على الطب المعزز

تجربة استخدام hololens - المصدر: health simulation

لم تعد غرف العمليات وساحات التعليم الطبي حكرًا على الأدوات التقليدية والأيدي المتمرسة، بل باتت مسرحًا لمنافسة شرسة بين عمالقة التكنولوجيا، الذين يتسابقون على ترسيخ موطئ قدم لهم داخل المنظومة الصحية العالمية. فعلى الرغم من أن تجربة نظارات Vision Pro قد جذبت الأضواء الإعلامية بفضل حضور Apple الطاغي في المشهد التقني، فإن الواقع أكثر تنوعًا وثراءً مما قد توحي به العناوين.

تعد شركة Microsoft، عبر نظارة HoloLens، من أوائل من اقتحموا هذا المجال، مقدمة حلولًا مبتكرة لعرض البيانات التشريحية أثناء العمليات، وتعزيز دقة الجراحة من خلال نماذج ثلاثية الأبعاد تنعكس مباشرة أمام عينَي الجراح. أما نظارة Magic Leap، فقد أعاد إطلاق نفسه بنُسخ موجهة للقطاع الطبي، تركز على دعم التواصل بين الأطباء عن بُعد، وتوفر بيئات محاكاة تفاعلية للمتعلمين والممارسين على حد سواء.

صورة توضيحية لمستقبل الواقع المعزز - المصدر: imperialbrc

لكن هذا التوجه لا يمكن اختزاله في سباق تجاري أو عرض تقني فحسب، بل هو انعكاس لتحول أعمق يحدث بصمت داخل الأوساط الأكاديمية والطبية. فهناك اليوم قناعة تتعزز بين الأطقم الطبية والباحثين بأن الواقع المختلط (MR) والواقع الممتد (XR) قادران على تغيير معادلة المعلومة الطبية: كيف تُعرَض؟ كيف تُفهَم؟ ومتى تُستخدم؟ بل إن بعض المراكز بدأت تصف هذه الأدوات بأنها امتداد حسي ومعرفي للجرَّاح، يربط بين التجربة البشرية والذكاء الاصطناعي في لحظة اتخاذ القرار.

بين يد الجراح وعين التقنية: فصل جديد يُكتب الآن

صورة توضيحية لاستخدام vision pro في المجال الطبي - المصدر: healthcare

في قلب غرف العمليات، حيث تتقاطع المهارة البشرية مع التكنولوجيا الدقيقة، يُعاد تعريف الطب كما لم نعرفه من قبل. فقد بدأت النظارات الذكية تتخذ موقعها الطبيعي إلى جانب المشرط وأجهزة متابعة ضغط الدم وضربات القلب. وبينما تواصل Apple وMicrosoft وMagic Leap وغيرهم تطوير أدواتهم، تتسابق المستشفيات والجامعات لتجريبها، وفهم حدودها، وتوسيع استخدامها.

تعد تجربة مستشفى UC San Diego Health إشارة واضحة على أن المشهد يتغير، وأن العلاقة بين الطبيب والتكنولوجيا دخلت عصرًا جديدًا. عصر يرى فيه الجراح أعضاء المريض أمامه مجسمة بتفاصيل دقيقة، ويتلقى التعليمات والبيانات دون أن يرفع رأسه عن موقع الجراحة، ويدرب فيه طلاب الطب على سيناريوهات حية دون لمس مريض حقيقي.

مستقبل نظارات الواقع المعزز - المصدر: hln

قد تكون هذه مجرد بداية، لكن المؤكد أن التقنية لم تعد تقف خلف الباب تنتظر الإذن بالدخول، بل أصبحت جزءًا من فريق العمل.

ومع تزايد التجارب السريرية الخاضعة للرقابة، ودخول المؤسسات الصحية في شراكات مباشرة مع الشركات التقنية، يبدو أن السنوات المقبلة ستشهد انتقال هذه الأدوات من مرحلة الاختبار إلى مرحلة الاعتماد الفعلي. فالمستشفيات التي كانت تخشى تعقيد الأجهزة الجديدة، بدأت اليوم تنظر إليها كأصول استراتيجية لتحسين الكفاءة وتقليل الأخطاء.

إنها لحظة تحول نادرة، تُكتب بمهارة عالية داخل غرف العمليات وقاعات المحاضرات، لكنها تحمل في طياتها وعودًا كبيرة: أن يصبح الطب أكثر دقة، وأكثر تخصيصًا، وربما، أكثر إنسانية بفضل تطور التقنيات الحديثة.