نحن في عرب هاردوير نشارك عشرات الأخبار أسبوعيا حول جميع مستجدات التقنية، الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة وأخبار الهواتف وأنظمة التشغيل والتطبيقات. بالإضافة لمقالات مفصلة وغيرها، ولكن يدور في ذهني تساؤل مهم، ما فائدة التقنية؟ ولماذا نسعى لتطويرها.

الجواب البسيط والسهل: لتحسين حياة الإنسان وتسهيلها، فحين ظهر "الحاسوب" الآلي لأول مرة سهل على العلماء والباحثين - من ضمنهم وزارات الدفاع لأغراض الحرب العالمية - العمليات الحسابية المعقدة، ومع مرور الوقت نرى مهامًا كانت في العادة مملة وروتينية تستبدلها الآلات، حتى إن من أبرز النقاشات التقنية حاليًا هو: هل يستبدل الذكاء الاصطناعي وظيفتك؟

إذن فالهدف نبيل ولا يختلف اثنان عليه، ولكني أرى أن هذا ليس هدف التقنية الحقيقي، لو كان فعلًا الهدف هو تحسين حياة الناس لما رأيت كل هذه الشركات تقوم بكل هذه الأشياء التي بالتأكيد لا تحسن حياة الناس بل ربما تجعلها أسوء، وهدف كل شركات التقنية هذه التي تقود الأبحاث في أي جديد هو إبهار ملاك الأسهم وجني أكبر قدر ممكن من الأرباح!

تنويه ⚠ 

هذا المقال يعبِّر عن رأي كاتبه فقط، ولا يُعبِّر بالضرورة عن شركة عرب هاردوير.

مميزات جديدة، بالإجبار! 

لو كان هدف التقنية هو تحسين حياة الناس، لما رأينا إصدارًا جديدًا من الآيفون كل عام بلا فائدة فعلية للمستهلك، ولما شهدنا الإبطاء المتعمّد للأجهزة الأقدم، وانقطاع التحديثات والدعم عن الأنظمة القديمة مثل ويندوز 10.

ما أريد قوله هو أن هذه التقنيات الاستهلاكية لا تركّز على الفرد، ولا تضع الإنسان في حسبانها في المقام الأول، بل تضع المال، ثم المال، ثم المال.

فكّر معي في عدد ميزات الذكاء الاصطناعي التي تُحشَر حشرًا في كل زاوية من زوايا الإنترنت؛ تحت كل منشور على فيسبوك ترى اقتراحًا لتسأل Meta AI عن محتوى المنشور، وتفتح واتساب لتدردش مع أصدقائك، فتجد زرًا بارزًا للدردشة مع ميتا AI أيضًا.

أزرار meta ai في تطبيقي واتساب ومسنجر

هل يكترث أحد لمميزات توليد الإيموجي بالذكاء الاصطناعي؟ كم مرة استعنت بذكاء اصطناعي ليرتب رحلة بدلًا منك؟

تقنية Genmoji من آبل
تقنية Genmoji من آبل

هنا أقول: هل فكرت الشركات في الفائدة الحقيقية الفعلية التي سيحصل عليها المستخدم مع كل مميزات الذكاء الاصطناعي هذه؟ أم هو إجبار للمستخدم؟

لا مشكلة لدي في أن تربح الشركة المال مقابل خدمة تقدمها لي، فبالتالي من الطبيعي أن تدفع رواتب موظفيها وتغطي ضرائبها وغيرها، لكن مشكلتي الحقيقية هي مع الجشع!

Enshittification - التردي 

ابتكر الكاتب كوري دوكتورو، صاحب كتاب "رأسمالية نقاط الاختناق" (Chokepoint Capitalism)، مصطلح Enshittification الذي ظهر في السنوات الأخيرة على الإنترنت، ويصفه كما يلي: 

تبدأ المنصات بخدمة مستخدميها بإخلاص، ثم تتجه لاستغلالهم إرضاءً لعملائها من الشركات، وأخيًرا تنقلب على عملائها من الشركات لتجني كل الأرباح وحدها. وبعد ذلك، تندثر. أسمي هذه العملية "Enshittification".

لنأخذ فيسبوك مثالًا، في بداياته كان يركز على المحتوى من عائلتك وأصدقائك حيث كان هدف المنصة الأساسي هو توصيل العالم ببعض، ومع مرور الوقت أصبحت لا تكاد ترى منشورات أصدقائك أو الصفحات التي تتابعها أثناء التصفح.

حتى أنك أصبحت ترى إعلانات داخل ملفات أصدقائك الشخصية، ولا سبيل لإيقافها أو حتى التحكم فيما يظهر. 

صفحة التسجيل القديمة في فيسبوك مع ذكر شعار الشركة، يساعدك فيسبوك على التواصل والتعرف على التشارك مع الاشخاص في حياتك
صفحة التسجيل القديمة في فيسبوك 

وكذلك يوتيوب، أكبر منصة لنشر الفيديوهات ومشاركتها على وجه الكرة الأرضية، تدر عشرات المليارات سنويًا وتقسمها بنسبة 55-45 مع صانعي المحتوى، يعني يفترض أن هذا أكثر من كافٍ للشركة. 

ورغم ذلك، تزداد الإعلانات على المنصة وتصبح غير قابلة للتخطي، إذ عليك مشاهدة إعلانين قبل أي فيديو، وآخر بعد نهايته، فضلًا عن الإعلانات المتناثرة في كل مكان. لقد تجاوز الأمر مجرد تغطية النفقات وتحقيق هامش ربح، ليتحول إلى جشعٍ وطمعٍ صريحين، ولمَ لا؟ فلا يوجد لهم منافس حقيقي يُذكر!

صورة توضح الإعلانات الكثيرة في يوتيوب، المصدر Waffelbytes
صورة توضح الإعلانات الكثيرة في يوتيوب، المصدر Waffelbytes

وأمازون، التي أصبحت تعرض الكثير من المنتجات الممولة في أعلى نتائج البحث التي يتسابق البائعون لدفع أكبر ثمن لأمازون مقابل وضع منتجهم بالأعلى.

هذا دون الحديث عن Amazon Basics، ببساطة هي منتجات من أمازون عادةً تكون نسخة من منتج مشهور آخر، ولكن أمازون لن تدفع لنفسها الضرائب الباهظة التي يدفعها البائعون وبهذا تبيعه بسعر أقل، ولأنها تمتلك المنصة دائما ما تفضل منتجاتها على الغير. 

وعلى هذا المنوال تجد الكثير من الشركات، بمجرد أن تضمن أن الناس سيشترون لا محالة، وأن البائعين أو المعلنين سيأتون لها لا محالة، تستطيع رفع الأسعار والتحكم في المنصة كما تشاء. 

منتجات أمازون بيزكس، المصدر: أمازون
المصدر: أمازون

لنجلب تلك الشركات للمحكمة!

قد يقول قائل: إن بعض الهيئات الأوروبية والأمريكية ترفع قضايا احتكار وما شابه على هذه الشركات لإجبارهم على المنافسة بشكل عادل ووضع المستخدم في المقام الأول.

وجوابي: نعم صحيح، لكن عادة ما تأخذ هذه القضايا سنوات طويلة في المحاكم وتنتهي بغرامة "بسيطة"، بضع مئات ملايين من الدولارات وفقط، ليس أمرًا يؤرق الشركة لذلك الحد. 
وقد شهدنا مؤخرًا قضية وزارة العدل الأمريكية ضد جوجل التي كادت أن تجبر جوجل على بيع كروم لجهة خارجية عقوبة لها لاحتكار سوق البحث، ولكن في النهاية كان حكم القاضي أن الشركة لا تمارس احتكارًا وأن الذكاء الاصطناعي التوليدي غير من المشهد بقدر كبير.

متصفح جوجل كروم، المصدر BOOLMBERG NEWS
متصفح جوجل كروم، المصدر BOOLMBERG NEWS

وهذا أقرب ما حصلنا عليه كعقوبة لشركة تقنية كبيرة على ممارستها الاحتكارية، ولنفرض جدلًا أنها تمت فعلًا، فلن تطبق سوى في الولايات المتحدة. 

الأمر ليس بذاك البؤس أيضًا، فلولا قوانين الاتحاد الأوروبي لما أٌجبرت آبل على تحويل منفذ شحن الآيفون إلى تايب سي في آيفون 15، ولكن لا تزال جهود وقوانين الاتحاد الأوروبي غير كافية على الإطلاق. 

آيفون 15 بمنفذ شحن تايب سي، المصدر:  آبل
آيفون 15 بمنفذ شحن تايب سي - المصدر: آبل

جميع ما سبق بافتراض حسن النية في المقام الأول، أن هدف التقنية الأول مساعدة الناس وتحسين حياتهم.

التقنية تقتل؟

ولكن، إذا نظرنا في تاريخ تطوير كثير من التقنيات سنجد أن السبب الأساسي لتطويرها آنذاك سببًا عسكريًا محضًا، دون مجرد التفكير في تحسين حياة الناس وكل هذه الأهداف النبيلة. 

وأبرز الأمثلة هو الإنترنت الذي بدأ كمشروع تابع لوكالة ARPA (وكالة أبحاث المشاريع المتطورة) في 1958 لرفع مستوى البحث العلمي في الولايات المتحدة ومنافسة السوفييت الذين امتلكوا اختراعات قوية حينها. 

رسم توضيحي يوضح مدى انتشار شبكة أربانت في سبتمبر 1974، المصدر britannica
رسم توضيحي يوضح مدى انتشار شبكة أربانت في سبتمبر 1974- المصدر Britannica

ونشأ الإنترنت في بداياته تحت مسمى ARPANET، وتطور لاحقًا ليصل لنصف سكان الكرة الأرضية تقريبًا.

حتى الذكاء الاصطناعي الذي تتغنى به كل الشركات حاليًا، يستخدم بالفعل لقتل البشر في غزة! وانظر هنا وهنا وهنا أيضًا لتعرف كيف!

وقدمت الولايات المتحدة مشروع STARGATE الذي يهدف لإعطاء الولايات المتحدة الأفضلية على الكوكب كله في مجال الذكاء الاصطناعي.

وهناك عدة تصريحات مشابهة من مسؤولين غربيين تدور في فلك هذا المعنى، كهذا التصريح من بيتر كايل، وزير الدولة الأسبق للعلوم في المملكة المتحدة، يقول: "إن سباق الذكاء الاصطناعي يجب أن تقوده البلدان الغربية والليبرالية والديمقراطية". 

ولدينا ترامب نفسه الذي قال: "أمريكا هي الدولة التي بدأت سباق الذكاء الاصطناعي. وكرئيس للولايات المتحدة، أنا هنا اليوم لأعلن أن أمريكا ستفوز به؛ سنعمل بجد، وسنفوز به. لأننا لن نسمح لأي دولة أجنبية أن تهزمنا." 

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلقي كلمة حول البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وبجواره المؤسس المشارك لشركة أوراكل لاري إليسون، والرئيس التنفيذي لسوفت بنك ماسايوشي سون، والرئيس التنفيذي لـ OpenAI سام ألتمان، المصدر: رويترز
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلقي كلمة حول البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وبجواره المؤسس المشارك لشركة أوراكل لاري إليسون، والرئيس التنفيذي لسوفت بنك ماسايوشي سون، والرئيس التنفيذي لـ OpenAI سام ألتمان، المصدر: رويترز

في الوقت نفسه تجد هذه الشركات تقول لك إن تطوير الذكاء الاصطناعي أو التقنية الفلانية سيساهم في علاج المرض الفلاني ومساعدة المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة. رائع، ممتاز، ولكن يا سيدي كم طفلًا مات بسببكم بشكل غير مباشر! كيف تدعون الفضيلة بهذا الشكل المقيت! 

جانب آخر هو البيئة، من يهتم لحياة الإنسان وبطبيعة الحال بحياة النبات والحيوان، ولكن مرة أخرى تجد أن كل شعارات الحفاظ على البيئة وتقليل الانبعاث الكربوني تسقط سقوطًا مدويًا فور ظهور ما يدر المليارات. 

فالذكاء الاصطناعي - لو لم تكن تعلم - من أكبر ما يلوث البيئة إن صح التعبير. إن شركات الذكاء الاصطناعي تستهلك كما مهولًا من الكهرباء والماء لتشغيل مراكز البيانات التي توفر ذلك، وهنا نعود ونفكر، هل المميزات هذه تستحق الإضرار بالبيئة بهذا الشكل؟ ولماذا لا يكون الاهتمام بالبيئة منذ اليوم الأول وليس بعد وقوع الضرر؟ أم أن شعارات الحفاظ على البيئة بلا معنى؟ 

مشاعرك؟ لا قيمة لها لدى الشركات!

كلنا نعلم أن مشاركة أسراراك والحديث مع الذكاء الاصطناعي في مشاكلك وحياتك الشخصية خطر للغاية. وقد رأينا انتحار مراهق بسبب حديثه مع ذكاء اصطناعي يتقمص شخصيته، إذن هذا شيء سيء، لا يجب علينا كشركات جيدة تهتم بالبشر أن نفعل ذلك!

ولكن تجد مثلا xai تضيف في بوت جروك زوجة أنمي افتراضية للحديث معها ومغازلتها، وهي تغازلك ولا ترى غيرك في هذه الحياة، وهذه الشريكة الافتراضية متاحة لأي أحد بكل سهولة من داخل التطبيق!

أني الشريكة الافتراضية في تطبيق Grok للذكاء الاصطناعي، المصدر: عرب هاردوير
آني الشريكة الافتراضية

لماذا إذن؟ أليست تلك الشريكة الافتراضية ستسبب مشكلات وربما أمراض نفسية لبعض الناس؟ ألا توجد قيمة لهؤلاء الناس؟

أقل ضرر سيكون تشويه التفكير وتصورات الشخص عن شريك حياته المستقبلي الحقيقي! فلماذا إذًا تدفع الشركة بهذه الميزة بكل هذه القوة إلى الناس، رغم أنها مضرة؟

ميتا أيضًا لديها شيء مشابه دمجته حاليًا في واتساب وفيسبوك، عبارة عن شخصيات خيالية تتحدث معها، ومن باب الفضول أردت تجربة الميزة ووجدت أن أكثر الشخصيات استخدامًا من الناس كانوا فتيات افتراضيات من جنسيات مختلفة مثل الهندية والإندونيسية وغيرها!

رفقاء الذكاء الاصطناعي الافتراضيين من meta ai المصدر عرب هاردوير

أرى هذه الميزة ومن يدفعها شريرًا بكل صراحة، خصوصًا مع سهولة وصول الأطفال لها، قد يقول قائل: إذا كان كل همك هو الأطفال الذين لا يفترض بهم الوصول لأشياء مثل هذه، لا مشكلة، سنفعّل نظام تحقق من العمر وإذا تأكدنا أن الشخص بالغ نقول له تفضل.

وهنا تظهر عدة مشكلات، الأولى أن أنظمة التحقق من العمر هذه تُخدع بسهولة بالغة، ولا شيء يجبر الشركة على فعلها سوى القضايا والقانون الممل الرتيب البطيء.

ثانيًا أنت بهذا القول لا مانع لديك من تقديم شيء ضار للبشر طالما أن الشخص كبير ويتحمل مسؤولية نفسه، نعم صحيح كل واحد مسؤول عن نفسه ولكن أنت أيضًا مسؤول عما تقدمه للناس وتعلم يقينًا أنه على الأرجح يضرهم!

لا تضع هذه الشركات والعالم الذي نعيش فيه الأنسان في المرتبة الأولى ولا يعيره اهتمامًا، عالم ممسوخ من كثير من معاني الإنسانية. إنه عالم منافق يزعم أنه يساعد الدلافين البحرية التي على وشك الانقراض بتقنيات متطورة مبهرة فعلًا وفي الوقت نفسه يسخرها لقتل الأبرياء.

ما فائدة التقنية مع كل هذا الظلم في العالم؟ ما فائدة كل هذا إذا كنا لا نستطيع حماية طفل برئ من الموت أو الجوع أو القصف؟ ما فائدة كل هذه التطورات الهائلة والملايين يتضورون جوعًا وفقرًا؟ ما فائدة التقنية حين تضع الموظفين في المصانع في ظروف غير آدمية؟ ما فائدة التقنية والتطور حين تستخدم عمالة الأطفال الفقراء وتستغلهم؟
هل نعد هذا تطورًا للبشرية؟ هل هذا ما نطمح له؟

ماذا نفعل؟

الآن، وبعد كل هذه الثرثرة، قد تقول في نفسك كلام جميل ورائع ولكن ماذا أفعل؟

حسنًا، يمكنك محاربة النار بالنار! حاول قدر الإمكان استبدال تقنيات الشركات الكبرى بتقنيات حرة مفتوحة المصدر، وربما تكون تلك التقنيات مفتوحة المصدر أفضل جودة من الأخرى. 

بالطبع، سيأخذ منك الموضوع وقتًا وجهدًا ولن تستطيع التخلي عنهم تمامًا، ولكن قد يستحق الأمر العناء.

هذا من الجانب العملي، وهناك جانب آخر، عندما ترى تقنية جديدة، فكّر فيها من الجانبين: ما الخير الذي قد تجلبه، وما الضرر الذي قد تُسببه. 

كلمة أخيرة...

أعلم أن هذه الخربشات الافتراضية على لوحة مفاتيحي لن تغير شيئًا، ولكن هي مساحة للتنفيس عما يجول في ذهني، صرخة في وسط جنون الأخبار والتطورات المتلاحقة، ولمشاركة هذا الاستياء الذي ربما، فقط ربما، قد يقود لتغيير حقيقي بعد سنوات عديدة...

وكما قال الشاعر محمود درويش...

أثر الفراشة لا يرى
 أثر الفراشة لا يزول