هل تخيلت يومًا عزيزي القارئ أن يتمكن أحد من اختراق عقلك وقراءة أفكارك؟ يبدو الأمر دربًا من دروب الخيال، فحينما شاهدنا فيلم Inception، ورأينا كيف يغوص البطل في طبقات الأحلام ليزرع فكرة صغيرة داخل عقل شخص ما دون أن يدرك ذلك، كانت الفكرة حينها مجرد خيال سينمائي بحت.

لكن اليوم، لم تعد تلك الفرضية مستحيلة، فالتقنيات الحديثة بدأت تفعل الشيء ذاته، لكن بوسائل أكثر هدوءًا وواقعية. وخلف هذا البريق، بدأت تتشكل مرحلة جديدة من التسويق تحاول زرع رغباتك بداخلك قبل أن تنتبه أنت لها.

دعنا نُبحر معًا في هذا المقال، نستكشف كيف وصلت التكنولوجيا إلى قراءة الموجات الدماغية، وكيف تُستخدم هذه البيانات لتشكيل قراراتنا الشرائية، وما الذي يعنيه ذلك لمستقبل الخصوصية.

أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
صورة من فيلم Inception ومحاولة زرع الأفكار داخل الدماغ - المصدر: mind u read

عصر قراءة الدماغ

بدأت فكرة ربط الدماغ بالحاسوب كحلم علمي في المختبرات الطبية، يهدف إلى مساعدة المرضى على استعادة قدراتهم الحركية أو التواصل مع العالم الخارجي. عُرفت هذه التقنية باسم واجهات الدماغ والحاسوب (Brain-Computer Interface)، وتعتمد على قراءة الإشارات الكهربائية التي ينتجها الدماغ وتحويلها إلى أوامر رقمية يمكن للآلة فهمها وتنفيذها.

ولعل أبرز الأمثلة على ذلك مشروع Neuralink الذي أسسه إيلون ماسك، حيث يعمل على تطوير شرائح تُزرع في الدماغ لتمكين الإنسان من التحكم في الأجهزة بمجرد التفكير، بل وفتح الباب أمام تفاعل مباشر بين الوعي البشري والأنظمة الذكية.

صورة توضيحية لفكرة مشروع neuralink - المصدر: Firstpost

كانت البداية إنسانية في جوهرها؛ إذ استخدمها العلماء لتمكين المصابين بالشلل من تحريك أطراف صناعية أو الكتابة بمجرد التفكير. لكن بمرور الوقت، تطورت الأبحاث وخرجت من حدود الطب نحو فضاء الاستخدامات اليومية. فالشركات التقنية الكبرى بدأت ترى في هذه الإشارات العصبية كنزًا جديدًا من البيانات يمكن أن يكشف بدقة عن الانتباه والمشاعر والرغبات، وهي معلومات لم تكن متاحة من قبل بهذه الدقة والسرعة.

اليوم، نرى بوادر هذا التحول في منتجات استهلاكية تحمل في طياتها أدوات قراءة دماغية دقيقة. فهناك سماعات EEG (وهي اختصار لكلمة Electroencephalogram - أو تخطيط كهربية الدماغ) التي تلتقط الموجات الكهربائية من فروة الرأس لتتعرف على درجة تركيز المستخدم أو توتره. وهناك نظارات الواقع المعزز التي تتبع حركة العين لقياس مدى اهتمام الشخص بالإعلانات أو العناصر البصرية من حوله. حتى بعض الأجهزة القابلة للارتداء بدأت تستخدم خوارزميات لتحليل الموجات الدماغية البسيطة وتوقع الحالة المزاجية أو مستوى النشاط الذهني.

بهذا الانتقال السلس، تحوّلت التقنية من وسيلةٍ علاجيةٍ نبيلةٍ إلى أداةٍ تجاريةٍ بالغة الدقّة، تتوغّل في عقولنا لتعرف ما الذي يجذبنا، وما الذي ينفّرنا. ومع كل خطوةٍ جديدةٍ في هذا المجال، تتلاشى الحدود شيئًا فشيئًا بين ما هو طبيٌّ وما هو تسويقي، وبين ما هو إنسانيٌّ وما هو ربحي.

أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
صورة توضيحية لكيفية قراءة الحاسوب للموجات الدماغية - المصدر: nature

الوجه الخفي للأجهزة الذكية

ما قد يبدو لك جهازًا بسيطًا لتحسين التركيز أو تتبع الصحة النفسية، قد يكون في داخله «عين خفية» تراقب إشاراتك العصبية دون أن تدرِي. فالأجهزة التي تجمع بيانات عصبية في الظل بدأت تنتشر بالفعل، وتُستخدم لتغذية أنظمة الإعلان والمبيعات بمعلومات دقيقة عنك. ومنها ما يلي:

سماعات الرأس الذكية
  • على سبيل المثال، هناك سماعات مزودة بتقنيات EEG قادرة على قراءة موجات دماغك لتحديد ما إذا كنت في حالة تركيز أم تشويش. مثل جهاز EMOTIV Insight الذي يُعد سماعة EEG استهلاكية بخمسة قنوات، يُمكنه قياس نشاط الدماغ كما يقدم مؤشرات تدل على مستوى التركيز أو التعب.
أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
جهاز EMOTIV Insight - المصدر: fast company
  • كذلك، جهاز Muse، وهو رباط رأسي (headband) يستعمل أربعة مستشعرات EEG لقياس نشاط الدماغ، ويقدم تغذية راجعة للمستخدم حول مستوى التركيز أو الاسترخاء.
أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
جهاز muse - المصدر: muse headband
نظارات الواقع المعزز
  • لم تعد فكرة النظارات التي تراقب ما تنظر إليه خيالًا بحتًا.، فقد طورت شركة Emteq Labs نظارات ذكية مزودة بكاميرات داخلية ترصد تعابير الوجه وحركة الحاجبين والفم لتستنتج الحالة العاطفية للمستخدم.
  • كما طور باحثون نظارات تقيس إشارات متعددة من الوجه (مثل تغيُّر التعرُّق أو العضلات) مع كاميرات محلية لالتقاط التعبير العاطفي، بغرض التعرف على المشاعر في الوقت الفعلي.
أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
نظارات Emteq Labs- المصدر: expert market research
  • وفي مجال تتبع العين (eye tracking)، توجد نظارات بحثية مثل Tobii Pro Glasses 3 تُستخدم لجمع بيانات تحديد النقطة التي ينظر إليها المستخدم في البيئة الحقيقية، من داخل المتاجر أو الشوارع، ثم تُدمج هذه البيانات مع بيانات أخرى من أجهزة EEG لتكوين صورة مرتفعة الدقة عن أين يوجه انتباهه فعلًا. ولكن حتى الآن، لا تتوافر هذه النظارات إلا للاستخدام البحثي المتخصص فقط، إذ تُباع للمختبرات ومراكز الدراسات السلوكية، ولم تُعلن الشركة عن نية لطرح نسخة موجهة للجمهور العام في المستقبل القريب.

جديرٌ بالذكر أن هذه الأجهزة المتقدمة لا تتوافر بشكل رسمي في الأسواق العربية؛ إذ تُطرح في الغالب للاستخدام البحثي أو من خلال مواقع الشركات الأم في الخارج. لذا، من يرغب في اقتنائها سيحتاج إلى استيرادها من الخارج عبر المتاجر العالمية، مع الأخذ في الاعتبار أن السعر النهائي مؤهل للارتفاع بسبب تكاليف الشحن والضرائب ورسوم الاستيراد الإضافية.

أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
نظارات Tobii Pro Glasses 3 - المصدر: Tobii
تطبيقات الصحة النفسية

تزعم بعض التطبيقات أنها تراقب الحالة النفسية للشخص عبر تحليل الموجات الدماغية الصادرة عنه أو تعابير الوجه. على سبيل المثال، شركات تحليلات التعابير غير اللفظية مثل Affectiva التي استحوذت عليها SmartEye لاحقًا، طورت خوارزميات تعتمد على تحليل الوجه والصوت لتحديد العواطف، التي تُستخدم في تحليل إعلانات الفيديو لمعرفة كيف يتفاعل الجمهور معها.

أيضًا في أبحاث neuromarketing، يُستخدم تتبع العين وتحليل التعبير العاطفي كأساس لتحديد أي أجزاء من الإعلان تجذب الانتباه، وأي مشاعر يثيرها الفيديو، دون الحاجة لسؤال المستخدم مباشرة.

من البيانات إلى الإعلانات الموجهة

عندما تلتقط الأجهزة إشارات دماغية أو عصبية من المستخدم، تبدأ مرحلة التحليل. فهذه الموجات تمر عبر خوارزميات متقدمة للذكاء الاصطناعي تترجمها إلى مؤشرات تسويقية قابلة للاستخدام. من هنا وُلد مفهوم الإعلانات العصبية (Neuromarketing)، وهو مزيج من علوم الأعصاب وعلم النفس التسويقي. تقوم فكرته على دراسة النشاط الدماغي والانفعالات الجسدية أثناء مشاهدة الإعلانات، لمعرفة ما الذي يجذب الإنسان فعلًا، وما الذي يمر عليه بلا انتباه.

وقد باتت شركات مثل Affectiva وNeuro-Insight وImmersion تقدم خدمات تحليل عصبي للمحتوى الإعلاني، حيث يُعرض الإعلان على مجموعة من الأشخاص وهم يرتدون أجهزة EEG أو نظارات تتبع العين. بعدها يتم تحليل البيانات لتحديد اللحظات التي تثير المشاعر أو اللحظات التي يفقد فيها المشاهد تركيزه. تُستخدم هذه اللحظات لتعديل المشهد أو النص أو الموسيقى بحيث يحقق الإعلان أقصى استجابة ممكنة.

في هذا المستوى من الدقة، يصبح الدماغ ذاته منصة تفاعل، تُقاس فيه الاستجابات العصبية، ويُحدَّد فيه النجاح بدرجة التأثير على اللاوعي.

أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
صورة توضيحية لقراءة الحاسوب للموجات الدماغية - المصدر: arctop

الشركات التي تقرأ الدماغ بالفعل

لم تعد فكرة الإعلانات التي تستند إلى نشاط الدماغ محض خيال علمي، فهناك شركات عملاقة ومراكز أبحاث تسويقية قد بدأت تطبيقها بالفعل.

  • ومن أبرز هذه الشركات NeuroFocus التابعة لمجموعة Nielsen، التي تُعد من أوائل الجهات التي استخدمت تخطيط الدماغ الكهربائي EEG وتتبع العين لتحليل استجابة المشاهدين للإعلانات التلفزيونية ومحتوى العلامات التجارية.
  • أما شركة NeuroSky فقد أدخلت تقنية EEG إلى السوق الاستهلاكية بصورة مبسطة، لتتيح تتبع إشارات الدماغ في الألعاب والتعليم وحتى تجارب المستخدمين مع المحتوى الرقمي.
  • وفي المقابل، تعتمد شركات مثل Entropik على مزيج من تتبع العين وتحليل تعابير الوجه والاستجابات العصبية، بهدف كشف المشاعر الحقيقية التي يثيرها الإعلان أو التصميم لدى المستهلك.
  • وتدخل بعض العلامات التجارية الكبرى مثل كوكاكولا في هذا المجال أيضًا، إذ استخدمت أدوات تتبع العين والتحليل العصبي لتقييم تأثير ألوان التغليف وإعلاناتها المصورة على العاطفة والانتباه.
  • كما أشارت تقارير من شركة Neurons Inc إلى أن Meta - الشركة الأم لفيسبوك وإنستجرام - قد أجرت تجارب تستخدم تخطيط الدماغ الكهربائي وتقنيات تحليل الوجه، ضمن أبحاثها التسويقية المتعلقة بالواقع الافتراضي والإعلانات التفاعلية، بهدف فهم أعمق لما يثير اهتمام المستخدم داخل بيئاتها الرقمية.
  • اقرأ أيضًا: فيس بوك تطور تقنية لقراءة الأفكار والكتابة عبر تحليل نشاط الدماغ
أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
صورة توضيحية لعالم ميتا الافتراضي ميتافيرس - المصدر: The New Yorker

الذكاء الاصطناعي والجيل القادم من التسويق

في قلب هذا التحول التسويقي العميق، يقف الذكاء الاصطناعي كالعقل المدبر الذي يُحول إشارات الدماغ الخام إلى تنبؤات دقيقة حول العواطف والنية الشرائية. بدمج تقنيات مثل التعلم العميق (Deep Learning) مع إشارات EEG والبيانات البيومترية الأخرى، يمكن للنماذج التنبؤية التمييز بين مشاعر مثل الإثارة والملل أو التوتر والارتياح، دون أن يشعر المستخدم نفسه بذلك.

تُظهر أبحاث من جامعة كورنيل الأمريكية كيف يمكن لنموذج ذكاء اصطناعي أن يعالج إشارات EEG لفترة ممتدة، متتبعًا التغيرات العاطفية المتتالية لدى الشخص. وبالنظر إلى المستقبل، فإن التوجه الواضح هو نحو إعلانات تتكيف مع مزاجك لحظة بلحظة. يمكن أن ترى هذا في أبحاث تُجرى الآن حول أجهزة قابلة للارتداء تجمع إشارات الدماغ باستمرار، وتُرسلها إلى خادم ذكي يحللها فورًا ويحدد أي إعلان أو صورة أو نص تُعرض لك في اللحظة التالية.

أبرز المنتجات التي تقرأ موجاتك الدماغية دون أن تعلم لتحسين الإعلانات
صورة توضيحية لتداخل الذكاء الاصطناعي مع واجهات الدماغ والحاسوب - المصدر: Cell Press

ما بعد الوعي الرقمي

ربما لم يعد السؤال اليوم عن مدى ذكاء التقنية، وإنما عن مدى قدرتنا على الاحتفاظ بحدودنا داخل عالم أصبح كل شيء فيه متاح. فإذا كانت الأجهزة الذكية قد بدأت تتابع خطواتنا وأنفاسنا ونبضات قلوبنا، فإن الجيل الجديد منها سيتوغل أعمق... إلى داخل عقولنا. هل نقترب من لحظة تصبح فيها الأجهزة قادرة على معرفة ما يدور في الدماغ وقراءة أفكارنا قبل أن ننطقها؟ وهل يمكن أن نصل إلى زمن لا نملك فيه حتى أسرارنا الخاصة؟

إن ما يبدو تقدمًا مبهرًا في مجال الراحة والتخصيص قد يحمل في طياته ثمنًا خفيًا وهو الخصوصية، ذلك الحاجز الأخير بين الإنسان والعالم الرقمي. من هنا تأتي الحاجة إلى وعي جديد، لا يكتفي بفهم كيفية استخدام الأجهزة؛ وإنما يُدرك أيضًا ما الذي تفعله بنا في المقابل. فكل نقرة، وكل تفاعل، وكل نبضة دماغية تُسجلها هي خطوة نحو عصر جديد، تمتزج فيه حرية الاختيار بخوارزميات تعرف عنا ما لم نعد نحن نعرفه عن أنفسنا.