داخل مقهى غير مزدحم تراه جالسًا يقلب تارة في هاتفه بحثًا عن شيء غير معلوم، وتارة أخرى يقلب مشروبه الساخن الموضوع أمامه، يتلقى مكالمة هاتفية، يبدو أنها لم تكن مكالمة مرحب بها على الإطلاق، حتى أن حاجبيه من شدة الإزعاج كادا أن يتلماسا ليصيرا خطًا عريضًا متصلًا داكن السواد، لكنهما عادا إلى مكانهما بمجرد ان أخذ رشفة سريعة من المشروب الساخن.

بعد عدة أيام تتضح حيثيات المكالمة، علبة شوكولاتة وباقة ورد متوسطة الحجم، وأجواء متوترة، المادة الخام والأساسية لزيارة عائلية من أجل زواج مرتب، بأصابع متوترة يرتشف رشفتين من فنجان قهوة صغير، يتبعه برشفة ماء، الأنظار كلها مسلطة عليه، وكأنه أول إنسان يستخدم غدده اللعابية، يبدأ والده بالكلام موضحًا أسباب الزيارة السعيدة، مرفقًا كلامه ببعض الابتسامات المتشنجة التي يوزعها على الحضور دون تركيز، تجلس هي في الزاوية لا ترغب في شيء غير المغادرة، وتفكر بصوت منخفض أن قطتها الصغيرة حظت ببعض الخصوصية والاحترام عندما قابلت "سيمبا" لأول مرة، حتى أنها تركت لهما غرفتها بالكامل ونامت على أريكة غير مريحة لمدة يومين متتاليين.

قاطع تفكيرها والد الشاب الذي سألها سؤالًا سمعته لكنها لم تدركه، وكأنها لا تتحدث نفس اللغة التي يتكلمون بها، على أي حال انتهت الزيارة مثل غيرها، وتنفس الجميع الصعداء.

قالت لي بحنق كيف لي أن أبت القول في قرار ليس لدي أية معلومات عنه، ليست لدي الخبرة الكافية لمعرفة المناسب لي! بالتأكيد لديها كل الحق، كيف تعطي نتائج في معادلة تجهل معطياتها، ماذا لو كان بإمكاننا تجربة القرارات الحياتية المصيرية في نموذج مصغر يساعدنا على اكتشاف مدى تقبلنا للأمر من عدمه!

واكتشاف أنفسنا واحتياجاتها فعلًا بلا أية ضغوطات خارجية، ودون الاعتماد على الـ "ريد فلاجز" والـ "جرين فلاجز"، دون الحاجة إلى جروبات فيسبوك لتقول لنا وصفة العلاقة الصحية! حينها لن نطّلع على المسلسلات الدرامية التي تعرض لنا قصصًا مأساوية عن العلاقات، التي بدلًا من أن تعلمنا حكمة ما، تجعلنا في حالة تأهب مستمر، ماذا لو كان بإماكاننا معايشة الأمور وكأنها حقيقة!

التطور التكنولوجي سريع ومباغت!

عالم الميتافيرس

التطورات التكنولوجية سريعة ومبغاتة، لا يتوقعها أحد. ومع ذلك كان من السهل التوقع ملامح الحياة منذ عام 1945 ولكن لم يتخيل كيفية التأقلم مع الاختراعات الحديثة والتكنولجيا المتطورة، حيث بدأ الأمر باختراع فانيفار بوش ما أسماه "Memex"، وهو جهاز واحد يخزن جميع الكتب والسجلات والاتصالات ويربطها معًا فيما يعرف بالـ hyper link. تم استخدام هذا المفهوم بعد ذلك لصياغة فكرة "النص التشعبي" بعد عقدين من الزمان، الذي بدوره أدى إلى تطوير شبكة الويب العالمية، بعد عقدين آخرين.

ومن ثم بدأت "حروب البث" وتم عرض الفيديو الأول منذ أكثر من 25 عامًا، ومعه تم وضع سمات تقريبية لما سوف تكون عليه تلك الحروب، محتوى متجدد لا نهائي متعدد المصادر، والتشغيل عند الطلب، والتفاعل، والإعلانات المخصصة، وقيمة تقارب المحتوى مع التوزيع، على الرغم من كل ذلك بمجرد أن أطلقت Netflix خدمة البث المباشر، عرف الكثير من هوليوود أن مستقبل التلفزيون سوف يكون عبر الإنترنت.

كان التحدي يتمثل في التوقيت وكيفية تجميع مثل هذه الخدمة، استغرق الأمر 10 سنوات أخرى لهوليوود لقبول جمع قنواتها ومحتواها وتصغيره في تطبيق واحد وتحت علامة تجارية واحدة.

وبنفس المنطق تخيل العديد من التقنيين نوعًا ما من "الكمبيوتر الشخصي"، كانت سماته وتوقيت عرضه غير متوقع لدرجة أن مايكروسوفت سيطرت على عصر الكمبيوتر الشخصي الذي بدأ في التسعينيات بدلاً من شركة IBM المركزية المسيطرة حينها، وعلى الرغم من أن  مايكروسوفت توقعت أننا فس عصر الهاتف المحمول بوضوح، إلا أنها أخطأت في قراءة دور نظام التشغيل والأجهزة، ومن ثم ظهور Android و iOS عالميًا، أي أن أولويات ستيف جوبز للحوسبة دائمًا "صحيحة"، وكانت مبكرة جدًا، لكنها ركزت على الجهاز الخطأ.

وذلك يأخذنا إلى بدايات المراسلة الفورية والبريد الإلكتروني، التي لم تشبع ما أشبعته الشبكات الاجتماعية، وكانت جميع المتطلبات الأساسية لإنشاء Facebook موجودة قبل عام 2000، لكن Facebook لم يظهر حتى عام 2005 على الرغم من ذلك.

منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، تخيل العديد من العاملين في مجتمع التكنولوجيا حالة مستقبلية للإنترنت، باعتبراها التطور الطبيعي لما نحن عليه، مجتمع "ميتافيرس" الذي سيكون بمثابة الثورة التكنولوجية الثالثة، ليس فقط في طبقة البنية التحتية للعالم الرقمي، ولكن أيضًا في جميع الخدمات والمنصات الموجودة فوقها، وكيفية عملها، سوف تحدد يقاء البعض وانتهاء البعض الأخر.

عشرات المليارات التي سيتم إنفاقها على الألعاب السحابية خلال العقد القادم أيضًا، تستند إلى الاعتقاد بأن مثل هذه التقنيات ستدعم مستقبلنا الافتراضي عبر الإنترنت وغير المتصل بالإنترنت. أصبح مصطلح Metaverse أحدث هدف كلي للعديد من عمالقة التكنولوجيا في العالم. كما أوضحت في فبراير 2019، هذا هو الهدف الصريح لشركة Epic Games، صانع محرك Unreal Engine ولعبة Fortnite.

وهي أيضًا الدافع وراء شراء فيسبوك للعلامة التجارية Oculus VR و Horizon Virtual World، مساحة الاجتماعات التي تم الإعلان عنها حديثًا، من بين العديد من المشاريع الأخرى، مثل نظارات الواقع المعزز وواجهات التواصل بين الدماغ والآلة.

هل يكون الزواج في المستقبل عبر الـ "ميتافيرس"؟

هل تتذكر فيلم The Matrix أو حلقة الواقع الافتراضي  Striking Viper من المسلسل الشهير Black Mirror، عالم كامل له قواعده، يمكنك عقد مؤتمر تخيلي بحضور الجميع، أو زيارة أحد المعالم الأثرية، وربما مقابلة شريك حياتك وقضاء يوم بأكمله وكل منكما في جزء مختلف من العالم، ربما يصعب ذلك على الأجيال التي تعودت اللقاءات الحقيقية التي تفضل المكالمة الحقيقة على  Voice Note والرسائل، لكن بالنسبة إلى أجيال "روبلوكس" و"فورت نايت"، ذلك هو المستقبل!

بالعودة إلى السؤال الأول ماذا لو تمكنا من معايشة القرارات المصيرية قبل اتخاذها؟

مسألة الزواج في الوطن العربي مسألة صعبة، خاصة أنها تقوم على التكهنات والافتراضات وآراء المحيطين، لكن في وجود عالم الـ "ميتافيرس"، يمكنك استنباط الكثير عن حياة شريك حياتك المحتمل، يمكن أن تعيشا معًا في بيت واحد كمرحلة أولوية واختبار الأمور فيما بينكما ثم الانتقال إلى المرحلة التالية، وهكذا تبدأ الخطوات على معطيات حقيقية مجربة، على سبيل المثال انفصلت إحدى الصديقات عن زوجها لأنه مريض بالترتيب، وعلى النقيض انفصل أخر عن زوجته لأنها على حد قوله "رتمها بارد"، وغيرها من المشكلات التي لا تظهر إلا بالمعايشة اليومية للأشخاص.

بالتأكيد لن ننتقل إلى حرمانية الفرض من عدمه ولكن أعتقد أن تفكك الأسر في وجود طفل، وانفصالهم في بداية الزواج أشد حرمانية من اختبار واقعي لقرار مصيري كالزواج، وعلى أي الأحوال هذه هي الافتراضات المستقبلية.

فيسبوك أعلن بالفعل أن فترة منصات التواصل الاجتماعي قد انتهت والآن ننتقل إلى مرحلة أخرى وهي الواقع الافتراضي، ومن المقرر الإعلان عن اسم فيسبوك الجديد الذي يدعم فكرة الـ "ميتافيرس"، فبدلًا من وجود الحسابات الشخصية صاحبة البعد الواحد سوف تتحول إلى حسابات ثلاثية الأبعاد، لكل مستخدم "أفاتار" خاص به يشكله كيفما شاء، شكل الجسد ولونه وطريقة ملبسه وحركته، حتى نوعه الذي يشعر به حقًا، يختار الأشياء التي يفضلها، ومنزله والأماكن التي يزورها، اليوم يزور حديقة شيبوداس النباتية في إندونسيا، وغدًا ربما يجرب سيارة تسلا الحديثة التي أعلن إيلون ماسك عن إتاحتها للتجربة، ربما يحضر مؤتمر جوجل، ونهاية اليوم يجتمع مع أصدقائه في منزل أحدهم.

لنفكر بشكل أوسع، هل الحكومات مستعدة للانخراط في عمل كهذا، المتاحف والأماكن العامة كالحدائق المكتبات وغيرها، هل في يوم من الأيام سوف تكون متاحة داخل الواقع الافتراضي؟

مكتبة الإسكندرية على سبيل المثال أو الأهرامات مجرد التخيل أن يتم الاستثمار بهم داخل الواقع الافتراضي، وأثرهما على الدخل القومي، المتحف الجديد بدلًا من الترويج له داخل الشاشات يعرض داخل الواقع الافتراضي، أو موكب نقل المومياوات الذي عطل حركة المرور، ماذا لو أن العرض كان افتراضيًا؟ بل أكثر من ذلك ماذا لو كنت أنت سائق أحد الشاحنات التي تنقل المومياوات؟ دعوات مختلفة بأسعار مختلف تحدد مدى مشاركتك داخل الحدث فالمشاهد العادي على جنبات الطريق غير سائق الشاحنة غير المشاركين في الاستعراض بالفعل.

المستقبل مُمتلِئ بالاحتمالات، من يعرف كيف سيغير هذا الـ "ميتافيرس" عالمنا؟ أم أنها مجرد فقرة دعائية، لا معنى لها، من فيسبوك؟ سنرى خلال بضعة سنوات!