فقاعة الذكاء الاصطناعي تنفجر | كيف صبغ اللون الأحمر بورصات العالم؟
في بدايات عصر الإنترنت، برز مفهوم العولمة بشكلٍ جلي، وشاع مصطلح "العالم أصبح قرية صغيرة" لوصف تأثيراتها المتعددة. لم تقتصر هذه العولمة على تلاشي المسافات بين البشر واندماج الثقافات فحسب، بل شملت الاقتصاد العالمي بشكلٍ عميق.
اليوم، نشهد كيف أن العولمة الاقتصادية جعلت العالم مترابطًا بشكلٍ غير مسبوق. فأصبح من الممكن أن يؤدي تأثر اقتصاد دولة واحدة إلى انعكاسات ملموسة على اقتصادات دول أخرى، وفي بعض الحالات، على الاقتصاد العالمي بأكمله. فالعولمة أصبحت مشاركة في تحديد ملامح الاقتصاد العالمي بشكلٍ مؤثر على حياة الأفراد والمجتمعات في مختلف أنحاء العالم.
يعود تاريخ البورصة إلى فترة ما قبل الثورة الصناعية؛ إذ نشأت أول بورصة في أمستردام عام 1602. لكن ما يميز بورصات اليوم عن سابقاتها، هو سرعة انتشار تأثير الأحداث العالمية في العالم أجمع بشكلٍ فوري بسبب التكنولوجيا والإنترنت. في عالم أصبحت الأسواق المالية أكثر تكاملًا وحساسية للتغيرات الاقتصادية العالمية؛ والذي أدى بدوره إلى زيادة الاستثمارات عبر الحدود وظهور شركات متعددة الجنسيات تتداول أسهمها عالميًا.
تحتل الولايات المتحدة مكانةً فريدةً في الاقتصاد العالمي؛ إذ تستحوذ على نحو 42% من سوق الأسهم العالمي وفقًا لإحصائيات 2023. ونظرًا لأن الولايات المتحدة تُعد أكبر اقتصاد في العالم بالإضافة إلى أهمية الدولار كعملة عالمية، فإن العالم بأسره يراقب عن كثب المؤشرات الاقتصادية الأمريكية. فالعوامل مثل النشاط الاستهلاكي وأرقام التوظيف ومعدلات البطالة في الولايات المتحدة يمكن أن تؤثر بشكلٍ كبير على ثقة المستثمرين العالميين وتوقعاتهم لنمو الاقتصاد العالمي.
يضم وول ستريت بنيويورك أسهم أكبر وأهم الشركات العالمية.
يتجلى هذا الترابط العالمي بوضوح في الأحداث الاقتصادية الأخيرة؛ إذ شهدت أسواق الأسهم العالمية عمليات بيع واسعة النطاق في أعقاب صدور تقرير يشير إلى ضعف نمو الوظائف في الولايات المتحدة يوم الجمعة بتاريخ 2 أغسطس. وتسبب هذا التقرير في مخاوف متعلقة باحتمالية حدوث تباطؤ مفاجئ في أكبر اقتصاد في العالم أو "ركود".
كانت النتيجة أشبه بتأثير الدومينو على المستوى العالمي. فما بدأ كخبر اقتصادي في الولايات المتحدة، سرعان ما تحول إلى موجة عاتية اجتاحت أسواق المال العالمية. من وول ستريت إلى طوكيو، ومن دبي والرياض إلى لندن وبورصات أوروبا، شهد العالم تراجعًا متزامنًا في أسواق الأسهم.
وفي غضون ساعات قليلة؛ تحول ما كان مجرد إحصائية محلية في الولايات المتحدة إلى قصة اقتصادية عالمية، مؤكدةً مرة أخرى على مدى ترابط اقتصادنا العالمي وحساسيته للتغيرات، حتى الطفيفة منها، في أي جزء من أجزائه. فما الذي يحدث في العالم؟
الراقص الرئيسي تعثر فتوقف الجميع عن الرقص!
من كان يتصور أن الذكاء الاصطناعي سيكون الشرارة الأولى لسلسلة من التحولات الاقتصادية المثيرة؟ لقد شهدنا خلال العامين الماضيين حُمى استثمارية غير مسبوقة في مجال الذكاء الاصطناعي، أشعلت سباقًا محمومًا بين المستثمرين للظفر بأسهم شركات التكنولوجيا الرائدة في هذا المجال.
فجأة، تحولت أنظار المستثمرين بشكل غير مسبوق نحو عمالقة التقنية مثل ميكروسوفت وجوجل وأمازون، وعلى رأسهم إنفيديا. ورغم أن هذه الشركات كانت بالفعل من أكثر الشركات قيمة في العالم منذ سنوات، تسببت موجة الذكاء الاصطناعي برغبة عارمة لامتلاك أسهمها بسبب تسويق الذكاء الاصطناعي على أنه المستقبل القادم؛ ما أدى إلى مضاعفة قيمتها السوقية وتأثيرها الاقتصادي بشكلٍ هائل.
في السابق، كان المستثمرون يعتبرون أسهم الشركات التكنولوجية ملاذًا آمنًا خلال فترات عدم الاستقرار في الأسواق وموجات صعود الأسهم بشكلٍ يشير للخطر. لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا تمامًا؛ إذ شهدت أسهم شركات التقنية ارتفاعًا حادًا وغير مسبوق، متجاوزةً كل التوقعات وحدود الحذر المعتادة. أثار هذا الصعود الصاروخي مخاوف من تشكل فقاعة استثمارية خطيرة في قطاع التكنولوجيا.
وبالفعل بدأت تظهر علامات الاضطراب في أوائل عام 2024 بسبب خيبات الأمل الكبيرة في الأرباح والمخاوف الجديدة من أن الاستثمارات الضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي لم تحقق العوائد المتوقعة بعد لمعظم الشركات الأمريكية الكبرى.
نتيجة لذلك، عند ظهور تقرير ضعف نمو الوظائف بدأت الأسهم التكنولوجية في التراجع؛ ما أدى إلى خسائر تقدر بنحو 3 تريليون دولار. يشير هذا الانخفاض الحاد إلى بداية ما يسمى بـ "تصحيح السوق"، وهي ظاهرة شائعة في أسواق الأوراق المالية تحدث عادةً بعد فترات من الارتفاع المبالغ فيه؛ ما يؤكد المخاوف من تشكل فقاعة استثمارية خطيرة في قطاع التكنولوجيا.
في خضم هذه الاضطرابات؛ أعلنت شركة إنتل، الرائدة في تصنيع الرقاقات، الأسبوع الماضي عن خطط لتسريح أعداد كبيرة من موظفيها، إلى جانب نتائج مالية مخيبة للآمال. وفي الوقت نفسه، خفض المحللون تقديرات أرباح إنفيديا التي أصبحت رمزًا للطفرة في الذكاء الاصطناعي في وول ستريت بعد تقرير من The Information عن تأخر رقاقة الذكاء الاصطناعي الجديدة بسبب عيوب في التصنيع. وقد قلصت الشركة مكاسبها لهذا العام إلى 98.7% من 170% في منتصف يونيو.
وأعلنت شركة ميتا عن خسائر بالمليارات أيضًا في النصف الأول من هذا العام. وفي تطور لافت، باع الملياردير والمستثمر المخضرم وارن بافيت نحو نصف حصته في أسهم شركة آبل. ورغم أن بافيت كان ربما يمتلك نظرة مستقبلية هائلة وتحليلية للسوق، لكن خطوة بافيت لبيع أسهم آبل زادت الأمر سوءًا بالنسبة للمستثمرين، ورفعت من التوقعات السلبية لمستقبل الأسهم التكنولوجية.
الضرر الذي لحق بالعالم
شهدت الأسواق المالية العالمية اضطرابات كبيرة كما أشرنا سابقًا مع تسجيل مؤشرات قياسية سلبية في العديد من البورصات الرئيسية. في اليابان، سجلت البورصة أسوأ أداء لها منذ "الاثنين الأسود" الشهير في 19 أكتوبر 1987؛ إذ اتجهت مؤشرات توبكس ونيكي نحو انخفاض بنسبة 20% من أعلى مستوياتها القياسية، مع توقعات بتسجيل تراجع على مدى ثلاثة أيام سيكون الأسوأ منذ كارثة فوكوشيما النووية في عام 2011.
امتد هذا التراجع إلى أسواق الشرق الأوسط كذلك؛ إذ شهدت بورصات المنطقة انخفاضات حادة يوم الاثنين. كان مؤشر دبي الأكثر تضررًا، بانخفاض بنسبة 4.5%، وهو أكبر انخفاض له منذ مايو 2022. تأثر هذا الانخفاض بشكلٍ كبير بتراجع سهم شركة إعمار العقارية بنسبة 7.6%. وفي أبوظبي، أغلق المؤشر على انخفاض بنسبة 3.4%، متأثرًا بتراجع سهم بنك أبو ظبي الأول. أما في السعودية، فقد انخفض مؤشر السوق بنسبة 2.1%، مسجلاً أدنى مستوى له منذ منتصف ديسمبر. وفي مصر، تراجع المؤشر الرئيسي بنسبة 2.3% مع خسارة أسهم شركة السويدي إليكتريك بنسبة 6.4%.
لم تكن الأسواق الآسيوية والأوروبية بمنأى عن هذه الاضطرابات. انخفض مؤشر كوسبي في كوريا الجنوبية بأكثر من 9%؛ إذ تراجعت أسهم سامسونج بنسبة 10.3%. كما انخفض مؤشر Taiex في تايوان بنسبة 8.4%؛ إذ هبطت أسهم شركة TSMC أكبر مصنع للرقاقات في العالم، بنسبة تقارب 10% متسببةً في هبوط بورصة تايوان لأدنى مستوى لها منذ 57 عامًا. بينما تراجعت الأسواق الأوروبية بأكثر من 2%. في حين افتتحت البورصات الأوروبية يوم الاثنين، 5 أغسطس، على انخفاض مع تراجع مؤشر DAX الألماني بنسبة 2.3%، ومؤشر CAC 40 في باريس بنسبة 1.9%.
وانخفض مؤشر FTSE 100 في لندن بنسبة 2.1%. أما كندا، فقد سجل مؤشر S-P/TSX انخفاضًا بنسبة 3%، وهو أكبر تراجع له منذ منتصف فبراير. امتدت آثار هذه الاضطرابات إلى أسواق العملات الرقمية أيضًا؛ إذ انخفض سعر البيتكوين إلى ما دون 55,000 دولار أمريكي، بعد أن كان قد تجاوز 61,000 دولار يوم الجمعة. كما سجل الإيثيريوم أسوأ انخفاض له منذ عام 2021.
- الحكومة الألمانية تسبب الذعر بامتلاكها 2 مليار دولار من البيتكوين!
- أرباح سامسونج تواصل الارتفاع في الربع الثاني بنسبة 1458%
- إنفيديا تتراجع عن مركزها الأول بخسارة 220 مليار دولار في يومين!
- إنتل تقرر إلغاء استثمارات بقيمة 15 مليار دولار في دولة الاحتلال!
هل كان إنذارًا خاطئًا؟
أثارت جولدمان ساكس، المؤسسة المالية العالمية الرائدة، تساؤلات حول دقة تقارير التوظيف الأخيرة، مشيرةً إلى التأثير المحتمل لإعصار بيريل. هذه الظاهرة الطبيعية العنيفة، التي اجتاحت ولاية تكساس وأثرت على حياة ما يقارب 3 مليون شخص، قد تكون عاملًا مؤثرًا في تشويه المؤشرات الاقتصادية الحديثة.
أضاف سيمون فرنش، الخبير الاقتصادي البارز في Panmure Gordon، بعدًا آخر للنقاش؛ إذ أشار فرنش إلى أن الوضع لا يزال غامضًا، نظرًا لصعوبة تحديد ما إذا كانت الأرقام الوظيفية غير المعتادة ناتجة فقط عن تداعيات الإعصار، أم أنها قد تكون مؤشرًا أوليًا على تحول في استراتيجيات التوظيف لدى الشركات نحو تقليص حجم القوى العاملة.
يؤكد هذا التحليل على أهمية النظر إلى المؤشرات الاقتصادية في سياقها الأوسع، مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل الخارجية التي قد تؤثر على دقتها.
وصف جاي جي كيناهان، الرئيس التنفيذي لشركة IG North America، ديناميكية الأسواق المالية بتشبيه دقيق؛ إذ قال إن "الأسواق ترتفع ببطء كصعود الدرج، لكنها تهبط بسرعة كالسقوط من نافذة". والذي يبرز التباين الحاد بين فترات النمو التدريجي والانخفاضات المفاجئة في الأسواق. ربط كيناهان هذه الظاهرة بالوضع الحالي، مشيرًا إلى تراجع الحماس المفرط حول تقنيات الذكاء الاصطناعي بوصف السوق بأنه كان "متقدمًا على نفسه"؛ ما يعني أن التوقعات المتفائلة بشكلٍ مبالغ فيه قد دفعت قيم الأسهم إلى مستويات قد تكون غير قابلة للاستمرار.
يسلط هذا التحليل الضوء على كيفية تأثير التوقعات المرتفعة حول التكنولوجيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، على تقييمات السوق. كما يشير إلى أن التصحيح في الأسعار قد يكون نتيجة طبيعية لعودة التوقعات إلى مستويات أكثر واقعية.
في الوقت نفسه؛ حذر المستثمرون المحترفون من أن بعض العوامل التقنية قد تضخم من حدة التحركات في الأسواق. ويشير هذا التحذير إلى أن الاستراتيجيات المستخدمة في التداول الآلي أو خوارزميات البيع والشراء قد تؤدي إلى تفاقم ردود الأفعال السريعة في الأسواق المالية؛ ما قد يتسبب في تحركات غير متوقعة أو مفرطة في الأسعار. تضيف هذه العوامل التقنية طبقة إضافية من التعقيد في تحليل وفهم حركة الأسواق الحالية.
الجميع يوجه أنظاره للسندات
في ظل تراجع الأسواق المالية، تزداد جاذبية السندات الحكومية كملاذ آمن للمستثمرين؛ إذ شهدت هذه الأدوات انتعاشًا مدفوعةً بمخاوف من تباطؤ الاقتصاد الأمريكي واحتمال حدوث ركود. وأتى ذلك الانتعاش مع انخفاض عوائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات بشكلٍ ملحوظ، كما شهد صندوق مؤشرات يتتبع سندات الخزانة أقوى انتعاش له منذ عام 2020.
قالت شركة جولدمان ساكس أن هناك عدة أسباب لعدم الخوف من الركود حتى بعد ارتفاع معدلات البطالة. ومع ذلك، لم يأخذ مستثمري سوق السندات التفاصيل الدقيقة أو الإشارات المتباينة في الاعتبار بالنسبة للبيانات الاقتصادية؛ إذ أثارت المخاوف بشأن الهبوط الحاد، أحد أكبر انتعاشات سوق السندات منذ أن أثيرت المخاوف من أزمة مصرفية في مارس 2023 والتي شهدت انهيار بنك سيليكون فالي.
ورفعت مجموعة جولدمان ساكس توقعاتها لاحتمالية حدوث ركود في الولايات المتحدة من 15% إلى 25%. ومع ذلك، توجد عوامل تخفف من حدة هذه المخاوف، إذ تبدو البيانات الاقتصادية إيجابية بشكلٍ عام، ولا ترصد الشركة اختلالات مالية جوهرية في الوقت الراهن.
من الملاحظ أن عوائد سندات الخزانة الأمريكية قد هبطت إلى أدنى مستوياتها منذ عام. بالإضافة إلى ذلك، أصبح الفارق بين عوائد سندات الخزانة لأجل عامين وتلك لأجل عشر سنوات إيجابيًا. هذه الظاهرة، المعروفة باسم "انعكاس منحنى العائد"، تعتبر عادةً مؤشرًا على احتمال حدوث تباطؤ اقتصادي في المستقبل القريب.
بمعنى آخر؛ في الوضع الطبيعي ستكون عائدات السندات للعشر سنوات أعلى؛ وذلك منطقي جدًا لأن المستثمر يتوقع عائدًا أعلى بعد تجميد أمواله لـ 10 سنوات. ومثال على ذلك؛ في الوضع الطبيعي يكون عائد السندات السنتين 3% وعائد السندات الـ 10 سنوات 4%. فيصبح الفارق بينهم سلبيًا "بطرح النسب (1- = 3 - 4)" أما في حالة الركود أو التباطؤ الاقتصادي يصبح الفارق إيجابيًا؛ أي عائد السندات السنتين أعلى من الـ 10 سنوات.
يثير هذا التطور قلقًا كبيرًا لدى المحللين الماليين والمستثمرين على حد سواء، حيث أنه غالبًا ما يسبق فترات من الركود الاقتصادي. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن هذا المؤشر، رغم أهميته، ليس دائمًا دقيقًا بنسبة 100% في التنبؤ بالركود.
يستمر الاقتصاد الأمريكي في النمو رغم المخاوف الحالية، مع عدم حتمية حدوث ركود؛ إذ تشير البيانات الحديثة إلى نمو اقتصادي قوي نسبيًا، كما يعتبر بعض المحللين أن التراجعات الحالية في أسواق الأسهم قد تكون مجرد تصحيح لتقييمات مبالغ فيها. لكن تباين المؤشرات الاقتصادية يجعل التنبؤ الدقيق بمسار الاقتصاد مهمة صعبة؛ إذ يفرض هذا الوضع على الاحتياطي الفيدرالي معضلة في ضبط سياسته النقدية، لأنه يسعى للموازنة بين هدفين؛ تفادي الركود والحفاظ على استقرار الأسعار في الوقت ذاته.
وتكشف البيانات الاقتصادية الأخيرة عن مشهد متباين للاقتصاد الأمريكي. فمن جهة، شهد يوليو إضافة وظائف أقل من التوقعات وارتفاعًا في معدل البطالة. ومن جهة أخرى، حقق الاقتصاد نموًا قويًا نسبيًا في الربع الثاني، بمعدل سنوي بلغ 2.8%، متفوقًا بذلك على معظم الاقتصادات المتقدمة.
يخلق هذا التناقض في المؤشرات ضبابية حول المسار المستقبلي للاقتصاد؛ ما يصعّب على صناع السياسات والمستثمرين تكوين رؤية واضحة واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن الاتجاهات الاقتصادية القادمة. لكن كما تحدثنا يُحتمل أن هذه المؤشرات قد تكون إنذارًا مبالغًا فيه. فربما أننا نشهد مجرد تصحيح طبيعي في أسواق الأسهم، مصحوبًا بموجة من التوتر النفسي بين المستثمرين. ستكشف الأسابيع والأشهر القادمة عن حقيقة الوضع الاقتصادي.
انخفاض سعر الفائدة
يواجه الاقتصاد الأمريكي حاليًا وضعًا معقدًا؛ ما يضع الاحتياطي الفيدرالي أمام تحديات صعبة في إدارة السياسة النقدية. في اجتماعه الأخير، أبقى الاحتياطي الفيدرالي على أسعار الفائدة دون تغيير، لكنه ألمح إلى إمكانية خفضها في اجتماع سبتمبر القادم. هذا التوجه يهدف إلى تحفيز الاقتصاد عن طريق تخفيض تكاليف الاقتراض للأسر والشركات، رغم أن تأثير هذه الخطوة قد يستغرق وقتًا ليظهر بشكل ملموس.
ومع ذلك، فإن الآراء حول الحاجة إلى خفض أسعار الفائدة وتوقيته تتباين. يرى بعض الخبراء، مثل برايان جاكوبسن من Annex Wealth Management، أن الوضع الحالي لا يبرر خفضًا طارئًا لأسعار الفائدة، مشيرًا إلى أن معدل البطالة البالغ 4.3% لا يعد حالة طوارئ. بدلاً من ذلك، يقترح جاكوبسن أن يشرع الاحتياطي الفيدرالي بإجراءات أقل حدة، مثل وقف تقليص حيازاته من السندات، كإشارة إلى استجابته للوضع الاقتصادي.
يشير تقليص حيازته من السندات إلى عملية تعرف باسم "تقليص الميزانية العمومية". عادةً ما يلجأ الاحتياطي الفيدرالي لشراء سندات حكومية كجزء من سياسته النقدية. عندما يقلص هذه الحيازات، فإنه يبيع هذه السندات أو يدعها تنضج دون إعادة استثمار العائدات. وقف هذا التقليص يعني الاحتفاظ بمستوى ثابت من السندات؛ ما قد يوفر بعض الدعم للاقتصاد دون اللجوء إلى خفض أسعار الفائدة.
وقف التقليص يعني عدم بيع السندات التي يمتلكها الاحتياطي الفيدرالي؛ ما يعمل على زيادة السيولة في السوق وخفض العائد على السندات، ومع ذلك الانخفاض قد يبحث المستثمرون عن عوائد أعلى في أماكن أخرى؛ ما قد يشجع الاستثمار في الأسهم أو المشاريع التجارية.
في المقابل، يبدو أن السوق يتوقع خطوات أكثر جرأة. فوفقًا لأداة FedWatch من CME، ارتفعت احتمالية خفض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في سبتمبر. يعكس هذا التغير الدراماتيكي في التوقعات القلق المتزايد بشأن الاقتصاد.
قلل رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، أوستن جولسبي، من مخاوف الركود، لكنه قال إن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يحتاجون إلى أن يكونوا على دراية بالتغيرات في البيئة لتجنب أن يكونوا مقيدين جدًا بأسعار الفائدة. أي أن جولسبي يدعو إلى نهج حذر ومتوازن في السياسة النقدية، مع الحفاظ على المرونة للاستجابة للتغيرات الاقتصادية، وتجنب الإفراط في تشديد السياسة النقدية الذي قد يضر بالنمو الاقتصادي.
ومع ذلك، تظل الصورة الاقتصادية غير واضحة المعالم. كما أشارت شنتي كليمن من ، بأنه يمكن تفسير البيانات الاقتصادية بطرق مختلفة؛ إذ يمكن اختيار الأدلة لإنشاء قصة إيجابية، ويمكن أيضًا اختيار أدلة أخرى لإنشاء قصة سلبية؛ ما يجعل من الصعب التنبؤ بدقة باتجاه الاقتصاد. فرغم المخاوف من الركود، لا يزال الاقتصاد الأمريكي ينمو، والذي يجعل الركود احتمالًا وليس أمرًا حتميًا.
في ظل هذه الظروف المعقدة، يواجه الاحتياطي الفيدرالي تحديًا في موازنة سياسته النقدية. فهو مطالب بالاستجابة للمخاوف الاقتصادية دون المبالغة في رد الفعل، مع الحفاظ على مرونة كافية للتكيف مع التغيرات السريعة في البيئة الاقتصادية. وبينما تستمر الأسواق في التقلب استجابة لهذه التطورات، يبقى من المهم مراقبة البيانات الاقتصادية عن كثب وتقييم تأثير أي إجراءات مستقبلية للاحتياطي الفيدرالي على المدى الطويل.
جرس الإغلاق لمقال اليوم!
في ختام هذا التحليل للوضع الاقتصادي العالمي الحالي، نجد أنفسنا أمام مشهد معقد ومتغير. فمن ناحية، نرى مؤشرات مقلقة تتمثل في تراجع أسواق الأسهم العالمية، وانخفاض في قطاع التكنولوجيا الذي كان يعتبر محركًا رئيسيًا للنمو. ومن ناحية أخرى، هناك عوامل تدعو للتفاؤل الحذر، مثل استمرار النمو الاقتصادي الأمريكي رغم التحديات.
يعكس التباين في تفسير البيانات الاقتصادية وتوقعات الخبراء مدى تعقيد الوضع الراهن. فبينما يرى البعض أن الاضطرابات الحالية قد تكون مجرد تصحيح طبيعي للسوق، يخشى آخرون من احتمال حدوث ركود اقتصادي. في هذا السياق، يبرز دور المؤسسات المالية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، في إدارة دفة الاقتصاد، فقراراتهم بشأن أسعار الفائدة والسياسات النقدية ستكون حاسمة في تشكيل المسار الاقتصادي المستقبلي.
يبدو أن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة انتقالية حساسة، تتطلب متابعة دقيقة وتحليلًا مستمرًا. فالأسابيع والأشهر القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت الاضطرابات الحالية ستؤدي إلى تباطؤ اقتصادي طويل الأمد، أم أنها ستكون مجرد تقلبات مؤقتة في مسار النمو الاقتصادي العالمي.
عزيزي القارئ،
مع انتهائك من قراءة هذا المقال، قد تجد أن مؤشرات البورصات قد عادت لترتدي ثوبها الأخضر، مرتفعةً من جديد. هذا هو جوهر الاقتصاد، وتلك هي طبيعة الأسهم، وهكذا يسير العالم بأكمله - في حالة تغير مستمر. فالأسواق المالية تتأرجح بين الصعود والهبوط، والتوقعات تتبدل مع كل خبر جديد. ما نراه اليوم قد يتغير غدًا، وهذا ما يجعل عالم الاقتصاد مثيرًا ومليئًا بالتحديات في آن واحد.
جدير بالذكر؛ لم يذكر المقال التأثيرات الجيوسياسية على انهيارات البورصات حول العالم؛ نظرًا لعدم وضوح العلاقة بينهما.
?xml>