تَغير حال الإنترنت منذ الخميس الماضي، عندها أعلن مؤسس فيسبوك، مارك زوكربيرج عن إطلاق منصة تواصل اجتماعي جديدة تُنافس تويتر باسم «Threads - ثريدز»، والتي استطاعت بشكل غريب الوصول إلى مليون مستخدم في أول ساعة ونصف من طرحها، واستمرت في الصعود الصاروخي حتى وصلت إلى 100 مليون مستخدم في خلال خمس أيام فقط، كاسرة بذلك كل الأرقام القياسية لتُصبح رسميًا المنصة الأولي في العالم التي تصل لهذا العدد المَهول من المستخدمين في أقل من أسبوع.

ولكن هل سألت نفسك ما سبب هذا النجاح اللحظي غير المسبوق لتطبيق ثريدز؟ هل هو جيد لهذه الدرجة؟ بل على العكس تمامًا، لا يُقدّم «ثريدز» أفكارًا جديدة، وإنما هو مجرد تطبيق بدائي يَفتقر لأبسط الخصائص، ولا يَملك أي أصالة -كما وصفه مؤسس تويتر نفسه-. مجرد نسخة منقوشة من العصفور الأزرق، لدرجة أن رئيس إنستغرام، آدم موسيري صرّح أنه يمكن استخدام مصطلح "التغريد" لوصف نوع المحتوى الذي يُنشر عبر منصته الجديدة!

إذن ما السبب وراء هذا الإقبال الجماهيري على تطبيق ميتا المُقلّد؟ ببساطة، أُعلن عن التطبيق بطريقة ماكرة، وانطلق في لحظة مثالية سمحت له بسرقة الأضواء دون حتى القيام بحملة إعلانية واحدة، أما عن من مَهّد هذه الظروف المثالية، فهو أغنى رجل في العالم، إيلون ماسك نفسه، ومؤسس فيسبوك والروبوت البشري، مارك زوكربيرج.

نُناقش معكم في هذا المقال أبرز العوامل التي نَعتقد أنها مهّدت النجاح الصاروخي لتطبيق Threads، والتي لا تتعلق بميزات المنصة نفسها أو ما تُقدمه.

1. إيلون ماسك وتجسيد الشخصية الشريرة في قرارات ديكتاتورية

تويتر لم يكن في أفضل حالاته في الشهور الأخيرة، تحديدًا منذ استحواذ إيلون ماسك على المنصة في صفقة تاريخية كلّفته 44 مليار دولار، الأمر الذي كان كافيًا لتعطيل عدد من الشخصيات العامة والمشاهير حساباتهم؛ لمخاوفهم من طريقة إدارة أغنى رجل في العالم لشركته الجديدة، بالطبع ازداد الطين بلة عندما بدأ ماسك بتخريب لعبته الجديدة بالفعل، بداية من طرده لإجمالي 6000 موظف، ثم إعلانه عن قراراته الجديدة العشوائية، كالسماح لأي مستخدم بأن يوثّق حسابه بالعلامة الزرقاء مقابل الاشتراك في خدمة «تويتر بلو»، والتي أدت إلى ظهور حسابات مزيفة لشخصيات مشهورة (منها إيلون ماسك نفسه) وتوثيقها.

أحد الحسابات التي انتحلت هوية إيلون ماسك وغرّدت أن بطاريات تيسلا يتم تصنيعها بواسطة عمالة من الأطفال

ثم استمر إيلون ماسك في تخريب لعبته إلى الحد الذي جعلني أشك أنه يقصد تدمير المنصة، فحذف علامات التوثيق من جميع حسابات المشاهير لُيجبرهم على الاشتراك في الخدمة المدفوعة، ثم أعادها مرة أخرى عندما رفض أغلبيتهم الدفع، كذلك عدّل ماسك على الهدف الأساسي من وجود منصة تويتر، وهو التغريدات المحدودة بكلمات قليلة، فسَمح لمشتركي الخدمة المدفوعة بكتابة تغريدات تصل إلى 10,000 حرف (بدلًا من 280 للمستخدمين العاديين)، ما حول المنصة إلى ما يُشبه المدونة خصوصًا مع السماح لكُتاب المحتوى بتحقيق عائد مادي من كتاباتهم.

ومع كل قرار متهور يُطّبق دون دراسة وتمعن، تقل شعبية تويتر، ويهرب منه المزيد من المستخدمين خاصةً المشاهير منهم، كذلك طريقة إدارة أغنى رجل في العالم الديكتاتورية، وطرده المستمر للموظفين، وبل وسخريته من ذوي الاحتياجات وألاعبيه المستمرة جعلت إيلون ماسك يظهر في ثوب الشخصية الشريرة التي يَجب القضاء عليها.

التطبيق المُناسب في الوقت المناسب

منذ الكشف عن تويتر في عام 2006 وحتى هذا العام، لم يُفكّر زوكربيرج في منافسة تويتر واكتفى بالتركيز على فيسبوك وانستغرام ومؤخرًا الميتافيرس، ولكن ومع تأزم الوضع في تويتر واستمرار إيلون ماسك في إعطاء ألف سبب لوجود منافس، بدأت ميتا في العمل بصمت لتحقيق ذلك، في مشروع رُمز له بـ «P92» وكان يصفه موظفي الشركة بأنه سيكون منصة "تُدار بعقلانية".

مفتاح النجاح هنا لم يَكن تقديم تطبيق بفكرة مميزة أو خصائص نسمع عنها للمرة الأولى، وإنما إتاحة بديل لتطبيق موجود بالفعل، وانتظار اللحظة المثالية لتوجيه الضربة القاضية، وفي الوقت الذي أعلن فيه ماسك عن تحويل تويتر إلى ما يُشبه المصرية للاتصالات وتقييد مستخدميه بحد يومي لقراءة التغريدات، نشر زوكربيرج "تغريدته" الأولى  على تطبيق Threads، وأعلن عبر حسابه على فيسبوك وانستغرام طرح تطبيقه الجديد رسميًا.

حَصد Threads مليون مستخدم في خلال ساعة ونصف فقط من الكشف عنه، ثم وصل إلى 2 مليون مستخدم في خلال نصف ساعة أخرى.

Threads لا يتفوق على تويتر في أي نقطة!

الإقبال الجماهيري على تطبيق ميتا الجديد ليس بسبب أنه أفضل -كما أوضحنا سابقًا-، فإذا كنت جربت التطبيق فبالتأكيد لاحظت أنه يَفتقر للكثير من الخصائص، بدايةً من عدم دعمه لتجربة الاستخدام عبر الويب بالكامل، وافتقاره للتعديل على «التثريدات»، وعدم دعم الدردشة داخل التطبيق، كذلك لا يوجد حتى هاشتاج داخل التطبيق الذي يأتي بواجهة بدائية تنهمر فيها التغريدات العشوائية من شخصيات لا تتابعها ولا تهتم بها بل وحتى أبسط المهام مثل الكتابة بالعربية غير مدعومة، حيث تظهر الكلمات من اليسار لليمين وليس العكس.

تطبيق Threads ليس إلا نُسخة مقلدة تفتقر لأغلب الخصائص، ولكنها تُحقق الهدف الأساسي من تويتر الذي ضل عنه، وحقيقة أنه لا يُدار بواسطة إيلون ماسك هو السبب الرئيسي لنجاحه.

بدأ تويتر كتطبيق يُتيح لك كتابة المحتوى النصي البسيط، ثم انجرف إلى دعم الستوريز، الغرف الصوتية، وحتى الاستغناء عن الحد الأقصى لعدد الكلمات والسماح لعدد من المستخدمين لكتابة المقالات فعليًا بدلًا من الكلمات القصيرة التي كانت سببًا في تأسيسه في المقام الأول، يأتي «ثريدز» ليُحقق هذا الهدف ببساطة، يتيح لك كتابة المحتوى النصي حتى 500 كلمة، لا أكثر ولا أقل. وبالتالي استطاع تطبيق ميتا تشجيع مستخدميه على التغريد مرة أخرى، تمامًا مثل الأيام الأولى التي جربنا فيها تويتر، وهذا من العوامل التي أدت إلى انتشاره السريع.

2. دمج Threads مع انستغرام ودهاء زوكربيرج

وهو العامل الثاني الذي ساعد في الانتشار السريع للمنصة الجديدة. لن تحتاج إلى إنشاء حساب جديد لاستخدام تطبيق «Threads» فهو ببساطة مُشتق من إنستغرام، وبالتالي فكل ما يتطلب من خطوات هو تحميل التطبيق، ومن ثم تجد زرًا لإتمام عملية تسجيل الدخول بنفس حسابك في إنستغرام، وفور نقرك على هذا الزر، تنتقل إلى المنصة الجديدة في خطوات بسيطة، مع مزامنة نفس تفاصيل حسابك على إنستغرام، ونفس الأشخاص الذي تتابعهم.

سهولة التسجيل في تطبيق ثريدز من عوامل انتشاره السريع، بجانب تقييد مستخدميه من حذف حساباتهم دون التضحية بحسابات انستغرام كذلك!

استخدم زوكربيرج حيلة ماكرة للحفاظ على عدد المستخدمين في منصته الجديدة، حيث التف شعار «ثريدز» حول رِقاب مستخدميه ومنعهم من حذف حساباتهم دون حذف الحسابات الأصلية على إنستغرام أيضًا، وهو الأمر الذي أخفته الشركة ضمن سياسة الاستخدام. ما يعني أنه بمجرد تسجيل الدخول في المنصة الجديدة، لن تتمكن من حذف حسابك منها بشكل مُنفصل، ولا أعتقد أنك ستكون مستعداً للتضحية بحسابك الأساسي في إنستغرام، وهو ما يعتقده زوكربيرغ أيضًا، وبالتالي فإن عدد الحسابات في المنصة لن يَقل أبداً.

ولا ننسى عامل الدوبامين والإنجازات الوهمية

من الوارد أن لا يهتم بعض المستخدمين بتجربة التطبيق الجديد على أي حال، ولهذا قرر زوكربيرغ وضع وسام مؤقت للمستخدمين الجدد يظهر بجانب حساباتهم على إنستغرام ويُظهر ترتيبهم من حيث المستخدمين، بل وإذا توجهت إلى القائمة الجانبية في تطبيق الصور ستجد أيقونة باسم التطبيق الجديد، Threads، عند النقر عليها تجد ما يشبه التذكرة ثلاثية الأبعاد التي تضم جميع التفاصيل المتعلقة بانضمامك للمنصة الجديدة.

ساعد ذلك في معرفة المستخدمين بوجود Threads عندما بدأوا في ملاحظة رمز جديد يظهر بجانب حسابات انستغرام، وهو ما ساهم في زيادة عدد مستخدمي التطبيق.

3. ركوب الترند ومعاصرة ولادة منصة جديدة

في عالم الإنترنت والسوشيال ميديا، نجاح منتجك مُرتبط بتحوله إلى «ترند»، ولكن كَيف نخلق ترندًا من الأساس؟ ببساطة أثر الجدل واستغل جنون إيلون ماسك وتغريده برغبته في مصارعتك داخل قفص عبر ستوري تَنشرها على حسابك تطلب فيها العنوان، ثم أعلن لاحقاً عن تطبيقك المنافس لتطبيقه مع كتابة "هذه بداية الجولة الأولى"، والخطوة الأهم، ادخل على حسابك في تويتر الذي لم تزره منذ عشرة سنوات، فقط لتُغرِّد بكوميك سبايدر مان الشهير والسخرية من تويتر.

لا أنكر أن هذه الأحداث جعلتني شخصيًا متحمسًا لتجربة التطبيق الجديد، ناهيك عن حقيقة أن هذا تاريخ نعاصره، لا يطلق زوكربيرغ منصة جديدة كل يوم، بل أن هذا المنتج الأول الذي يطرحه منذ عشر أعوام تقريبًا، وهذا سبب آخر مهم أدى إلى اندفاع المستخدمين من جميع البِلاد -ماعدا أوروبا-. كذلك كانت هذه فُرصة ذهبية للشركات وأصحاب الصفحات بأن يكونوا أول من يُجمع قاعدة جماهيرية على المنصة الجديدة.

إطلاق ثريدز هو نقطة ستُسجل في التاريخ، سواء كنجاح أو فشل، ومع الدعاية غير المُباشرة للتطبيق الجديد، تَحوّل إلى ترند في ساعات من إطلاقه، أراد الجميع أن يُسجل اسمه ضمن هذا الحدث، وأن يحقق الكوميديا بتغريدة أو اثنتين على المنصة الجديدة.

4. استهداف الجيل «زد» عبر Threads

إطلاق منصة تواصل اجتماعي جديدة تلفت انتباه الجيل زد، وهم مواليد منتصف التسعينات ومنتصف العقد الأول من الألفية الثانية، وبالتالي هم الجمهور الذي يُهيمن على الإنترنت. تويتر بالنسبة لهذا الجيل منصة قديمة، لا تستهدفهم بشكل عام وبالتالي فإن ولادة تطبيق جديد الآن سيثير حماسهم لتجربته، بدلًا من تطبيق آخر اعتاد آبائهم على استخدامه. يصف عدد من المؤثرين Threads على أنه "نسخة الجيل زد من تويتر". بالتأكيد سيكون أمام ميتا تحدي كبير للحفاظ على اهتمام هذا الجيل الُمدمن لتيك توك. ولكنها اتخذت الخطوة الأولى بالفعل عبر إطلاق منصة جديدة تجعل هذا الجيل ينال تجربة أن يكون ضمن أوائل المستخدمين.

تطبيق Threads هو النسخة الموجهة للجيل زد من تويتر، خصوصاً أنه مَبني على انستغرام الذي يُعتبر تطبيقاً شعبياً لهذه الفئة من المستخدمين.

5. تَعمُّد جعل تطبيق Threads بدائيًا

تحدثنا سابقًا عن صعوبة المقارنة بين ثريدز وتويتر وكم الخصائص التي يفتقدها تطبيق ميتا الجديد، وفي الحقيقة فإن هذه الحركة مقصودة من فريق التطوير؛ من أجل الحفاظ على اهتمام المستخدمين لأطول فترة ممكنة، فعندما تتوجه إلى التطبيق وتكتشف أنه لا يُمكنك التعديل على التغريدات المنشورة، ثم تقرأ في الأخبار وصول تحديث جديد يَدعم هذه الميزة، ستتوجه مرة أخرى إلى التطبيق لتجربتها، وعليه تُخطط عملاقة الإعلانات الأمريكية لطرح جميع الخصائص المطلوبة تدريجيًا.

وأثار آدم موسيري حماس المستخدمين بالفعل عبر تأكيد قدوم عدد من المزايا التي يفتقدها التطبيق أهمها وجود قائمة تختص بظهور مُحتوى لمن تُتابعهم فقط، دعم تعديل المنشورات، وسهولة التبديل بين الحسابات المختلفة على نفس المنصة.

لا نعلم خطط ميتا لتطوير تطبيقها الجديد، ولكن التأخر في طرح الميزات الأساسية كان عمداً للحفاظ على شعبية Threads عبر طرح ميزات يطلبها الجمهور على فترات زمنية.

في النهاية.. ميتا أمام تحدي حقيقي

يَقولون، "لكل نجاح سريع سقوط سريع" ولعل هذه المقولة مبنية على قانون نيوتن الثالث للسرعة، ولكن إن تَمعّنت فيها تجد أنها صحيحة خصوصًا إذا لم يكن النجاح حقيقيًا، ما أعنيه هنا أن تجاوز 100 مليون مستخدم في خمس أيام لا يعني بالضرورة نجاح التطبيق، وإنما هو مجرد بالون امتلأ بغاز «الترند» وحَماس المستخدمين لتجربة منصة جديدة، ولكن هل بالضرورة يستمر هذا الحماس والشغف نحو التطبيق الجديد؟ للأسف ستنفجر تلك البالون عاجلًا أم آجلًا، وعليه يجب أن تَملك Meta خطة واضحة واستراتيجية تُحافظ على عدد المستخدمين النشطين حتى بعد انتهاء الترند.