كشف أحد المصادر عن ملفات سرية من مجموعة تدعى رابطة استخبارات التهديدات السيبرانية (Cyber Threats Intelligence League)، والتي تضمنت معلومات صادمةً تفضح تورط جهات حكومية من الولايات المتحدة وبريطانيا في فرض رقابة على الإعلام والسيطرة على المعلومات المتداولة تحت مُسمى «مكافحة المعلومات المضللة».

أثارت هذه الأخبار جدلًا واسعًا بين النشطاء والإعلاميين على وسائل التواصل الاجتماعي خاصةً في هذه الأوقات التي يتعرض فيها الملياردير الأمريكي إيلون ماسك لضغوط عالمية بسبب محاولته تطبيق حرية التعبير على منصة X خلال الحرب الإعلامية القائمة بين الاحتلال وغزة.

نُشرت تفاصيل هذه الملفات بواسطة الصحفي الأمريكي مايكل شيلنبرجر على حسابه على منصة إكس، إذ غرد موضحًا أن هذه الملفات تثبت تورط الحكومات العالمية في فرض رقابة على الإعلام، وأنها فاقت الملفات السرية المسربة لفيسبوك وتويتر من ناحية الأهمية. تشير هذه المعلومات إلى وجود الدولة العميقة، وهو مفهوم جدلي إلى حد كبير، إذ يعتبره بعض السياسيين مجرد جناح من نظرية المؤامرة.

الدولة العميقة

يعتبر مفهوم الدولة العميقة مفهومًا ضمن القضايا الجدلية في السياسة الحديثة، وهو يشير إلى مجموعة من الأفراد أو المؤسسات ذات النفوذ العالي داخل الدولة، والتي تعمل وفق أجندتها الخاصة لتطبيق أهداف معينة بشكل مستقل عن الدولة الشرعية مستخدمةً كافة الوسائل حتى ولو كانت غير أخلاقية أو غير قانونية.

انتشرت ادعاءات في الولايات المتحدة خلال العقد الماضي بوجود دولةً عميقةً تتحكم في السياسة الداخلية وفقًا لأجندات خاصة، وطالت الاتهامات وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ووزارة الأمن الداخلي (DHS) بالإضافة إلى بعض «اللوبيات». انتشرت هذه الفكرة بشكل كبير بين السياسيين الأمريكيين وخاصةً سياسيي الحزب الجمهوري. وكان أبرز الشخصيات التي تحدثت عنها بشكل علني الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

وبعد المعلومات التي حصلنا عليها من هذه الملفات السرية؛ فإنه من المرجح فعلًا وجود هذه الدولة العميقة التي تعمل من خلال فرض رقابة على كافة الوسائل والأبواق الإعلامية لضمان وصول رواية معينة تخدم أجنداتها الخاصة إلى العامة. ولعل الحرب الإعلامية القائمة بين الاحتلال ضد القضية الفلسطينية خير شاهد على هذه المحاولات المستميتة لاغتيال الرواية المؤيدة للقضية الفلسطينية.

نشأة مجموعة CTIL

نشرت صحيفة واشنطن بوست، وشركة بلومبرغ الإعلامية تقارير صحفية تُفيد بأن رابطة استخبارات التهديدات السيبرانية (CTIL) تأسست كمجموعة تطوعية على يد مسؤول «سابق» بالاستخبارات العسكرية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو أوهاد زايدينبرغ. اشترك أيضًا في تأسيس هذه المجموعة نيت وورفيلد، مسؤول أمني بشركة ميكروسوفت، ومارك روجرز، رئيس العمليات الأمنية بمؤتمر ديف كون للقرصنة.

ادعت هذه التقارير الصحفية أن هؤلاء الخبراء المخضرمين في مجال الحماية السيبرانية قرروا تكريس وقتهم وجهودهم لمساعدة المستشفيات ذات الميزانيات الضخمة خلال فترة جائحة كوفيد 19، وبشكل تطوعي تمامًا دون أي مقابل بزعم أن دوافعهم كانت أخلاقية بحتة.

وبعد تأسيس هذه المجموعة التطوعية بشهر واحد، كانت قد تحولت إلى رابطة ضخمة تضم نحو 1400 عضو مخضرم في مجال الأمن السيبراني في 76 دولةً لتغطي 45 قطاعًا مختلفًا. وبدأت هذه الرابطة في رسم صورةً أخلاقيةً لها وتصديرها للعالم من خلال مقاومتها للعديد من الجرائم السيبرانية، إذ ساهمت في القضاء على 2833 أداةً كانت تستخدم في الجرائم السيبرانية على الإنترنت، بالإضافة إلى اكتشافها أكثر من 2000 ثغرة أمنية في مؤسسات الرعاية الصحية المختلفة في أكثر من 80 دولةً.

ظل قادة الرابطة يؤكدون ويشددون في كل فرصة ممكنة على نواياهم الأخلاقية في مقاومة الجريمة السيبرانية، ومكافحة المعلومات المضللة، دون وجود أي أهداف سرية أخرى. ولكن بعد الكشف عن هذه الملفات، أصبح الهدف الرئيسي لرابطة CTIL واضحًا أمام العالم؛ وهو بناء إطار داعم لفرض الرقابة على كافة المؤسسات الأمنية القومية والسيبرانية.

روجت CTIL أيضًا إلى مصطلح جديد، وهو «الأمن المعرفي». واستخدموا هذا المصطلح لتبرير فكرة تورط المؤسسات الحكومية في الأنشطة الرقابية على المؤسسات الإعلامية على الإنترنت من خلال القضاء على أي معلومات مضللة أو خاطئة «تلوث» الطبقة المعرفية من المعلومات الصحيحة التي يجب حمايتها.

تورط رابطة CTIL في السيطرة على الإعلام

أشار التقرير الصحفي الذي نشر هذه الملفات إلى تحالف في عام 2019 بين وكلاء للاستخبارات العسكرية الأمريكية والبريطانية بقيادة سارة جاين تيرب؛ المحللة الاستخباراتية البريطانية «السابقة». وعمل هذا التحالف على تصميم الإطار الرقابي الذي اتخذته رابطة CTIL لفرض الرقابة على المؤسسات الإعلامية على الإنترنت. وشارك هذا التحالف في قيادة رابطة CTIL، والتي تحالفت عام 2020 مع وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية (CISA) التابعة للحكومة الأمريكية.

وعلى ذكر وكالة CISA، كشفت بعض الوثائق التي تضمنت مجموعةً من رسائل البريد الإلكتروني للمؤسسات غير الحكومية التابعة للوكالة أنها أنشأت شراكة نزاهة الانتخابات (EIP)، والتي تضمنت شراكةً بين مرصد ستانفورد للإنترنت (SIO) وبعض الوكلاء التابعين للحكومة الأمريكية. وكشفت تلك الوثائق أن هذه الشراكة عملت على توجيه مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر، وفيسبوك، وغيرها على حجب بعض المنشورات الإعلامية للعامة والمسؤولين على حد سواء، وذلك خلال الانتخابات الرئاسية 2020.

أظهرت ملفات CTIL أيضًا مجموعةً من الرسائل على تطبيق سلاك (Slack) بين تيرب وزملائها، بالإضافة إلى مسؤولين من وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، ومسؤولين آخرين من شركة فيسبوك، والتي كشفت تعاونهم في العمل على مهمة فرض الرقابة الإعلامية.


كان هذا العمل نواةً للعملية الرقابية التي فرضتها الولايات المتحدة وبريطانيا على المؤسسات الإعلامية على الإنترنت خلال عامي 2020 و2021، مع إخفائها تحت مسمى الأمن السيبراني أو أجندات مكافحة المعلومات المضللة. ولكنها كانت تهدف إلى إيقاف أي رواية إعلامية غير مرغوب في انتشارها، بالإضافة إلى الضغط على منصات وسائل التواصل الاجتماعي لاتخاذ بعض الإجراءات بهدف منع المحتوى غير المرغوب فيه من الانتشار بسرعة دون أن يصبح رائجًا.

كشفت الملفات أيضًا أن CTIL بدأت في تتبع المنشورات المناهضة للإغلاق في أثناء الجائحة خلال عام 2020، مع الإبلاغ عن أي محتوى غير مرغوب فيه على وسائل التواصل الاجتماعي. وجمعت الرابطة أيضًا معلومات عن الأفراد الذين يروجون لهذه الأخبار واحتفظت ببياناتهم الخاصة من حساباتهم على تويتر في جدول بيانات.

وبالتالي، يمكن اعتبار أن سياسة CTIL للتأثير على الرأي العام أصبحت أكثر عدائيةً من مجرد حجب ورقابة إعلامية، إذ كشفت الملفات أيضًا عن بعض النقاشات التي دارت داخل المجموعة لبحث طرق استخدام «الرسائل المضادة»، وحشد بعض الوسوم المعينة، بالإضافة إلى إنشاء مجموعة من الحسابات الوهمية بهدف التسلل داخل المجموعات الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي.

أوضح مايكل شيلنبرجر أنه حاول التواصل مع وكالة FBI بشأن هذه الملفات، ولكنها رفضت التعليق. وحاول أيضًا التواصل مع وكالة CISA، وتيرب، وبعض قادة CTIL الآخرين، ولكنهم رفضوا جميعًا التعليق على هذه الوثائق. وصرح شيلنبرجر أنه سيصعد هذه القضية إلى الكونجرس الأمريكي للتحقيق فيها.

الحرب الإعلامية بين الاحتلال وغزة

لم تتضمن هذه الملفات أي وثائق حول المحاولات المستمرة لحجب الرواية المؤيدة للقضية الفلسطينية من أغلب منصات وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تطرقت هذه الملفات بشكل رئيسي للفترة بين عامي 2020 و2021. ومع ذلك، قدمت لنا هذه الوثائق دليلًا واضحًا على تورط بعض المؤسسات الحكومية للدول الكبرى في التلاعب بالإعلام والسيطرة على الروايات التي تخدم قضايا معينة تتفق مع أجنداتها، والذي يصف تمامًا مفهوم الدولة العميقة.

طالع أيضًا: حرب المعلومات المضللة: هل حرية التعبير عامة أم فقط لأبناء العم؟

وبالتالي، فإن ظهور هذه الوثائق في هذا الوقت تحديدًا يشير إلى احتمالية تورط هذه الحكومات في الحرب الإعلامية ضد القضية الفلسطينية، إذ تواجه كافة الأبواق الإعلامية المؤيدة للقضية شتى أنواع الحجب والتضييق عند محاولة نشر الرواية التي تدافع عن القضية وتدعمها على منصات التواصل الاجتماعي، خاصةً مع العلم أن مؤسس هذه الرابطة، وأحد قادتها، مسؤول سابق بالاستخبارات العسكرية للاحتلال.

ورغم انحياز أغلب منصات التواصل الاجتماعي للجانب الصهيوني، ظلت منصة إكس المملوكة لإيلون ماسك محتفظةً بمبادئ حرية التعبير، إذ شدد ماسك على أهمية حرية التعبير وأنها ستكون من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها المنصة. ومع إصراره على توفير حرية التعبير لكافة الأطراف، تعرض ماسك لضغوط شديدة من مختلف المؤسسات، كما تعرض لموجة عنيفة من الاتهامات بمعاداة السامية بعد بعض الآراء التي أدلى بها ضد الاحتلال؛ والتي وصلت في النهاية إلى حملات مقاطعة دعائية من كبرى الشركات.

تضمنت هذه الشركات التي شنت حملة المقاطعة على منصة إكس، ديزني، وIBM، وAdobe، وأبل، وغيرها من الشركات الكبرى. وصرح الرئيس التنفيذي لشركة ديزني، بوب أيغر أنه بدأ بالفعل في إيقاف كافة الحملات الدعائية من على المنصة. وعبر إيلون ماسك عن استيائه الشديد تجاه هذه الحملات، وأكد على أهمية تمسكه بمبادئ حرية التعبير على منصة إكس.

في النهاية، يبدو أننا قد حققنا نصرًا بارزًا في هذه الحرب الإعلامية القائمة، والتي اتضح لنا الآن كيف أنها تُدار بواسطة منظمات استخباراتية محترفة في التلاعب بالإعلام وتوجيه الرأي العام العالمي. ولذلك، نتمنى من الجميع الاستمرار في دعم القضية؛ فهي المرة الأولى التي يصبح فيها صوتنا مسموعًا في العالم. وسنظل مستمرين في عرب هاردوير بتأدية دورنا في التغطية الكاملة لكل مستجدات هذه الحرب الإعلامية. نتمنى السلامة لأهلنا في فلسطين دائمًا وأبدًا.