بدأ العدوان الصهيوني على الأراضي المحتلة في غزة منذ تسعة أشهر، إذ باتت نية الكيان الإجرامي واضحةً أمام الجميع في ارتكاب عملية تطهير عرقي وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني من على أراضي غزة؛ الأرض التي كانت وما زالت رمزًا لأعتى أشكال المقاومة التي عرفها العالم الحديث؛ فحتى الآن لم يتمكن الاحتلال من فرض قبضته العسكرية على أراضي غزة.

آثار العدوان الصهيوني على غزة

وبعد قرابة عام كامل من الفتك والدمار في غزة؛ يستعد الكيان المُحتل الآن إلى دفع فاتورة باهظة مقابل هذا الإجرام الفاحش. فعلى مر سنوات؛ ظل الاحتلال متفاخرًا بمنظومته التقنية المتقدمة التي تتصدر الدول العظمى، بل وتتفوق على أغلبها. فعلى سبيل المثال؛ تحتل دولة الاحتلال حاليًا المركز الرابع عالميًا، بعد الولايات المتحدة والصين وبريطانيا، من ناحية عدد الشركات الناشئة العاملة في الذكاء الاصطناعي!

والآن..يواجه قطاع التقنية الصهيوني انهيارًا غير مسبوق منذ تأسيس دولة الاحتلال بسبب عدوانه الغاشم على غزة!

يواجه الاقتصاد وقطاع الأعمال الصهيوني بشكل عام تحديات بالغةً في الوقت الحالي؛ ذلك بسبب الحرب المستمرة التي أنهكت الاقتصاد وحركة التجارة داخل أراضي الكيان المُحتل. وعند الحديث عن قطاع التقنية بشكل خاص؛ فإنه سيكون الأكثر تضررًا بين كافة القطاعات الصناعية والتجارية المختلفة جراء هذه الحرب المُطولة؛ إذ يعتمد هذا المجال بشكل كبير على الاستقرار والمُداومة المستمرة على العمل لمواكبة أحدث التطورات العالمية التي تتصاعد بشكل صاروخي.

ورغم هذه الخسائر الاقتصادية الفادحة التي يتكبدها الاحتلال؛ نشهد تعتيمًا إعلاميًا مُتعمدًا حول هذه الخسائر، خاصةً في وسائل الإعلام الغربي الكبرى. فقد أصبح المصدر الوحيد لهذا النوع من الأخبار متمثلًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تتبع التيار المعارض لحكومة الاحتلال؛ إذ تنتهز هذه المنصات الإعلامية الفرصة لإبراز الأضرار الجسيمة التي أصابت الاقتصاد الإسرائيلي بفعل القرارات الطائشة والدموية لحكومة نتنياهو على مدار تسعة أشهر من الآن.

لا تجرؤ منصات الإعلام الغربي على نشر أي أخبار لا تتوافق مع الرواية الصهيونية الإعلامية؛ فقد نجح الكيان بالفعل في احتلال الغرب إعلاميًا!

نستعرض في هذه المقالة تحليلًا شاملًا لأوضاع قطاع التقنية الصهيوني؛ والذي ظل في صدارة العالم لسنوات عديدة؛ فقد استغرقت حكومة نتنياهو عدة أشهر فقط ليبدأ هذا القطاع في الانهيار مُكبِّدًا الاحتلال خسائر فادحةً.

لمحة عن قطاع التقنية في دولة الاحتلال

يُعد قطاع التكنولوجيا ركيزةً أساسيةً في البنية الاقتصادية والصناعية لإسرائيل، إذ يلعب دورًا محوريًا في تعزيز مكانتها على الساحة العالمية في مختلف المجالات التقنية. وقد أولت دولة الاحتلال اهتمامًا بالغًا لتطوير هذا القطاع، مستثمرةً موارد ضخمة لتحقيق التفوق التكنولوجي؛ ما جعلها وجهةً مرموقةً للشركات العالمية الكبرى في هذا المجال. والآن؛ لا يمكن أبدًا إغفال حقيقة تصدُّر إسرائيل لدول الشرق الأوسط من ناحية التقدم التقني.

وبالنظر إلى تاريخ هذا الكابوس منذ بدايته عام 1948، نجد أن المؤسسين الأوائل قد أدركوا أهمية التركيز على الصناعة والتكنولوجيا. فقد استشعروا الفجوة التقنية في المنطقة العربية، واستغلوا هذا الوضع لصالحهم. وفي غضون أقل من نصف قرن، تمكنت إسرائيل من تحقيق قفزات هائلة في المجال التقني، لتصبح -ليس فقط- في طليعة دول المنطقة، بل وأيضًا من بين الدول الأكثر تقدمًا على المستوى العالمي في مجال التكنولوجيا.

والآن؛ يتفنن هذا الكيان الإجرامي في ارتكاب مجازره ضد أبرياء وأطفال الشعب الفلسطيني في عدوانه الغاشم على غزة؛ مُعتمدًا على أحدث تقنياته وأكثرها تقدمًا، والتي تعتمد اعتمادًا رئيسيًا على الذكاء الاصطناعي. بل وتمكن هذا الكيان المُجرم من تجنيد بعض الشركات التقنية الكبرى التي تعمل لصالحه؛ لتصبح شريكةً في الجريمة القذرة التي يشهدها العالم أجمع ضد أهل غزة.

وإذا كنت لا تعلم عن ماذا أتحدث أنصحك بقراءة هذه المقالة على موقع عرب هاردوير؛ التي استعرضنا فيها توليفةً من الإجرام التقني بين شركة ميتا وحكومة الكيان. إذ لم تجد الشركة التقنية الكبرى أي غضاضة في إرسال بيانات الواتساب الخاصة بمستخدميها من أهل غزة إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي لجيش الاحتلال؛ والتي صاغت منظومةً تقنيةً ذكيةً لاستهداف وقتل المدنيين بشكل فج؛ بل والأطفال أيضًا!

وادي السيليكون الإسرائيلي – Silicon Wadi

يشكل قطاع التكنولوجيا في إسرائيل عمودًا فقريًا في اقتصادها، إذ يسهم بنحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي. وتعكس هذه النسبة الضخمة الأولوية القصوى التي يوليها الاحتلال لهذا المجال مقارنةً بالقطاعات الاقتصادية الأخرى. ولفهم عمق هذا الاهتمام؛ يُجدر بنا العودة إلى بدايات الخمسينيات، حيث بدأت النواة الأولى لهذا القطاع بالتشكل، وذلك بعد بضع سنوات فقط من قيام الدولة عقب اغتصابها للأراضي الفلسطينية. هذا يُظهر الرؤية الاستراتيجية المبكرة لأهمية التكنولوجيا في بناء هذه الدولة الإجرامية وتعزيز قوتها.

وادي السليكون الإسرائيلي - مقر شركة IBM بالأراضي المُحتلة

تمركز هذا القطاع في البداية حول تل أبيب، على امتداد الشريط الساحلي، فيما أصبح يُعرف لاحقًا باسم سيليكون وادي (Silicon Wadi). هذه التسمية تأتي على غرار وادي السيليكون الأمريكي الشهير (Silicon Valley)، مع ملاحظة لافتة وهي استخدام الكلمة العربية «وادي» بدلًا من مرادفها العبري. هذا الاختيار اللغوي قد يُفسَّر كإشارة رمزية إلى طموح إسرائيل في الهيمنة التكنولوجية على المنطقة العربية.

وقد ساهم هذا التركيز المبكر والمستمر على التكنولوجيا بشكل كبير في تشكيل الهوية الاقتصادية لإسرائيل، وتعزيز مكانتها كقوة تكنولوجية إقليمية وعالمية؛ ما يجعلها في مكانة تسمح لها بفرض سيطرتها على كبرى الشركات التقنية؛ بل وتجنيدها أيضًا في صراعاتها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني!

خلال عام 2023 فقط؛ تأسست في إسرائيل أكثر من 600 شركة تقنية ناشئة تقريبًا! وقد تمكنت هذه الشركات الناشئة من جمع استثمارات عالمية بمبالغ إجمالية تخطت الثمانية مليارات دولار. والآن؛ يبلغ حجم القطاع التقني الإسرائيلي نحو 9200 شركة تقنية! بإجمالي قوة عاملة تصل إلى 400 ألف عامل. لاحظ عزيزي القارئ أننا نتحدث هنا عن دُويلة قائمة على أراضي مُحتلة مساحتها لا تتجاوز محافظة متوسطة من محافظات الدول العربية الكبرى، بتعداد سكاني إجمالي لا يتجاوز العشرة ملايين مواطن!

من خلال هذه الاستراتيجية المُركزة، تمكن الاحتلال من تحقيق تقدم اقتصادي ملحوظ؛ ما أدى بدوره إلى إحداث نقلة نوعية في المجالين التقني والعسكري؛ مُتفوقًا بذلك على الدول العربية المجاورة. ونظرًا لهذا التركيز الشديد على القطاع التكنولوجي؛ فإن أي ضربة قوية تستهدف هذا المجال قد تؤدي إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد الإسرائيلي ككل. فهذه الدولة، المحاطة بتحديات جيوسياسية من جميع الجهات، لا تمتلك موارد طبيعية وفيرة كالنفط أو حتى المياه العذبة!

في الواقع، يمكن أن أقول إن رأس المال الحقيقي لإسرائيل يكمن في قوة منظومتها التكنولوجية، التي أصبحت محرك الاقتصاد الرئيسي وعامل جذب أساسي للاستثمارات العالمية. هذا الوضع يجعل القطاع التكنولوجي ركيزةً أساسيةً لاستمرار النمو الاقتصادي والتفوق الإقليمي للاحتلال؛ أو لاستمرار الإجرام ضد الشعب الفلسطيني بعبارة أخرى.

خطة خبيثة ومُحكمة لإنشاء دولة تقنية رائدة!

بلا شك، تحتل إسرائيل اليوم مكانة مرموقة بين الدول الرائدة في مجال التكنولوجيا. ومن الإنصاف الاعتراف بالإنجازات الملموسة التي حققها القطاع التقني الإسرائيلي، سواء على المستوى الفني والابتكاري، أو على الصعيد الاقتصادي والاستثماري.

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه؛ هل يمكن أن ننسب هذا التقدم التكنولوجي حصريًا إلى التفوق الإسرائيلي؟

في الحقيقة؛ لن يكون من المنصف أبدًا إجراء مقارنة مباشرة بين الوضع الإسرائيلي منذ نشأته وبين أوضاع الدول الأخرى في المنطقة. فالعديد من هذه الدول واجهت، ولا تزال تواجه، العديد من التحديات في سعيها لبناء أسس متينة لمنظومتها التكنولوجية. هذا التباين في الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية يضع المقارنة في سياق أكثر تعقيدًا، ويدعونا إلى النظر بعمق أكبر في العوامل المتعددة والتاريخية التي ساهمت في تعزيز هذه الثورة التقنية التي حققها الاحتلال.

فعلى سبيل المثال؛ شهدنا عمالقة التكنولوجيا الغربية تتسارع في نسج خيوط وجودها على الأراضي الفلسطينية المستباحة فور تأسيس هذا الكيان المُحتل، وكأنها تؤسس لرؤية مستقبلية بعيدة المدى. ويكشف هذا النمط من الاستثمار الاستراتيجي عن مُخطط دقيق يهدف إلى تتويج هذا الكيان الإجرامي على عرش التفوق التقني العالمي. وتتسق هذه الاستراتيجية عمومًا مع الخطة البريطانية الأمريكية التي استهدفت إقامة دولة الاحتلال والحفاظ على تفوقها وسط المنطقة العربية؛ وذلك عقب انتصار الفريق الغربي في الحرب العالمية الأولى.

ولنتأمل عزيزي القارئ في حال الشركات الأمريكية الكبرى كمثال واضح على هذه الاستراتيجية؛ فها هي شركة موتورولا، عملاق التكنولوجيا الأمريكي، تُبادر بترسيخ وجودها على هذه الأرض المُحتلة منذ عام 1948، عندما أسست أول منفذ خاص بها في إسرائيل. ثم تعود لتعمق جذورها بعد عقد ونصف، مؤسسةً مركزها الأول للبحث والتطوير في عام 1964؛ لتبدأ حلقةً من التغلغل التكنولوجي على أرض مُحتلة؛ أرضٌ ما زال ترابها رطبًا بدماء الشعب الفلسطيني!

صور نادرة لوجود موتورلا في إسرائيل منذ 1948 (اليمين)، ولزيارة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز للشركة في 1971 (اليسار)

وبالتالي؛ تمكن القطب الغربي المنتصر في الحربين العالميتين من منح القطاع التقني بالاحتلال دفعةً قويةً غير مسبوقة في أي دولة أخرى عالميًا. هذه الدفعة أسست أرضيةً تقنيةً مُتقدمةً سمحت بتمهيد كافة العقبات والتحديات التي تواجهها أي منظومة تقنية في بداياتها. فقد ساهمت هذه الشركات الكبرى، التي سارعت بضخ استثماراتها وأبحاثها التقنية بالكيان، في تهيئة هذا القطاع ليكون قادرًا في المستقبل على استقطاب الشركات الرائدة في مختلف المجالات التقنية.

ومن هنا نتوصل إلى رؤية كاملة حول حقيقة هذا التقدم التقني؛ فقد حظِيَ الكيان بدعم استثنائي من أقطاب التكنولوجيا والاقتصاد في العالم الغربي، ما يُثير التساؤل حول الدوافع الكامنة وراء هذا التعاون غير المسبوق. وكأننا أمام مخطط استراتيجي بعيد المدى، يهدف إلى ترسيخ وجود هذا الكيان المحتل كقوة تقنية عالمية في المستقبل، متخفيًا وراء قناع التقدم والابتكار؛ ليُمارس جرائمه دون أي مسائلة غربية من الدول التي تتشدق علينا دائمًا بحقوق الإنسان!

من الكيبورد إلى البندقية..كيف تعصف الحرب بقطاع التقنية؟

بعد ثمانية أشهر تقريبًا من بدء العدوان الصهيوني على غزة، أصبح القطاع التكنولوجي الإسرائيلي في مواجهة سلسلة من التحديات المتداخلة، داخليًا وخارجيًا. فقد ألقى هذا النزاع الممتد بظلاله الثقيلة على الاقتصاد الإسرائيلي بأكمله، مع تأثير خاص على قطاع التكنولوجيا. فهذه الدويلة بتعدادها السكاني المحدود، الذي لا يتجاوز العشرة ملايين، تعتمد بشكل كبير على نظام التجنيد الاحتياطي، الذي يستدعي قطاعًا واسعًا من المدنيين للخدمة العسكرية.

هذا الوضع الفريد خلق تحديات من نوع خاص للشركات التكنولوجية الإسرائيلية. فمن ناحية؛ وجدت هذه الشركات نفسها تفقد جزءًا كبيرًا من قوتها العاملة المؤهلة لصالح الخدمة العسكرية. ومن ناحية أخرى؛ أدى استمرار حالة عدم الاستقرار إلى تأثيرات سلبية على الاستثمارات الأجنبية والتعاون الدولي، وهما عنصران حيويان لازدهار قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي.

وبالفعل؛ يعتمد جيش الدفاع الإسرائيلي حاليًا على قوة احتياط ضخمة تقدر بنحو 350 ألف جندي، هؤلاء الجنود هم في الأساس مواطنون مدنيون كانوا يشغلون مناصب مهنيةً متنوعًة في مختلف القطاعات الإسرائيلية قبل اندلاع الأزمة الحالية؛ بل ذكرت بعض الصُحف الإسرائيلية أن بعض مؤسسي الشركات الناشئة قد وجدوا أنفسهم مطلوبين للخدمة العسكرية في الحرب!

ونتيجةً لهذا التجنيد واسع النطاق، كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أزمة حادة في القوى العاملة تعصف بقطاع التكنولوجيا. وقد أثَّر هذا النقص في الكوادر التقنية بشكل ملموس على العمليات اليومية للشركات التكنولوجية، وهو قطاع يعتمد بشكل أساسي على السرعة والابتكار لمواكبة التطورات المتسارعة في عالم التقنية.

لم تقتصر آثار هذه الاضطرابات على الصعيد الداخلي فحسب، بل امتدت لتُسبب زعزعةً في ثقة المستثمرين الأجانب. فقد أدت حالة الشك السائدة إلى إثارة مخاوف المستثمرين الأجانب من ناحية ضخ استثمارات جديدة في القطاع التكنولوجي الإسرائيلي، ما يضع تحديًا إضافيًا أمام نمو هذا القطاع الحيوي في المستقبل القريب؛ حتى بعد انتهاء الحرب!

رائد أعمال تقنية في الصباح..طيار مُقاتل في المساء!

صرَّح رامي بن إفرايم، أحد رواد الأعمال التقنية في الكيان، أن شعر بضربة قوية في أعماله بعد اندلاع الحرب؛ فقد ذكر أن نصف العاملين تقريبًا بشركته التقنية Planet Nine طُلبوا للخدمة في الجيش الإسرائيلي. وذكر إفرايم أن الجيش الإسرائيلي يعتمد في عملياته الرئيسية على هؤلاء المدنيون المُسجلون كجنود وضباط احتياط؛ فعلى سبيل المثال، يخدم رئيس عمليات شركة Planet Nine كضابط طيار مُقاتل في سلاح الجو، إذ أكد إفرايم أنه تم استدعاؤه لقيادة طائرة F-16 بهدف تنفيذ مجموعة من عمليات القصف بقطاع غزة. نعم عزيزي القارئ؛ لا يوجد مدنيون في إسرائيل!

رامي بن إفرايم - رئيس ومؤسس شركة Planet Nine للأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، وجينرال سابق بجيش الاحتلال!

وأوضح إفرايم أن الظروف الراهنة فرضت نموذجًا فريدًا لنظام الدوام على العمل بشركاته المختلفة، إذ يُقسم بعض موظفيه وقتهم بين الخدمة في الجيش والعمل بالشركة. فعلى سبيل المثال، يتنقل الموظفون بين ساحات القتال ومكاتب الشركة، مُكرسين نصف أسبوعهم للخدمة في صفوف جيش الاحتلال، والنصف الآخر لمداومة أعمالهم في الشركات التقنية. ولهذا؛ اضطرت بعض الشركات التقنية، خاصةً الناشئة، إلى نقل أعمالها بالكامل خارج دولة الاحتلال.

ومع ذلك، يواجه القطاع التكنولوجي الإسرائيلي تحديًا جوهريًا يتمثل في تراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية، التي طالما شكلت العمود الفقري لنمو وازدهار الشركات التقنية. هذا الانحسار في رأس المال الأجنبي، الذي كان بمثابة شريان الحياة للابتكار التكنولوجي، أصاب القطاع التقني الصهيوني في مقتل. وقد ظهرت آثاره بشكل خاص على الشركات الناشئة؛ فقد شارفت بعض الشركات التقنية على الإفلاس نتيجةً لهذا الانسحاب المفاجئ للمستثمرين الأجانب بعد اندلاع الحرب.

قرارات غير تقليدية ومؤشرات على انهيار الاقتصاد!

وفي ظل ظروف الحرب الراهنة؛ انتهى الأمر بالكيان لاتخاذ إجراءات غير تقليدية. فقد دعا رئيس هيئة الابتكار الإسرائيلية الشركات الكبرى في القطاع الخاص إلى تقديم الدعم المالي للشركات التقنية الناشئة. وتهدف هذه المبادرة إلى إنشاء نظام تمويل تكافلي؛ حيث تساهم الشركات الكبرى الراسخة في دعم عمليات البحث والتطوير للشركات الناشئة التي تواجه خطر الانهيار بسبب الأزمة الراهنة.

ولكن مع مرور الوقت، بدأ الوضع يزداد تعقيدًا؛ فقد كشف استطلاعٌ للرأي، أجرته هيئة الابتكار المذكورة، عن معاناة عملاء الشركات التقنية من تأخيرات ملحوظة في تسليم المنتجات والخدمات. بل إن الأمر وصل في بعض الحالات إلى توقف الخدمات بشكل كامل؛ بالرغم من دفع العملاء لثمن هذه الخدمات بشكل مُسبق! وتشير هذه المؤشرات بوضوح إلى أن الشركات التقنية الإسرائيلية تمر بمرحلة حرجة من التدهور.

تُلقي هذه التطورات الضوء على عمق التحديات التي يُواجهها القطاع التقني الإسرائيلي، وتطرح تساؤلات جدية حول قدرته على الصمود والتعافي في ظل استمرار الأزمة الحالية!

في النهاية؛ اضطر البنك المركزي الإسرائيلي إلى خفض الفائدة إلى 4.5% تقريبًا، وهو قرار جريء يُنذر بحجم الكارثة الاقتصادية التي تمر بها دولة الاحتلال. والمُثير هنا أن كل هذه المؤشرات الاقتصادية السلبية لن تجدها في وسائل الإعلام الغربي، فهذه المنصات الإعلامية المُؤدلجة تُحاول بشتى الطرق تمهيد الطريق أمام حكومة نتنياهو للاستمرار في جرائمه العسكرية تجاه شعب غزة!

البنك المركزي للاحتلال

واتخذ البنك المركزي الإسرائيلي أيضًا بعض القرارات الاقتصادية الأخرى غير المُعتادة؛ فقد تدخل البنك المركزي بشكل مُباشر لدعم الشيكل الإسرائيلي، العملة الرسمية للاحتلال، وذلك لتثبيت سعره أمام الدولار الأمريكي. وبلغ هذا الدعم الحكومي إلى عملة الشيكل نحو 7.3 مليار دولار تقريبًا تكبدتها حكومة نتنياهو وسط التداعيات الاقتصادية الأخرى التي تعصف بالكيان خلال حربه الغاشمة ضد أهل غزة.

الكوادر التقنية تُغادر الأراضي المُحتلة

ساهمت العديد من العوامل في تدهور المنظومة التقنية الإسرائيلية؛ في مقدمتها نزوح الكفاءات والخبرات من هذا القطاع الحيوي عالي التخصص، إذ شملت تلك الظاهرة الكوادر الأجنبية والإسرائيلية على حدٍ سواء. وطبقًا للتقارير الإعلامية، فقد شهد الاحتلال موجة هجرة ملحوظةً للعاملين في قطاع التكنولوجيا نحو الخارج. وذلك بسبب جاذبية الفرص الضخمة المُتاحة في الدول الغربية المُتقدمة أمام هذه الكوادر؛ إذ يحظى المجال التقني عمومًا بأهمية متزايدة على الصعيد العالمي.

أفادت التقارير الصحفية الإسرائيلية بهروب عشرات الآلاف من العاملين بالقطاعات الاقتصادية المُختلفة خارج الأراضي المُحتلة؛ بينما امتنع نحو 100 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية عن العمل لصالح شركات الكيان!

إن طبيعة القطاع التكنولوجي، الذي يعتمد بشكل أساسي على المهارات والخبرات الهندسية النادرة عالميًا، رفع الطلب بشكل كبير على هذه الكوادر التقنية المُتخصصة. وقد خلق هذا الوضع تحديًا مزدوجًا للكيان؛ فمن جهةٍ، تواجه الدولة المُجرمة صعوبةً في الاحتفاظ بمواهبها المحلية، ومن جهةٍ أخرى؛ تجد نفسها في منافسة شرسة لاستقطاب الكفاءات العالمية في ظل الظروف الراهنة المحفوفة بأهوال الحرب والانهيار الاقتصادي المحتوم!

وفي استجابة سريعة لهذه التطورات؛ قررت حكومة الاحتلال إصدار المزيد من التسهيلات التي من شأنها زيادة عدد العمالة الخارجية داخل الأراضي المُحتلة. فعلى سبيل المثال، قررت الحكومة الإسرائيلية زيادة عدد العمالة الأجنبية من 50 ألف عامل إلى 70 ألف عامل، ولكن القضية هنا ليست في تعديل القوانين فحسب! فالمبدأ نفسه بات مرفوضًا أمام العديد من كوادر التقنية.

لك أن تتخيل عزيزي القارئ أن نجل مجرم الحرب نتنياهو يُقيم على أراضي الولايات المُتحدة بعيدًا عن أهوال الحرب؛ فمن يجرؤ الآن أن يُفكر في القدوم إلى هذه الأرض المُشتعلة بالحرب؛ تاركًا كل الفرص الغربية؟

ركود اقتصادي تقني غير مسبوق منذ 10 سنوات

بعد أقل من شهرين فقط من اندلاع الحرب؛ تأثر القطاع التقني الإسرائيلي اقتصاديًا بحالة ركود وصلت إلى 56%، وهي نسبة لم يشهدها الاحتلال منذ 10 سنوات تقريبًا طبقًا لتقارير الإعلام الإسرائيلي. وبلغت قيمة الخسائر في القطاع التقني الصهيوني نحو 9.4 مليار دولار خلال بضعة أشهر! ويُمثل هذا الرقم قيمة الانخفاض في صفقات الخروج التي أجرتها الشركات التقنية الناشئة؛ ذلك بعد فشلها في الاستمرار مع اندلاع الحرب.

وطبقًا للبيانات الأولية السنوية التي جمعها مركز الأبحاث IVC وLeumitech، وهو ذراع مصرفي تابع لبنك لئومي الإسرائيلي المتخصص في الخدمات المصرفية لشركات التكنولوجيا؛ أظهرت البيانات أن عدد الصفقات انخفض بنسبة 44% تقريبًا مقارنة بالعام السابق، حيث تم تسجيل 392 معاملة تمويل على مدار عام 2023، مسجلاً بذلك أدنى رقم منذ عام 2015 على الأقل. وبالمثل، انخفض إجمالي التمويل الذي حصلت عليه الشركات التقنية الناشئة بالاحتلال بنحو 15% تقريبًا مقارنةً بالربع السابق للحرب، كما انخفض عدد الصفقات في القطاع التقني أيضًا بنسبة 17%.

استثمارات القطاع التقني في إسرائيل منذ عام 2015 حتى نهاية عام 2023 - المصدر: IVC Online

ولتدرك عزيزي القارئ مدى الانحدار الذي وصل إليه هذا القطاع، كانت إسرائيل تفخر بتأسيس 1300 إلى 1400 شركة تقنية سنويًا؛ والآن، وبعد اندلاع الحرب، لم يتخطَ عدد الشركات التقنية الناشئة التي تأسست عقب حرب غزة حاجز الـ 400 شركة! ويُعد هذا المعدل المُتدني مساويًا لمعدل تأسيس الشركات التقنية بإسرائيل منذ 20 عامًا تقريبًا.

بعبارة أخرى؛ لم يشهد الكيان هذا الركود في تأسيس الشركات التقنية الناشئة منذ 20 عامًا!

وادي السيليكون الإسرائيلي وجفاف التمويل الدولي!

يعتمد وادي السيليكون الإسرائيلي بشكل أساسي على التمويل الأجنبي، خاصةً في الشركات الناشئة التي تعتمد عملياتها في البحث التطوير بشكل رئيسي على الاستثمارات الأجنبية الضخمة. وكما ذكرنا بالأعلى؛ فإن لتفوق التقني الإسرائيلي لا يُنسب فقط للجهود الإسرائيلية، إذ تتطلب عمليات الابتكار ملايين، بل مئات الملايين، من الدولارات التي تحصل عليها الشركات من المستثمرين الأجانب.

نُنوه هنا أن الولايات المتحدة تتصدر قائمة المصادر الرئيسية لهذه الاستثمارات الأجنبية في القطاع التقني بالاحتلال. وتلعب هذه الاستثمارات الأمريكية دورًا محوريًا في تشكيل وتعزيز القطاع التقني الإسرائيلي!

وطبقًا لإحصائيات الاستثمار الإسرائيلية؛ شكَّلت الاستثمارات الأجنبية نحو 80% تقريبًا من استثمارات رأس المال المُخاطر في الشركات التقنية الناشئة خلال عامي 2021 و2022. وتُبين هذه النسبة الضخمة مدى اعتماد الشركات التقنية الناشئة على الاستثمارات الأجنبية.

والآن؛ يواجه قطاع التقنية الإسرائيلي جفافًا في الاستثمارات الأجنبية بسبب الحرب؛ فهذه الظروف لن تشجع أبدًا على الاستثمار، خاصةً في ظل حكومة مجنونة مهووسة بالحرب وسفك الدماء. وفي أبريل الماضي؛ نُشرت بعض التقارير الخاصة بالمعهد البحثي الإسرائيلي RISE Israel، والتي استندت على استطلاعات رأي أجراها المعهد بشركات القطاع التقني الإسرائيلي. وأفادت هذه التقرير بانخفاض إجمالي الاستثمارات الأجنبية في الشركات التقنية للاحتلال بنسبة 30% تقريبًا منذ اندلاع الحرب.

وتضمنت التقارير أيضًا انخفاض عدد المستثمرين الأجانب بالأراضي المحتلة بنسبة تصل إلى 23% خلال مدة الستة أشهر بين اندلاع الحرب وموعد نشر التقرير في أبريل الماضي. كما انخفضت إجمالي الاستثمارات بالشركات التقنية الناشئة لتصل إلى 1.6 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2024، وهو رقم متدني لم يشهده الاحتلال منذ عام 2017!

مصانع إنتل على الأراضي المحتلة

ولكن تمثلت الضربة الكبرى لوادي السيليكون الإسرائيلي في إلغاء إنتل لاستثماراتها الضخمة بالكيان الشهر الماضي! فقد قررت إنتل بشكل مفاجئ وصادم تعطيل واحدة من أكبر صفقاتها على الأراضي المُحتلة، والتي كانت تتضمن إنشاء محطة صناعية ضخمة لتطوير الرقاقات في مدينة كريات جات. وكانت إنتل تعتزم المُساهمة بمبلغ 15 مليار دولار كاستثمارات مُباشرة تُضخ لبناء هذه المحطة، والتي تتكلف إجماليًا 25 مليار دولار تقريبًا.

لاحظ عزيزي القارئ أننا نتحدث عن واحدة من أكبر الشركات التقنية الأمريكية، والتي تُعد شركةً رائدةً على مستوى العالم في مجال تطوير الرقاقات والمُعالجات المركزية. وتحظى هذه العملاقة التقنية تحديدًا بعلاقة حميمة مع الاحتلال؛ فقد بدأت أعمالها على الأراضي المُحتلة منذ 50 عامًا تقريبًا في 1974؛ لتكون في طليعة الشركات الأمريكية التي دفعت القطاع التقني الإسرائيلي ليصل إلى ما هو عليه الآن من تقدم وازدهار.

ولكن أتدري ما المُضحك هنا؟ هذه الأخبار تحديدًا لم أجدها أبدًا على وسائل الإعلام الغربي! فقد اضطررت إلى البحث في الصُحف الإسرائيلية المُعارضة لأتمكن من جمع تفاصيل هذه الأخبار. نُشرت هذه الأخبار على عدد محدود من المواقع الإخبارية العربية، وعلى رأسها عرب هاردوير بالطبع! كما وجدتها أيضًا على قلة معدودة من مواقع الهاردوير والتقنية.

ولكن تعمدت وسائل الإعلام الكبرى أو ما يُطلق عليها (Mainstream Media) تجاهل هذه الأخبار؛ فهذه الوسائل المُؤدلجة لن تنشر أخبارًا سلبيةً عن الاقتصاد الإسرائيلي خلال حربه على غزة! واليوم وأنا أكتب لكم هذا المقال، تُشن حملةٌ شرسةٌ ضد وسائل الإعلام الكبرى على منصة X، فقد تبين للجميع وقاحتها في التدليس خلال تغطيتها لمحاولة اغتيال المُرشح الأمريكي دونالد ترامب. والآن؛ أدرك المواطن الغربي أخيرًا أن هذه المنصات الإعلامية كانت تتلاعب بعقله على مدى سنوات طويلة! وهو ما يُفيد قضيتنا الفلسطينية التي عانت من تدليس الإعلام الغربي منذ عام 1948.

ولتعلم عزيزي القارئ؛ 80% من المعلومات التي أُقيمت عليها هذه المقالة غير موجودة على وسائل الإعلام الغربي!

في الختام، يبدو أن الحرب على غزة قد كشفت عن هشاشة القطاع التقني الإسرائيلي الذي طالما تباهى به الاحتلال. فرغم سنوات من الدعم الغربي الأمريكي غير المحدود والاستثمارات الضخمة؛ بدأ القطاع التقني الإسرائيلي في الترنح تحت وطأة الحرب الظالمة. ولعل في هذا الانهيار التقني والاقتصادي درسًا للعالم بأن التقدم الحقيقي لا يُبنى على الظلم والاحتلال، وأن الابتكار الذي يستند إلى سفك الدماء لن يدوم.

وبينما يحاول الإعلام الغربي التعتيم على هذا الواقع، تبقى الحقيقة شاهدةً على أن العدالة ستنتصر في النهاية، وأن الشعب الفلسطيني الصامد سيظل رمزاً للمقاومة والصمود في وجه الطغيان؛ مهما بلغت قوة المحتل وتقدمه التقني!