أتذكر دائمًا الخطوة الأولى بعد تثبيت ويندوز جديد على جهاز الكمبيوتر الخاص بي، وهي تنزيل متصفح جوجل كروم. ولن أُبالغ إذا اعتبرت هذه الخطوة طقسًا أساسيًا عند جميع مستخدمي الكمبيوتر فور تثبيت الويندوز! بل حتى إذا فضَّل البعض استخدام متصفح آخر مثل فايرفوكس؛ سيكون جوجل على الأغلب هو محرك البحث الافتراضي عند الجميع. فقد فرضت جوجل بلا شك هيمنتها على عالم محركات البحث.

قد يرى البعض أن جوجل اكتسبت أفضلية طبيعية نظرًا لانتشارها خلال اللحظات الأولى للإنترنت العام، ولكن لا يُمكن أبدًا إنكار جهد الشركة في تطوير خوارزميات جوجل بشكل مستمر، ليصبح اسم جوجل مُرتبطًا بمفهوم «البحث على الإنترنت» في أذهان المليارات من مستخدمي الشبكة العنكبوتية.

ولكن مع المنافسة المستمرة في القطاع التقني؛ نقف الآن أمام ظاهرة مثيرة للجدل، وهي احتكار بعض الشركات الكبرى لقطاعات واسعة من السوق التقني. شركات مثل جوجل وميكروسوفت وأمازون وميتا أصبحت أسماءً مألوفةً على كل جهاز ذكي، ليس فقط بسبب ابتكاراتها الرائدة، ولكن أيضًا بسبب هيمنتها شبه الكاملة على مجالات بعينها في عالم التقنية. فهل أدى هذا الاحتكار إلى إبطاء وتيرة الابتكار؟ أم أنه وفر الموارد اللازمة لتطوير تقنيات جديدة وثورية كالثورة التي نشهدها حاليًا في مجال الذكاء الاصطناعي؟

قد يُهمك أيضًا:

يثير هذا الوضع العديد من التساؤلات الأخرى حول طبيعة المنافسة في عالم التقنية. فكيف تمكنت شركة واحدة من السيطرة بهذا الشكل على جانب أساسي من استخدامنا للإنترنت؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذه الهيمنة على مستقبل الابتكار وحرية الاختيار للمستخدمين؟

ولكن؛ لم يقتصر الأمر على إثارة الجدل بالأوساط التقنية فحسب؛ بل امتد وصولًا إلى ساحات القضاء بالولايات المتحدة. ذلك بعد عدد من الدعاوى القضائية التي تواجهها الشركات التقنية الكبرى بسبب احتكار السوق وتضييق المنافسة على الشركات الناشئة. وكان آخرها الدعوى القضائية التي أقامتها وزارة العدل الأمريكية ضد جوجل بسبب احتكار العديد من الخدمات التقنية المختلفة؛ والتي قد تؤدي في النهاية إلى تفكيك شركة جوجل إلى شركات منفصلة ومستقلة للتخفيف من وطأة الاحتكار التقني.

في هذه المقالة سننظر إلى مستقبل المنافسة في عالم التقنية. هل هناك مجال لتغيير الوضع الراهن؟ وما هي التحديات التي تواجه الشركات الناشئة في محاولاتها لمنافسة هؤلاء العمالقة؟ كما سنقدم تحليلًا شاملًا لقضية الاحتكار في القطاع التقني؛ مستكشفين جذورها وتأثيراتها وآفاقها المستقبلية.

الاحتكار تحت المجهر: كيف أثر الاحتكار على المشهد التقني؟

يُعرَّف الاحتكار بأنه حالة سوقية تتمحور حول سيطرة شركة واحدة أو كيان منفرد على إنتاج سلعة معينة أو تقديم خدمة مُحددة، ما يمنحها القدرة على التحكم في الأسعار والعرض دون منافسة حقيقية. ولهذا؛ فإن الاحتكار يؤدي بالضرورة إلى غياب البدائل الفعالة للمستهلكين، ما يضع القوة السوقية بشكل كامل في يد الشركة المُحتكرة. وتتجلى هذه السيطرة في قدرة الشركة على رفع الأسعار، مع التحكم في جودة الخدمة دون ضغوط تنافسية. وفي بعض الحالات؛ يُمكن أن يصل الأمر إلى إعاقة دخول المنافسين الجدد إلى السوق.

وفي القطاع التقني، وهو موضوع هذه المقالة؛ يمكن أن يأخذ الاحتكار أشكالًا أكثر تعقيدًا، إذ تتداخل العديد من العوامل المُعقدة والمتعددة لترسيخ الهيمنة السوقية. ورغم أن بعض الاحتكارات قد تنشأ نتيجةً للابتكار والكفاءة؛ فإن آثارها على المدى الطويل تُثير مخاوف بشأن تقييد الإبداع والتنوع السوقي. وهو ما يدفع الحكومات والجهات التنظيمية إلى التدخل لضمان بيئة تنافسية عادلة تحمي مصالح المستهلكين وتحفز الابتكار المستمر.

لمخاطبة هذه القضية سنحتاج أولًا إلى تحليل الأسباب والعوامل التي ساعدت الشركات التقنية الكبرى على احتكار هذا المجال. فالسلعة في هذه السوق سلعةٌ غير مادية؛ سلعةٌ تتمثل في خدمةٍ تُقدمها الشركة التقنية؛ بل إنها قد تقتصر على تجربة المستخدم فقط في بعض الحالات.

ولهذا؛ أصبح الاحتكار في قطاع التقنية معتمدًا على العوامل والمفاهيم الآتية:

  • تأثير الشبكة (Network Effect)
  • الهيمنة على براءات الاختراع
  • الاستحواذ على الشركات
  • اقتصاديات الحجم (Economies of scale)
  • أفضلية الأقدمية وتراكم البيانات

تأثير الشبكة (Network Effect)

عند بداية العدوان الصهيوني على غزة، دعا العديد من النشطاء إلى مقاطعة منصات التواصل الاجتماعي التابعة لميتا. وذلك بسبب انحيازها الفج للإجرام الصهيوني بالأراضي الفلسطينية. ولكن كان السؤال هنا؛ أين البديل؟ هل عجز العالم عن تطوير منصات موازية لفيسبوك أو انستغرام؟ بالطبع لا، بل يوجد العديد والعديد من هذه المنصات التي تُقدم تجربةً شبه مُطابقة لتطبيقات ميتا. لكن سيتمثل الجانب السلبي دائمًا في انخفاض عدد المستخدمين؛ فمنصات التواصل الاجتماعي تستمد قوتها من ضخامة أعداد مستخدميها.

تأثير الشبكة

ما وصفته بالأعلى عزيزي القارئ هو أدق تعريف لتأثير الشبكة! فهذا المفهوم في علم الاقتصاد يُشير إلى الزيادة في قيمة المنتج نتيجةً للزيادة في إقبال المستهلكين عليه؛ وهو ما نشهده الآن في أغلب الخدمات التي تُقدمها الشركات التقنية الكبرى، مثل الأندرويد من جوجل، والويندوز من ميكروسوفت، وخدمات التواصل الاجتماعي من ميتا، وغيرها.

وهذا التأثير لا يتوقف عند منصات التواصل الاجتماعي فحسب، بل يمتد إلى أغلب الخدمات التقنية التي نستخدمها في حياتنا اليومية. فعلى سبيل المثال؛ تستفيد الشركات المُطورة لأنظمة التشغيل من هذا التأثير بشكل كبير، مثل جوجل وميكروسوفت وآبل. فالأنظمة الثلاثة التي تُطورها هذه الشركات الكبرى تُهيمن على قطاع أنظمة التشغيل دون وجود أي منافس على الساحة! بل إنها أيضًا لا تُنافس بعضها البعض؛ فكل نظام تشغيل من هذه الأنظمة مُوجه إلى نوع مختلف ومستقل بذاته من الأجهزة الذكية.

ويلعب تأثير الشبكة هنا دورًا حاسمًا في ترسيخ هذه الحالة الاحتكارية؛ فأنظمة التشغيل التي تضم أعدادًا كبيرةً من المستخدمين تستفيد من الدعم الواسع للبرمجيات، إذ يهدف المطورون بطبيعة الحال إلى تطوير برمجياتهم الجديدة بشكل متوافق مع أنظمة التشغيل الرائجة. ولهذا؛ اندثرت أنظمة التشغيل المنافسة تدريجيًا أمام هذه الهيمنة المُدمرة التي لم يشهدها العالم أبدًا في أي صناعة أخرى.

يوجد نوعان لتأثير الشبكة على قيمة الخدمة المُقدمة؛ وهما التأثير المباشر، والتأثير غير المباشر. وتظهر آثار كلا النوعين في المشهد التقني؛ وهذا دليل واضح مدى فاعلية هذا التأثير في ترسيخ حالة الاحتكار السائدة في قطاع التقنية.

تأثير الشبكة المباشر (Direct Network Effect)

يُشير هذا النوع إلى زيادة قيمة الخدمة بشكل مباشر مع اتساع قاعدة المستخدمين. وهذا النوع يظهر بشكل واضح في منصات التواصل الاجتماعي الرائجة. وتظهر فاعلية هذا النوع مثلًا في انحسار شعبية منصات مثل Threads التابعة لشركة ميتا، وTruth الخاصة بدونالد ترامب، حتى أصبحت غير قادرة على منافسة X بأي حال من الأحوال. فقد تمكنت X من الحفاظ على صدارتها لهذا النوع من المنصات الاجتماعية بفضل نجاحها في الاحتفاظ بالمستخدمين؛ حتى رغم حملات المقاطعة العنيفة التي تعرضت لها المنصة بعد تصريحات ماسك التي اعتبرها اللوبي الصهيوني معاداةً للسامية!

منصة X

القوة هنا لا تكمن في الأموال والدعاية الإلكترونية؛ بل إنها قوةٌ طبيعيةٌ استمدتها X من قاعدتها الجماهيرية الواسعة. فهي نِتاج أعوام عديدة من النجاح والانتشار الواسع لمنصة تويتر في الأساس. ومن هنا نُدرك أن قرار إيلون ماسك بشراء هذه المنصة كان قرارًا حكيمًا؛ إذ أدرك الملياردير الأمريكي أن منافسة تويتر ضربٌ من ضروب الخيال، فالسبيل الوحيد لدخول هذا العالم هو الاستحواذ على أحد الحيتان.

تأثير الشبكة غير المباشر (Indirect Network Effect)

يُشير هذا النوع من تأثير الشبكة إلى الزيادة الملحوظة في قيمة الخدمة نتيجةً لتوافر وتطور الخدمات التكميلية المرتبطة بها. فمع نمو قاعدة المستخدمين للخدمة الأصلية؛ تزداد جاذبيتها للمطورين وأصحاب المشاريع الذين يرون فيها فرصة لتقديم منتجات وخدمات مُكملة للانتفاع من قاعدة المستخدمين الواسعة. وتُعزز هذه الخدمات التكميلية بدورها وظائف وإمكانيات الخدمة الأساسية، ما يرفع من قيمتها وجودتها بشكل كبير في نظر المستخدمين.

ونتيجةً لذلك، تجذب الخدمة المزيد من المستخدمين، ما يخلق حلقةً إيجابيةً تُضاعف النمو والتطور. وتؤدي هذه الديناميكية إلى خلق بيئة متكاملة ومتنامية حول الخدمة الأساسية، بيئةٌ تُعزز من مكانتها في السوق وتجعلها أكثر قوةً وتأثيرًا مع مرور الوقت، ناهيك عن ترسيخ ولاء المستخدمين للشركة المُقدِّمة لهذه الخدمة الأساسية، ما يضمن استمرار هيمنة الشركة على السوق مع استحالة تقديم المنافسين لبدائل مُماثلة في القيمة والجودة.

أعتقد الآن أنك تعلم كيف ينطبق هذا التأثير على الشركات التقنية. فهو المحرك الأول لهيمنة جوجل وميكروسوفت وآبل على سوق أنظمة التشغيل. أتذكر في بدايات ثورة الهواتف الذكية وجود العديد من أنظمة التشغيل المختلفة؛ نظام BadaOS الخاص بسامسونج، ونظام Windows Phone، وغيرها. ولكن اندثرت هذه الأنظمة كالعادة حتى اختفت تمامًا من على الساحة. فقد كانت شعبية الأندرويد كاسحةً لأي مُنافس؛ شعبية استمدها بشكل أساسي من اتساع قاعدة المستخدمين.

نظام تشغيل BadaOS

والآن بعد أن استعرضنا مدى فاعلية هذا التأثير في ترسيخ حالة الاحتكار؛ ما الحل؟ بصراحة لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال، بل حتى الجهات التنظيمية نفسها عجزت عن حل هذه المعضلة. فهي أفضلية طبيعية يحصل عليها مُقدم الخدمة التقنية بعد بناء اسم عريق على مدار سنوات عديدة من الإبداع والابتكار؛ ولن تجرؤ أي جهة على التحكم في سلوكيات المستخدمين للعدول عن استخدام الخدمات المُقدمة من شركة ما؛ فهذا يتنافى مع أهم وأبرز القيم الإنسانية التي تقوم عليها الحضارات الغربية المتصدرة للمشهد التقني؛ الحرية!

الهيمنة على براءات الاختراع

تُشكل براءات الاختراع أحد أهم الأسلحة التي تستخدمها الشركات التقنية الكبرى لإحباط المنافسين. ولهذا تعتمد الشركات الكبرى على دعم المواهب والكوادر لإصدار أكبر قدر ممكن من براءات الاختراع؛ إذ يرى الخبراء أن هذه الشهادات قد لعبت دورًا محوريًا في تعزيز احتكار عمالقة التقنية للعديد من المجالات الواعدة، كالذكاء الاصطناعي على سبيل المثال. ولتتخيل مدى اهتمام الشركات التقنية بهذا الأمر؛ فإن الشركات الكبرى تُسجل آلاف البراءات سنويًا، وذلك حتى تقطع الطريق أمام أي شركة ناشئة قبل أن تفكر في دخول هذا العالم من أي جهة!

وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى الاعتماد على هذه الاستراتيجية بشكل دفاعي؛ فبعض الشركات تسعى إلى تنفيذ استراتيجية تُعرف بـ «تجميع البراءات الدفاعية». وهي استراتيجية تستطيع الشركات الكبرى فقط تنفيذها بفضل قوتها ونفوذها في السوق، إذ تسعى هذه الشركات إلى إصدار براءات اختراع لجميع الخدمات التي تُقدمها، بل إن الأمر قد يصل أحيانًا إلى شراء براءات اختراع للخدمات التي يُمكن أن تنافس خدمات الشركة. ولهذا تستطيع حيتان التقنية إجهاض محاولات المنافسة قبل أن تبدأ أصلًا.

براءات الاختراع

تخلق هذه الاستراتيجية حواجز دخول هائلة أمام الشركات الناشئة والمنافسين الجُدد؛ الذين يجدون أنفسهم مُقيدين بشبكة معقدة من البراءات تحد من قدرتهم على الابتكار بحرية؛ فأي فكرة إبداعية قد تخطر على أذهان المنافسين ستكون مُعدة بالفعل في براءة اختراع مملوكة للشركة الكبرى. كما تستخدم بعض الشركات التقنية الكبرى أيضًا مكتبتها العملاقة من براءات الاختراع كأداة للضغط في المفاوضات التجارية، وحتى في الدعاوى القضائية ضد المنافسين.

وإذا تأملنا حال القطاع التقني اليوم؛ سنجد أن أغلب براءات الاختراع الخاصة بالتقنيات الثورية صادرةٌ من الشركات التقنية الأخرى. الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال، والذي ارتبط مؤخرًا بأسماء بعض الشركات الناشئة مثل OpenAI؛ هل كنت تعلم عزيزي القارئ أن نشأته الأولى كانت في جوجل؟

في عام 2017، أصدرت جوجل ورقةً بحثيةً عن تقنية جديدة تُسمى المُحولات (Transformers). وهي التقنية التي تعتمد عليها فكرة عمل النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)؛ أي أنها أساس الثورة الحالية التي يشهدها العالم في مجال الذكاء الاصطناعي. ففي عام 2021؛ أُطلق على هذه التقنية اسم «نماذج الأساس»، وذلك في بعض الأبحاث العلمية في مجال الذكاء الاصطناعي بجامعة ستانفورد.  

مهندسو جوجل الثمانية الذين نشروا ورقة المحولات البحثية

وبعد إصدارها بعامين فقط في 2019؛ نجحت جوجل في الحصول على براءة اختراع خاصة بهذه التقنية. ولكن لحسن الحظ أن جوجل أطلقت العديد من النماذج القائمة على هذه التقنية بشكل مفتوح المصدر، وهو ما أشعل فتيل الثورة التقنية في مجال الذكاء الاصطناعي. ولكن لماذا لم ترغب جوجل في استغلال هذه الفرصة؟

في الواقع حدث ذلك نتيجةً لظاهرة مُتكررة الحدوث تُسمى بـ «هدنة براءات الاختراع». وتحدث هذه الظاهرة بسبب امتلاك الشركات التقنية العديد من براءات الاختراع التي قد تؤثر على خدمات ومنتجات الشركات الأخرى. فعلى سبيل المثال؛ تمتلك ميكروسوفت وآبل براءات اختراع يُمكنها أن تضرب جوجل في مقتل، والعكس صحيح. ولهذا تُفكر الشركات التقنية الكبرى ألف مرة قبل الدخول في هذه الحرب!

من هنا نصل إلى نقطة محورية في رحلة صعود أقوى الشركات التقنية الناشئة في الوقت الحالي؛ شركة OpenAI. والتي ارتفع تقييمها ليصل إلى 100 مليار دولار في وقت كتابة هذه المقالة! ولكن كيف تمكنت OpenAI من المناورة وسط حرب براءات الاختراع؟ تكمن الإجابة هنا في ميكروسوفت ودعمها القوي لـ OpenAI. إذ أتاحت المجال أمام الشركة الناشئة لتضع كل تركيزها على تطوير تقنياتها الرائدة، فيما تصدرت ميكروسوفت ساحة القتال، نيابةً عن OpenAI، مع حيتان التقنية.

ساتيا ناديلا رئيس ميكروسوفت وسام ألتمان رئيس OpenAI

عمومًا؛ هذه الهيمنة على براءات الاختراع لا تخلو من التحديات والانتقادات؛ فهناك دعوات متزايدة لإصلاح نظام البراءات لضمان توازن أفضل بين حماية الابتكار وتشجيع المنافسة. كما أن بعض الحكومات والهيئات التنظيمية بدأت في النظر في كيفية الحد من استخدام البراءات كأداة للاحتكار، مع التركيز على تشجيع الترخيص العادل للتقنيات الأساسية بهدف حماية حقوق المُبدعين.

الاستحواذ على الشركات الناشئة

تُعد ظاهرة الاستحواذ على الشركات عاملًا رئيسيًا في تعزيز الاحتكار بالقطاع التقني، إذ تلجأ الشركات الكبرى بشكل متزايد إلى هذه الاستراتيجية لترسيخ هيمنتها وتوسيع نطاق سيطرتها على السوق. إذ تُتيح هذه الاستراتيجية للشركات العملاقة ابتلاع المنافسين الناشئين أو الاستحواذ على تقنيات واعدة قبل أن تشكل تهديدًا حقيقيًا لمكانتها في السوق.

علاوةً على ذلك؛ تُمكن هذه الممارسة الشركات العملاقة من ضم التقنيات والمواهب الواعدة إلى ترسانتها، ما يُعزز قدرتها على الابتكار ويحرم المنافسين المحتملين من الوصول إلى هذه الموارد القيمة. وفي كثير من الأحيان؛ تستخدم الشركات الكبرى مواردها المالية الهائلة لتقديم عروض مُغرية للشركات الناشئة الواعدة، ما يجعل من الصعب على هذه الشركات رفض مثل هذه العروض؛ خاصةً عند تعرض الشركات الناشئة إلى العثرات الطبيعية التي تواجهها أي شركة في بداية مسيرتها.

ولهذا؛ تستغل الشركات التقنية الكبرى ما يسمى بوادي الموت (Valley of Death) للشركات الناشئة، وهو الجزء الغاطس من منحنى صعود الشركات التقنية؛ إذ تمر أغلب الشركات التقنية الناشئة عبر هذا الوادي خلال رحلة صعودها. وهنا تجد هذه الشركات نفسها أمام خيارين: إما الاستمرار في المنافسة في بيئة صعبة للغاية مع التعرض إلى تضييق شديد من حيتان التقنية، أو بيع أعمالها لإحدى الشركات الكبرى ضمن ما يُعرف باستراتيجية الخروج (Exit Strategy).

منحنى صعود الشركات الناشئة ووادي الموت

ومع ذلك، فإن هذه الممارسات بدأت تثير اهتمام الجهات التنظيمية والحكومات حول العالم. بل إن هناك دعوات متزايدة لتشديد الرقابة على عمليات الاستحواذ في القطاع التقني بالآونة الأخيرة. مع التركيز على تقييم الآثار المستقبلية المحتملة لهذه الصفقات على المنافسة، بدلًا من النظر فقط إلى حجم الشركات المعنية في الوقت الحالي.

عند إلقاء نظرة على المشهد التقني؛ نجد أن جوجل استحوذت على شركة DeepMind الشهيرة للذكاء الاصطناعي في عام 2014. ناهيك عن استحواذها على منصة YouTube منذ عام 2006، وشركة Alter في عام 2022. ولا ننسى ميكروسوفت التي استحوذت على العديد من الشركات الناشئة، خاصةً في مجال الذكاء الاصطناعي؛ مثل Hexadite، وPowerset، وNuance Communications. وميتا أيضًا التي استحوذت على أقوى منصات التواصل الاجتماعي؛ انستغرام وواتساب. كما تتصدر آبل هذه القائمة بأكثر من 20 عملية استحواذ للشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي.

باختصار؛ المشهد التقني الحالي يتألف من أربع شركات كبرى تبتلع أي شركة ناشئة، لاحظ أننا لم نتطرق إلى إنفيديا التي ابتلعت وحدها عشرات الشركات في قطاع الهاردوير المُوجه للذكاء الاصطناعي مثل شركة Arm Holdings!

في النهاية؛ يبقى التحدي الأكبر هو إيجاد توازن بين السماح للشركات الكبرى بالنمو والتوسع من خلال الاستحواذات المشروعة، وبين ضمان بيئة تنافسية صحية تسمح للشركات الناشئة بالازدهار وتقديم ابتكارات جديدة للسوق. هذا التوازن ضروري لضمان استمرار الابتكار والتقدم التكنولوجي، مع الحفاظ على مصالح المستهلكين وضمان تنوع الخيارات في السوق الرقمية.

اقتصاديات الحجم (Economies of scale)

تُعرَّف ظاهرة اقتصاديات الحجم في علم الاقتصاد بأنها المزايا الاقتصادية التي تحصل عليها الشركات الكبرى بسبب ضخامة حجم أعمالها. ويعني هذا أن تكلفة إنتاج المنتج الواحد تتناقص كلما زاد حجم الإنتاج الكلي بالشركة. ولكن كيف ينطبق هذا المبدأ على الشركات التقنية؟ وكيف يؤثر أصلًا على تعزيز نشاطها الاحتكاري؟

في الواقع؛ ترتبط هذه الظاهرة بجميع العوامل السابقة التي ذكرناها بالأعلى. فالشركات الكبرى لا تحتاج إلى الإنفاق على الحملات الدعائية والتسويقية بفضل قاعدة المستخدمين الضخمة التي تُشكل تأثير الشبكة كما ذكرنا بالأعلى. ولهذا تُقدم هذه الشركات الكبرى خدماتها التقنية بتكلفة أقل بكثير مقارنةً بالشركات الأخرى الناشئة. وبالتالي تمنح هذه الظاهرة الشركات الكبرى أفضليةً طبيعية لتدمير أي منافس من الشركات الناشئة؛ فالأعباء التسويقية ستُسخر بالكامل عند الشركات الكبرى لتحسين وتطوير الخدمة بشكل يقضي تمامًا على المنافسة.

مُخطط يشرح اقتصاديات الحجم

على سبيل المثال، يُمكن للشركات التقنية الكبرى الاستثمار بكثافة في بناء مراكز بيانات ضخمة لخدمات الحوسبة السحابية. ومع زيادة عدد العملاء؛ تنخفض التكلفة لكل مستخدم؛ ما يُتيح تقديم أسعار تنافسية للغاية يصعب على الشركات الأصغر مجاراتها. وينطبق هذا النمط أيضًا على شركات مثل جوجل وفيسبوك في مجال الإعلانات الرقمية؛ والتي تُقدم خدمات إعلانية أكثر فعاليةً وبتكلفة أقل نظرًا لحجم البيانات وقاعدة المستخدمين الضخمة.

تُمكن هذه الاستراتيجية الشركات الكبرى أيضًا من توزيع التكاليف الثابتة؛ مثل تكاليف البحث والتطوير، وتعزيز البنية التحتية التقنية، وتطوير البرمجيات على قاعدة أكبر من المنتجات أو المستخدمين. ويؤدي ذلك إلى انخفاض التكلفة لكل مستخدم أو لكل خدمة، ما يُمكن الشركة من تقديم خدماتها بأسعار أقل أو بجودة أعلى مقارنة بالمنافسين الأصغر حجمًا.

ولهذا؛ تمنح هذه الاستراتيجية الشركات التقنية الكبرى ميزةً تنافسيةً تصعب مجاراتها.

هذه الديناميكية أيضًا تخلق حلقةً إيجابيةً أخرى للشركات الكبرى؛ فمع نمو أعمال الشركة، زادت قدرتها على الاستفادة من اقتصاديات الحجم، ما يمكنها في النهاية من مضاعفة نموها وتعزيز مكانتها السوقية. وفي المقابل؛ تجد الشركات الصغيرة والناشئة نفسها في موقف صعب، إذ تواجه تحديًا كبيرًا في محاولة منافسة الشركات الكبرى على الأسعار أو جودة الخدمة؛ لينتهي بها المطاف غالبًا باستراتيجية خروج لصالح إحدى الشركات الكبرى التي تستحوذ عليها.

يُشكل تأثير اقتصاديات الحجم تحديًا كبيرًا للمنظمين وصانعي السياسات. فالتحدي يكمن في إيجاد توازن بين السماح للشركات بالاستفادة من كفاءات الحجم الكبير، مع ضمان بيئة تنافسية تسمح للشركات الصغيرة والمتوسطة بالنمو والازدهار. قد يتطلب هذا تدخلات تنظيمية مبتكرة وسياسات تشجع على المنافسة والابتكار، مع الحفاظ على الفوائد التي تقدمها الشركات الكبرى من ناحية الكفاءة والقدرة على الاستثمار في التطوير التقني. وهو أمرٌ يصعب تطبيقه بطبيعة الحال في الأنظمة الرأسمالية.

الأقدمية وتراكم البيانات

تُعد الأقدمية ضمن أهم العوامل التي ساهمت في تعزيز الاحتكار عند العديد من الشركات الكبرى بقطاع التقنية؛ إذ تمنح الأقدمية الشركات الكبرى أفضليةً هائلةً على جميع المنافسين الجُدد. فإذا نظرنا إلى المشهد التقني الحالي؛ سنجد أن أغلب الشركات الكبرى التي تُهيمن على القطاع قد شيَّدت اسمها العريق على مدار سنوات، بل عقود!

تمنح الأقدمية الشركات الكبرى فرصةً فريدةً لبناء قاعدة مستخدمين واسعة، وهي واحدة من أهم العوامل التي ذكرناها بالأعلى في عجلة الاحتكار. فالشركات التي دخلت السوق مبكرًا؛ مثل جوجل في مجال محركات البحث، أو فيسبوك في مجال التواصل الاجتماعي، تمكنت من جذب ملايين المستخدمين قبل ظهور المنافسين القادرين على تقديم خدمات مماثلة. وفي النهاية، كان لهذه الشركات السبق في ترسيخ شبكة مستخدميها قبل أي شركة أخرى؛ مُحققةً أقصى استفادة من «تأثير الشبكة».

مُحرك بحث جوجل في مرحلة البيتا عام 1998!!

وبمرور الوقت؛ تتمكن هذه الشركات من جمع كميات هائلة من البيانات عن سلوك المستخدمين، وتفضيلاتهم، وحتى بياناتهم الشخصية. وتُعد هذه البيانات كنزًا ثمينًا في العصر الرقمي، إذ تمكن الشركات من تحسين خدماتها باستمرار، وتقديم تجارب مُخصصة للمستخدمين، وتطوير منتجات جديدة تُلبي احتياجات السوق بدقة. على سبيل المثال، نجحت جوجل في عملية التطوير المستمر لخدمة البحث بفضل البيانات التي جمعتها على مدى عقود من الاستخدام المكثف لخدمة البحث من جوجل.

وبما أننا في عصر الذكاء الاصطناعي؛ فإن تراكم البيانات يمنح الشركات التقنية أفضليةً كبيرةً هذا المجال الواعد. فكلما زادت كمية البيانات المتاحة؛ تحسنت قدرة الخوارزميات على التعلم والتنبؤ، ما يؤدي في النهاية إلى تحسين جودة الخدمات وزيادة كفاءتها. ولهذا؛ تواجه الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل OpenAI، العديد من الدعاوى القضائية بسبب استخدام المحتوى غير المُرخص في تدريب نماذجها، إذ تضطر في النهاية إلى إنفاق مبالغ طائلة لترخيص المحتوى. ولكنها مشكلة لن تؤرق OpenAI عمومًا بفضل الدعم المالي الضخم من ميكروسوفت.

طالع أيضًا: فقاعة الذكاء الاصطناعي تنفجر | كيف صبغ اللون الأحمر بورصات العالم؟

البيانات نفط القرن الواحد والعشرين!

لمواجهة هذه التحديات؛ بدأت بعض الحكومات والجهات التنظيمية في وضع سياسات جديدة لتعزيز المنافسة. هذه قد تشمل قوانين لتسهيل نقل البيانات بين المنصات المختلفة، أو فرض قيود على كيفية استخدام الشركات الكبرى لبياناتها، أو حتى النظر في تفكيك بعض الشركات العملاقة.

وهنا نذكر جوجل التي قد تواجه هذا المصير في الفترة المُقبلة؛ خاصةً إذا فاز الفريق الأحمر بقيادة دونالد ترامب وجيمس ديفيد فانس في الانتخابات الرئاسية الأمريكية نوفمبر القادم. إذ ترى حملة ترامب أن جوجل قد بالغت في احتكارها للعديد من الخدمات التقنية الموجودة على الساحة.

طالع أيضًا: الديمقراطية الرقمية | التقنية تحكم المشهد السياسي الأمريكي!

«حان وقت تفكيك جوجل» – جيه دي فانس نائب المُرشح الأمريكي دونالد ترامب.

كش ملك: حكم تاريخي ضد جوجل!

منذ أيام أصدرت محكمة فيدرالية أمريكية حكمًا يقضي بأن شركة جوجل قد انتهكت قانون مكافحة الاحتكار؛ تحديدًا في مجال محركات البحث وسوق الإعلانات. وقد أصدر القاضي الأمريكي أميت ميهتا هذا الحُكم بعد محاكمة دامت عشرة أسابيع؛ ليتوصل في النهاية إلى أن جوجل تصرفت كمحتكر للحفاظ على هيمنتها على السوق؛ مخالفةً بذلك المادة الثانية من قانون شيرمان، أو ما يُعرف بقانون مكافحة الاحتكار (Sherman Antitrust Act).

يُمثل هذا الحكم انتصارًا كبيرًا لوزارة العدل الأمريكية التي اتهمت جوجل باحتكار سوق البحث منذ عام 2020. ورغم أن القاضي لم يوافق على جميع حجج الحكومة؛ فإنه أقر بأن جوجل تحتكر «خدمات البحث العامة» وخدمات «الإعلانات عبر النصوص العامة للبحث». لم يتم تحديد العقوبات بعد؛ إذ تُحدد العقوبات المُوقعة على جوجل في المرحلة التالية من الإجراءات، والتي قد تتراوح بين الغرامات، أو وقف ممارسات تجارية معينة، وصولًا إلى تفكيك أعمال الشركة للتخفيف من وطأة الاحتكار.

جوجل قد تتعرض إلى التفكيك بسبب انتهاك قانون مكافحة الاحتكار

من جانبها؛ أعلنت جوجل عزمها استئناف الحكم، مؤكدةً أنها تحمي حقها في الحفاظ على محرك البحث الأفضل منذ نشأة الإنترنت، إذ ترى الشركة أن الجهد المبذول في الوصول إلى هذه المكانة يُبرر أفعالها التي تعتبرها الشركة نشاطًا مشروعًا للحفاظ على حقوقها الإبداعية.

وفي المقابل؛ وصفت وزارة العدل الحكم بأنه قرار تاريخي يُحمل جوجل المسؤولية ويمهد الطريق للابتكار أمام الأجيال القادمة. كما يُعد هذا الحكم الأول من نوعه ضمن سلسلة من قضايا الاحتكار التقني المرفوعة من قبل الحكومة الأمريكية في السنوات الأخيرة ضد شركات مثل أمازون وآبل وميتا، ما قد يؤثر بشكل كبير على كيفية تطبيق قوانين مكافحة الاحتكار القديمة على الأسواق التقنية الحديثة في الفترة المُقبلة.

كشفت المحاكمة أيضًا عن تفاصيل جديدة حول حجم المدفوعات التي تقدمها جوجل لشركة آبل لضمان موقعها كمحرك البحث الافتراضي على متصفحات آيفون، والتي بلغت 20 مليار دولار في عام 2022. فالجهات التنظيمية تحاول الحد قدر الإمكان من تعاون الشركات الكبرى، إذ يجعل هذا التعاون المشهد التقني مقتصرًا على شركات معدودة ومعروفة للجميع بالطبع!

عمومًا؛ سيفتح هذا الحكم المجال أمام تغييرات غير مسبوقة في ممارسات الشركات التقنية الكبرى، وقد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد التقني بالكامل في المستقبل القريب.

في النهاية؛ حاولت أن أقدم في هذه المقالة تحليلًا شاملًا عن الوضع الاحتكاري في القطاع التقني؛ الوضع الذي استمر عقودًا منذ ولادة الإنترنت. ويبقى السؤال قائمًا؛ هل تنجح الجهات التنظيمية أخيرًا في وضع حد لهذه المهزلة؟ أم سيبقى الوضع كما هو عليه (كالعادة)؟