بدأت مظاهر تأثير الذكاء الاصطناعي تتجاوز حدود الكتابة والبرمجة والتعلم، لتصل إلى شيء أكثر حميمية وبشرية: طريقة حديثنا اليومية. فبينما كان يُتوقع أن تصبح الروبوتات والمساعدات الذكية أكثر شبهًا بالبشر مع مرور الوقت، يبدو أن ما يحدث هو العكس جزئيًا، إذ بدأ البشر يتحدثون وكأنهم روبوتات.

هذا ما كشفته دراسة حديثة أجراها معهد ماكس بلانك للتنمية البشرية في برلين، والتي توصلت إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي، وعلى رأسها ChatGPT، لا تغير فقط أسلوب الكتابة، بل بدأت تؤثر أيضًا في أنماط الكلام واستخدام المفردات في الحياة اليومية.

كلمات ChatGPT تتسلل إلى أحاديث الناس

كشفت الدراسة عن ارتفاع ملحوظ ومفاجئ في استخدام كلمات يفضلها نموذج ChatGPT، مثل delve وcomprehend وswift وmeticulous، بعد فترة وجيزة من إطلاقه. وأوضحت أن هذا التحول اللغوي يعكس سيناريو غير مسبوق، حيث بدأت النماذج التي تدربت على بيانات بشرية في إنتاج سمات ثقافية جديدة، ثم يعيد البشر تبني تلك السمات، لتكتمل بذلك حلقة التأثير العكسي.

أشار الباحثون إلى أن الدراسات السابقة كانت قد رصدت تغيرات في اللغة المكتوبة بعد انتشار استخدام ChatGPT، لكن الدراسة الجديدة تركزت على اللغة المنطوقة، وهو مجال أكثر قربًا من السلوك الإنساني الطبيعي.

تحليل شامل للبودكاست ومقاطع الفيديو

اعتمدت الدراسة على تحليل ملايين الصفحات من النصوص المكتوبة، مثل الرسائل الإلكترونية والأبحاث والمقالات، حيث طلب الباحثون من ChatGPT تحسينها لغويًا، ما كشف عن الأنماط اللغوية التي يفضلها. بعد ذلك، تم تحليل أكثر من 360 ألف مقطع فيديو على يوتيوب، إلى جانب 771 ألف حلقة بودكاست مسجلة قبل وبعد إطلاق ChatGPT، بهدف قياس مدى تغير استخدام هذه المفردات.

كانت النتائج لافتة، فخلال 18 شهرًا فقط، لاحظ الباحثون زيادة كبيرة في استخدام كلمات معينة ليست فقط في النصوص المعدة مسبقًا، بل أيضًا في المحادثات العفوية واليومية. هذا ما أثار نقاشًا واسعًا حول التأثير الثقافي واللغوي العميق الذي قد يخلفه الذكاء الاصطناعي.

تقليد الآلة بدلًا من تقليد البشر

لطالما كان من الطبيعي أن يتأثر البشر بلغات المسلسلات أو الأفلام أو حتى الشخصيات المؤثرة على وسائل التواصل. لكن هذه المرة، المصدر مختلف تمامًا: نموذج لغوي مبني على الذكاء الاصطناعي.

يرى الباحث المشارك في الدراسة، ليفين بريكمان، أن الناس لا يقلدون الجميع، بل يقتبسون عن من يرونهم مرجعية موثوقة أو شخصيات مؤثرة. وبما أن ChatGPT اكتسب في نظر المستخدمين مكانة معرفية عالية، فقد أصبح تقليده أمرًا طبيعيًا، خاصة بين من يعتبرونه أداة موثوقة في التعليم أو الكتابة أو حتى التفكير.

مخاوف من تآكل التنوع اللغوي والثقافي

حذرت الدراسة من أن هذا التأثير المتزايد قد يؤدي إلى تآكل التنوع اللغوي والثقافي. فحين يبدأ الملايين في استخدام مفردات وآليات تعبير موحدة مصدرها روبوتات، تضعف الفروقات بين الأساليب المحلية والثقافية، ويصبح الخطاب أكثر تجانسًا من أي وقت مضى.

كما عبر الباحثون عن قلقهم من أن اعتماد البشر على كلمات تنتجها الآلة، قد يؤثر في مفاهيم أعمق مثل تبادل الأفكار، والهوية الاجتماعية، بل وحتى فهم السلطة المعرفية.

أنماط لغوية تختلف باختلاف النماذج

على الرغم من أن الدراسة ركزت على ChatGPT، فإنها أشارت إلى أن نماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى مثل Gemini من جوجل أو Claude من Perplexity تستخدم مفردات مختلفة، تعكس أساليب تواصل مميزة. فبينما يفضل ChatGPT أسلوبًا رسميًا أكاديميًا، يتجه Gemini نحو أسلوب أكثر ودية وعامية، كما أنه يستخدم كلمات أبسط في الشرح مثل sugar بدلًا من glucose.

أما نموذج Grok التابع لإيلون ماسك، فلم يشمله البحث، إلا أن له طابعًا ساخرًا وميلًا إلى الفكاهة، وهو ما ظهر في حادثة أخيرة أثار فيها الجدل بعد أن أدلى بتعليقات زُعم أنها مسيئة، أرجعتها الشركة إلى خلل في تحديث البرمجيات.

الذكاء الاصطناعي يكتب لغتنا الجديدة

وصفت الدراسة هذا التغير اللغوي بأنه تطور تاريخي غير مسبوق، لأنه يمثل المرة الأولى التي تبدأ فيها الآلات بتشكيل ثقافتنا البشرية بوضوح. فبدلًا من أن تكون مجرد أدوات تعكس ما نكتبه أو نقوله، أصبحت تخلق لغة خاصة بها، ثم يتبناها البشر في حياتهم اليومية.

يمثل هذا التحول تحديًا جديدًا أمام علم النفس اللغوي وعلوم الإدراك، حيث بات من الضروري فهم كيف يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي أن تشكل التفكير البشري، وتعيد تشكيل الهويات الثقافية واللغوية للأفراد والمجتمعات.

ربما لم نعد فقط نستخدم الذكاء الاصطناعي، بل بدأنا نعيش في عالم تُعاد فيه صياغة اللغة والمعنى من قبل آلات دربناها نحن، ثم بدأت تُعيد تشكيلنا نحن أيضًا.